أغلب الكتابات التاريخية تؤرخ لبداية الفتنة الكبرى من مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه، وتذهب بأسباب الفتنة إلى ظهور حالة "ثورية" انطلقت من الأقاليم المتصلة مع الإمبراطوريتين المهزومتين: إمبراطورية الروم غربا، وإمبراطورية فارس شرقا، بحكم أن "الثوار" انطلقوا من مصر غربا، ومن البصرة والكوفة شرقا، وقد ساعد على رسوخ هذه القناعة تتابع الفتن بين المسلمين بعد مقتل الخليفة عثمان، بدءا بالاقتتال البيني في موقعة الجمل ثم صفين، ودخول الخلافة في عهد علي رضي الله عنه في صراع مزدوج مع الخوارج من جهة، ومع إقليم الشام بقيادة معاوية الرافض لبيعة علي، حتى وإن كان لم يعلن صراحة قيام إمارة إسلامية، أو خلافة منافسة للخلافة الشرعية وقد انتقلت عاصمتها إلى الكوفة. غير أن الباب الذي كان يمنع قيام الفتنة كان قد كسر كما سبق الذكر مع اغتيال الخليفة عمر، وسوف ينتهي المسار باغتيال الخليفة علي ست سنوات بعد "اغتيال" الخليفة عثمان، وأفضل استعمال عبارة "اغتيال" في الحالات الثلاث لأنها استهدفت رأس الخلافة، ومن خلاله كان استهداف الخلافة الراشدة المؤسسة على الشورى التي سمحت لجيل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمن قياسي ليس فقط توسيع رقعة الإسلام من الأندلس غربا إلى الحدود الشرقية لإمبراطورية فارس شرقا، بل سمحت ببناء دولة نموذجية قائمة على العدل والإنصاف بين رعاياها من المسلمين ومن أهل الكتاب، وأظهرت قدرة فائقة على استيعاب ودمج شعوب وإثنيات وثقافات متنوعة، لم يحدث في التاريخ أن نجحت إمبراطورية ما في دمجها كما فعلت الخلافة الإسلامية في عهد الخلفاء الأربع، شعارها الحديث النبوي الشريف "لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى" تحتكم في خصوماتها وفي كل الأحوال للآية: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ _ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى_ أَلَّا تَعْدِلُوا _ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى_ _ وَاتَّقُوا اللَّهَ _ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (المائدة الآية 8 ) ثم إن الخلافة الراشدة وهي تجسد مبادئ الحكم الإسلامي قد أسقطت كثيرا من الطواغيت، وفككت مع إسقاط اثنين من أعظم الإمبراطوريات طائفة من العلاقات السلطوية القبلية، ومواطن النفوذ التقليدية المالية والدينية، وضربت في مقتل المنظومة الربوية، فضلا عن تقويض أركان المؤسسة الإقطاعية الأسيوية المستبدة ونظام العبودية، فهي لم تهدم الإمبراطوريات وحررت شعوبها من الاستبداد فحسب، بل قدمت للشعوب التي دخلت الإسلام، وللشعوب المجاورة، قدمت لها نموذجا جديدا من العلاقات بين الحاكم والمحكوم، كان له الفضل الأول في سرعة فتح البلدان، واعتناق الناس للدين الجديد. والحال كان لا بد أن تتحرك القوى المهزومة من مخلفات الإمبراطوريات، وسدنتها والمنتفعين منها، ومعهم شبكة مركبة من رجال الدين: المجوس، واليهود، والمسيحيين، فضلا عن القيادات القبلية والعشائرية التقليدية في بلاد العرب كما عند الأعاجم، خاصة وأن كثيرا منهم قد دخل الإسلام، وكانوا كما وصفهم طه حسين "منهم من كان مخلصًا لله سبحانه وتعالى في إسلامه، ومنهم من كان موتورًا يريد الانتقام من الإسلام الذي هدم ديانته، وقضى على دولته، كما كان حال بعض اليهود والفُرس، كما ساد الميل إلى الدنيا في نفوس كثير من المسلمين، فركن بعضهم إلى الدنيا وزينتها". من صفوف هؤلاء الموتورين سوف تخرج اليد المنفذة لأول هجوم صريح على الخلافة، لتكسر الباب التي كانت موصدة أمام الفتنة في عهد الخليفتين أبو بكر وعمر، فكان اغتيال الخليفة عمر على يد واحد من غلمان المجوسي أبو لؤلؤة فيروز الفارسي الذي سوف يتخذ له مزارا بطهران يتردد عليه الشيعة ويترضون عليه.