لقد ذهبت كثير من الكتابات الحديثة، توجهها كتابات المستشرقين، إلى تصوير "الفتنة الكبرى" كحالة صريحة من " تقاتل" صحابة رسول الله على السلطة، وهي فرية خالصة لا تصدقها الوقائع، على الأقل حين يتعلق الأمر بمقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه، وحتى واقعة الجمل، التي لم يكن أبطالها ينازعون الخليفة علي رضي الله عنه الخلافة، وقد حمل عبء الخلافة بعد مقتل الخليفة عثمان وهو راغب عنها، وأن الجماعة من "الثوار" القادمين من مصر والبصرة والكوفة، لم يكونوا حاملين لمشروع بديل عن الخلافة، بدليل أنهم ظلوا، بعد ارتكابهم جريمة قتل الخليفة، يطوفون على كبار الصحابة بالمدينة يعرضون عليهم الخلافة كما سنرى في حينه. لأجل ذلك أردت من خلال الحلقات السابقة حول "الخلافة" أن أثبت حالة الإجماع التي سادت بين الصحابة، والتفاهم حول الخلفاء أبو يكر وعمر وعثمان، بمن فيهم علي الذي سوف يلفق الرواة الشيعة أخبارا كاذبة حول امتناعه البيعة لأبي بكر لأكثر من ستة أشهر، وقد رأيناه إلى جانب الخلفاء الثلاثة وزيرا ومستشارا يقول عنه الخليفة عمر: "لولا علي لهلك عمر" كما كان حال كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، وأنه حتى قيام واقعة "صفين" فإن "مؤسسة الخلافة" لم تكن مستهدفة، لا من حيث طرق اختيار ومبايعة، الخلفاء، ولا من حيث اجتهادات الخلفاء في ابتكار وتنظيم مؤسساتها، ولم تشهد لا خلافة أبي بكر ولا خلافة عمر أي صراع على السلطة كما زعمت كتابات المستشرقين والشيعة، وبعض الكتاب العلمانيين. موطن الشبهة الأول سوف يظهر في قراءة أحداث مقتل سيدنا عثمان بالترويج لروايات معظمها ملفق، تدعي أن من "ثار" كان بتحريض من بعض صحابة رسول الله، مثل عمار بن ياسر وأبو ذر، وقد سوقوا لهذه الفرية بما نقل عن هؤلاء الصحابة من انتقادات لبعض سياسات الخليفة عثمان رضي الله عنه، ومنها ما كانت له صلة بتولية بعض رحمه من بني أمية، في حين أحصي منهم أربعة فقط من بين سبعة عشر واليا، كما ساعد على رواج روايات عن اتساع سلطان ونفوذ بني أمية في الشام تحت إمرة معاوية، على منح قدر من الوجاهة الظاهرة سخرت للتسويق لفكرة "الصراع على السلطة" وكأهم وأبرز عامل تفجير للفتنة. منذ نهاية عصر الفاروق عمر رضي الله عنه بدت ملامح التغير في المجتمع المسلم واضحة للعيان، فقد اتسعت الفتوحات، وفاض المال بين المسلمين، ودخل فيهم عناصر عرقية وثقافية جديدة من البلاد المفتوحة، سرعان ما مثَّلت الأغلبية في بحر سنوات قليلة، وكانت هذه الغالبية كما يقول طه حسين "منها من كان مخلصًا لله سبحانه وتعالى في إسلامه، ومنها من كان موتورًا يريد الانتقام من الإسلام الذي هدم ديانته، وقضى على دولته، كما كان حال بعض اليهود والفُرس، كما ساد الميل إلى الدنيا في نفوس كثير من المسلمين، فركن بعضهم إلى الدنيا وزينتها" وكانت اليد من حديد التي أدار بها الخليفة عمر شؤون الدولة قد حالت دون ظهور الفتن وأهلها في وقت مبكر، ولم تكن تلك المستجدات لتمر على رجل دولة عبقري محنك مثل عمر بن الخطاب، الذي عانى كثيرا مع هؤلاء الداخلين حديثًا، ومع المتآمرين، ومثله مع المائلين للدنيا؛ ويروى: أنه مدَّ يديه إلى السماء، ودعا الله عز وجل قائلاً: "اللهم كبُرَت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيِّع ولا مفرط" وكان الصحابة على علم بما أنبأهم سيد المرسلين من فتن قادمة، كان الصحابة يتوقعونها ويتحرون الأخبار بشأنها، وازدادوا خوفا من وقوعها بعد مقتل الخليفة عمر الذي كسر باب الفتنة، فلا غرابة أن يكون لقاتله حتى يومنا هذا مقام ومزار بقلب طهران، ويترضى عليه عموم الشيعة. (يتبع)