شخصية وطنية عرفت بنضالها الفني والثقافي طيلة أربعين سنة من العطاء، حملت على عاتقها قضية كفاح للرقي بالمشهد الثقافي الجزائري فأبدعت لحنا وكتبت وطنا وفضلت المكوث في أرض الشهداء، رغم ما كان، ليتبناها التاريخ ويصنع منها أسطورة التلحين بالجزائر فتحظى بإعجاب كبير من كبار أعمدة الفن العربي ليتوقع لها صباح فخري بأنها سترث مجد الأغنية العربية، وتطلق العراق قاعة على اسمها تكريما لعبقريتها، ونحن نحتفي بذكراك أيها الفنان المبدع سنتوقف عند أهم إنجازاتك انطلاقا من رحلتك إلى بلاد الرافدين التي شكلت بها الاستثناء إلى أهم إنجازاتك لهذا الوطن الحبيب في مسارك النضالي، علنا ندرك كيف نصنع مجد الأغنية الجزائرية من بعدك. الطالب الجزائري الذي شكل الاستثناء بالعراق وإطلاق إحدى قاعات المعهد على اسمه لم يكن منتهى حلم الموسيقار محمد بوليفة عندما تحصل على منحة دراسية إلى بغداد الحصول على الدرجة العلمية والشهادة الفنية فحسب، بل كان يطمح إلى توسيع أفاقه في مجال الموسيقى وتنوعاتها في الفضاء العربي، لذا لم تكن تجربته الدارسية بالعراق إقامة سائح، بل كانت ملحمة اجتهادية مجدية أعطته مكانة رفيعة قلّ من فاز بها في اتحاد الكتاب بالعراق وبشارع المتنبي، أين المخطوطات النادرة والكتب القيمة أولائك الذين كانوا يعرفونه كمثقف وفنان يفقه في شتى صنوف المعرفة من أدب وسياسة واجتماع، كما كانت له مكانة أيضا بقصر الثقافة ببغداد، محمد بوليفة كان طالبا مناضلا ووطنيا أينما حل وحيثما ارتحل، لذا كانت له عدة مبادرات تنظيمية بالخارج تُعنى بقضايا وشؤون الجزائريين على رأسها تأسيسه بالعراق لاتحاد الطلبة الجزائريين ليوّحدهم ويجمع شملهم وكلمتهم، وكان ذلك بمعية الدكتور محمد الزغيدي الباحث في التاريخ اليوم، مما جعلهما محل تقدير واحترام خاصين وقتها، فكان محمد بوليفة بسحر ألحانه وأنغامه أنيس وحدتهم وزارع دفئ الحنين إلى أرض الوطن في صدورهم.. محمد بوليفة استطاع أن يشكل الاستثناء وأن يكون محطة راسخة في التجربة الموسيقية الجزائرية عند أساتذته العراقيين، وهذا بفضل عبقريته الفطرية وتمكنه من الطبوع الغنائية العربية ومقاماتها المتنوعة بشكل مذهل ومثير للدهشة، فكان يتم اللجوء إلى بوليفة لتجاوز كل المصاعب الفنية في وضع الألحان للنصوص الشعرية وعزف المقاطع الموسيقية التي كانت تصعب على نظرائه، وهو ما دفع بالمجلس العلمي للكلية بأن يقرر نقل ابن الجزائر الموهوب مباشرة إلى السنة الثالثة دون المرور بالسنة الثانية، فعوض أن يدرس ستة سنوات درس أربعة اعترافا بعبقريته حتى بات قدوة لباقي الطلبة العرب من بينهم الفنان الرمز والعازف العالمي الأول على آلة العود نصير شمة الذي أسرّ في إحدى المرات بأنه كان يسترق السمع منه عند عزفه على آلة العود، لتخلد ذكرى محمد بوليفة هناك بإطلاق اسمه على إحدى قاعات المعهد تسليما واعترافا بقدراته الاستثنائية.
كيف كسرمحمد بوليفة الحاجز بين المتلقي البسيط والأغنية العربية الفصيحة بالجزائر؟وهل من خليفة لاستكمال رحلة الإبداع والرقي؟ ما يسجل لبوليفة القضية أيضا هو نجاحه غير العادي في ردم الهوة السحيقة التي كانت بين المتلقي البسيط والأغنية العربية الفصيحة وكان ذلك على رأس أولوياته، مذ عاد من بلاد الرافدين، واستند في ذاك بطبيعة الحال إلى العبقرية الاستثنائية التي كان تحلى بها عند انتقاء النصوص الشعرية، نظرا لمؤهلاته الثقافية والعلاقة القوية التي كانت تربطه بكبار الأدباء والشعراء العرب، فيذكرنا شخصه بخالد الهبر، مارسيل خليفة وكوكب حمزة الذين شكلوا اتجاها موسيقيا خاصا، معتبرين أن الموسيقى لا تكتمل إلا بنص شعري متميز، فلحّن لمحمود درويش الأغنية السياسية ومفدي زكريا الأغنية الوطنية وسليمان جوادي الأغنية العاطفية، وكذا سميح القاسم وعز الدين ميهوبي وعمر البرناوي وغيرهم من فطاحلة الشعراء، ألحان استهوت بجمالها ورقتها وأصالتها ذوق العامة، حتى صارت مما يُردد في مجالس الأنس العامة، أو حتى حين يجتر الفرد ما بذاكرته الموسيقية في لحظة امتاع ذاتي، من مثل أغنية عاد القطار، احبك، ماقيمة الدنيا، بلادي وغيرها من الروائع الغنائية التي ارتقت بالذائقة الجزائرية ووجدت لها مكانة حتى في الإذاعات العربية، مما يجعلنا نتساءل هل من متحديا ومتمكنا ومستعدا لتبني الأغنية الفصيحة للرقي بالمتلقي الجزائري من جديد في ظل اكتساح أغنية الراي؟ هذا ما نأمل أن نراه في السنوات القادمة.
هل سيكون للأوبرات ملكا بعد وفاة الموسيقار محمد بوليفة عندما تبنى محمد بوليفة الأغنية الفصيحة وتماشت مع الذائقة الجزائرية بمجملها لسنوات طوال، أتت موجة الراي لتستبيح فضاء فن الغناء الجزائري النقي، وساعتها وجد بوليفة المناضل صاحب القضية نفسه في مواجهة غير متكافئة مع قوى التغريب الثقافي، فسعى إلى إيجاد مخرج ينقذ ما تبقى من أصيل الفن الجزائري، حيث خاض التحدي بكل ما استطاع من قوة فاتجه إلى تلحين الأعمال الكبرى من أوبرات وملاحم واستعراضات غنائية بمقاييس عالمية، فكان الحدث المدوي أن ارتقت الجزائر إلى مصاف الدول التي شهدت تطورا وارتقاء في تاريخها الفني لتكون لها جوازا دوليا ويلقب الموسيقار محمد بوليفة بملك الأوبيرات بجدارة، ونذكر من هذه الأعمال ملحمة الجزائر حيزية، نوبة في الأندلس، رحلة حب، قال الشهيد علي معاشي.. وغيرها من الإنجازات الهادفة التي كانت جميعها من إنتاج الديوان الوطني للثقافة والإعلام بحرص من مديرها لخضر بن تركي، فهل يا ترى سيأتي من سيتربع على عرش الأوبيرات بعد رحيل ملكها؟ هذا ما يجب أن تسعى إليه جاهدة الساحة الفنية الثقافية الجزائرية والشخصيات القائمة عليها لاستكمال رحلة النضال الفني والقضية التي تبناها الموسيقار محمد بوليفة وحقق منها مرحلة متقدمة جدا بقدرات فنية استثنائية وثقافة واسعة ورحلة بحث عميقة وخبرة سنين طوال لتكون مرجعا لأسماء عربية هامة، أصبحنا نستعين بهم اليوم، ولعل هذا ما يحتم علينا تدوين مؤلفاته الموسيقية المتفردة، كما اقترح كبار الموسقيين الجزائريين.
محمد بوليفة المؤسس ليوم الفنان محمد بوليفة هذه الظاهرة الفنية المتفردة هي من كانت تصنع المناسبات وليس العكس، مما هو حاصل في مشهدنا الفني اليوم، فكان يتساءل، كيف لنا أن نسمع عن الكثير والكثير عن فيكتو جارا والشيخ امام وليندة دي سوزا، ونجهل شهيدنا الشامخ علي معاشي الذي ناضل وواجه المستعمر، بما أمكنه من وسائل كان أقواها القلم والنغم. فما كان على هذا المبدع الثائر إلا أن يتجه إلى مدير الديوان الوطني للثقافة والإعلام لخضر بن تركي، حيث عرض عليه فكرة إنجاز أوبيرات حول الشهيد علي معاشي لينجز العمل بعدها، ويعرض بعد تحديات كبيرة فيحقق نجاحا باهرا ويصبح يوم 8جوان الموافق لذكرى وفاة الشهيد علي معاشي يوما وطنيا للفنان تخصص له جائزة قيمة وهامة من طرف رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة.
رسالة إلى معالي وزيرة الثقافة خليدة تومي اليوم إذ نحتفي بذكرى وفاتك الأولى أيها العظيم المثقف والخلوق المتواضع فإننا لا نكاد بحق نحصي عطاءاتك لهذا الوطن المجلى عبر مشوارك النضالي والابداعي في سبيل ترسيخ وتطوير الثقافة الوطنية بكل أبعادها المتأصلة، فشكرا لك من صميم القلب على ما بذلت وما أبدعت بمساعيك الحميدة ليصبح للفنان الجزائري عيدا وطنيا يحتفل به، وأضحت للجزائر ذررا فنية ماتعة ولا معة بأعمالك الفنية الكبرى من أوبيرات وملاحم واستعراضات غنائية استطعت أن تشكل بها مرحلة فارقة في تاريخ الفن الجزائري، فحزت بها على جوائز دولية ستظل شاهدة على عبقريتك الابداعية ومرجعا فنيا وطنيا، شكرا لأنك قاومت آلة الموت حين فضلت البقاء في بلد الشهداء أثناء العشرية السوداء رغم الضغوطات، بل والتهديدات التي كنت عُرضت لها في غير ما مرة، ورغم العروض المغرية التي جاءتك من الدول العربية التي أذهلتها بفنك فإذ بك أبدعت أرقى الأعمال الوطنية التي تبعث فينا الأمل من جديد مستجيبا لنداء الوطن.. شكرا لأنك كنت نعم الإطار، فكوّنت أجيالا تشكل اليوم قاعدة لإعادة بعث المشروع الثقافي والفني الذي لطالما حلمت به، شكرا على أنك لم تأبى الرحيل عنا إلا بعد أن خلفت لنا أعمالا وطنية تعيد لنا معنى الذكريات الوطنية، كما في احتفالية خمسينية الاستقلال كدأبك في المناسبات الوطنية برغم المرض الذي كان يتآكلك وينهش جسدك.. شكرا لك يا شهيد الفن الأصيل. فباسمي أنا الصحفية بوليفة نغم كريمة هذا الهرم الفني وباسم العديد من الشخصيات الأدبية والفنية والإعلامية الهامة، نتقدم بهذا الطلب إلى معالي وزيرة الثفافة خليدة تومي المتضمن اقتراح تسمية المعهد الوطني للموسيقى على اسم الموسيقار محمد بوليفة وتدوين مؤلفاته الموسيقية النادرة لتكون مرجعا تستنير بها الأجيال الصاعدة في دربها الإبداعي علنا نجد خليفة هذا الموسيقار الأسطورة محمد بوليفة.