محمد الهادي الحسني لا أقصد بكلمة الفقيه معناها الاصطلاحي، الذي يعني العالِم بالأحكام الشرعية، ولكنني أقصد بها المعنى اللغوي الذي هو الفَهِم ُ للأمور، المدرك للقضايا، الواعي بما يجري حوله. وهذا المعنى اللغوي هو المقصود في قوله تعالى: »رضوا بأن يكونوا مع الخَوالِفِ، وطُبِع على قلوبهم فهم لا يفقهون« (صورة التوبة الآية 87). وهو -أيضا- المعنى المقصود في مثلنا الشعبي القائل: »أعطه لي فاهم، والله لا قرا«، أي أريده فَهِما ولو لم يقرأ. إن الفقيه الذي أعنيه هو من كان يُدعى الشاب جلول، الذي كان إلى عهد قريب للشيطان وليا، وللرحمن عصيا، حيث كان ممن جرفتهم هذه الموجة القذرة المسماة »الرّاي«، التي غمرت الجزائر الطاهرة، فلوّثت جوّها، وكدّرت صفوها، وشوّهت اسمها، ودنّست عرضها، وأشاعت فيها الكلام الدّاعر، ونشرت فيها الخُلُقَ العاهر، وأفسدت كثيرا من شبانها وشاباتها، بل لم ينجُ من أوضارها، ولم يسلم من أقذارها حتى من يزعمون أنهم كبار، وهم أصغر من الصِّغار، ويظنهم الأغرار من الأخيار، وما هم إلا من السِّفْلِة الدُّعّار، ويحسبونهم من الأبرار، وما هم إلا أرذالُ نُعّار. لقد صحا أخونا جلول من غفلته، وأفاق من غفوته، فتاب إلى الله متابا، فعسى أن يجزل له ثوابا، اهتدى إلى الطيب من القول، والصالح من الفعل، وابتعد عن ذلك الجو الموبوء، وهجر ذلك المحيط المأفون، وطهّر لسانه من ذلك الكلام النَّتين. لقد فرحت - علم الله- بتوبة الأخ جلول، وكيف لا أفرح وأنا العبد الصغير إذا كان الله - العلي الكبير- أشد فرحا بتوبة عبده. فقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: »لَلَّه أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا، وبه مهلكة، ومعه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه، فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فرجع، فنام، نومة ثم رفع رأسه. إذا راحلته عليها زاده وطعامه وشرابه، فاللَّه أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته« (متفق عليه). إنني أهنئ الأخ جلّولا على تبَيُّنِه الرشد من الغيّ، واسبتداله الذي هو خير بالذي هو أدنى، وتغَلُّبِه على شقوته، وانتصاره على قرينه، وسيطرته على شهوته، وأدعو مقلّب القلوب أن يثبت قلبه على ما آل إليه من خير، لأن الشيطان لن ييأس منه، وسيأتيه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، وسيجلب عليه بخيله ورجله، وسيزين له الغرور، ليرجعه إلى الفجور، وليعيده في ملته. وأذكر الأخ جلولا بأنه سيسمع من إخوان الشياطين، الذين يَوَدّون أن يضل الناس كما ضلوا، ويحبون أن تشيع الفواحش في الذين آمنوا، أذى كثيرا، وسيسمع - أيضا- من الذين يزكّون أنفسهم غمزا كبيرا، مثل : »علّمناه الصلاة سبقنا للزربية« فأوصيه بالصبر الجميل، والاستعانة بالجليل. لقد وصفت الأخ جلولا بالفقيه لأمرين اثنين هما: 1) إنه ذو بصرٍ حديد، ورأي سديد، حيث عقَل أنَّ ما كان يقوم به هو ضلال بعيد، وأمر غير رشيد، فأقلع عنه، وتاب منه، رغم أنه ما يزال في مرحلة الشباب، التي تتميز بطغوى الهوى، وسطوة الشهوة، في حين نرى أناسا بلغوا من الكِبَر عتيّا، وابتعدوا من مهودهم، واقتربوا من لحودهم، وغاض الماء من وجوههم، وتخشبت جلودهم، ولكنهم ما يزالون في غيّهم يعمهون، وفي ضلالهم يلعبون، وعلى المزابل كالذباب يترددون،. 2) إن الأخ جلولا لم يكتف بإقلاعه عما كان عليه من غواية، ولم يقل: »عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم«، ولكنه راح يجتهد في إنقاذ من ما يزالون في قبضة الشيطان، يعدهم ويمنّيهم، ويشيع على ألسنتهم الفواحش، ويتخذهم سُخْرِيا في إضلال العباد، وإفساد البلاد، حيث ذكرت جريدة »الشروق اليومي« في 14 - 1 - 2008، أنه تحول إلى داعية إسلامي، وأنه يطوف مع إمام على الملاهي الليلية، ينتظر الفنانين أمام باب الملهى قبل أن يدخلوا ويقدم لهم نصائح التوبة. سيقول أناس نعرفهم بكثرة الجدل وقلّة العمل: ما شأن هذا »الجلّول« بالدعوة؟ وما هو مبلغه من العلم حتى يخوض في هذا الأمر؟ وسيسْلِقونه بألسنتهم الحداد كما سلقوا الأخ عمرو خالد، وسيرمونه بنظراتهم الشزراء. إن هذا القول دليل على قصورهم في فهم الدعوة إلى الله عز وجل، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إن الأخ جلولا أعقل من أن يخوض في مسائل العقيدة، وأحكام العبادات والمعاملات، وقد احتاط لهذا فاتخذ إماما خليلا، كما جاء في جريدة »الشروق اليومي«، ولكنه سيقول للناس: كنت ضالا فاهتديت، وكنت مُتجانِفا لإثم فاستقمت، وكنت غافلا فصحوت، وكنت عابثا فارْعَوَيت، وكنت غوِيا فرَشُدت، وكنت بورا فصَلُحت.. فهل عليه من سبيل إذا قال هذا، ودعا الناس إلى أن يقتدوا به؟ إن أناسا كثرا يظنون أن الدعوة إلى الله -عز وجل- لا تكون إلا من عالم بالأمور الفقهية، ولا تتم إلى في المساجد.. وهذا تضييق لما وسعه الله، وتقييد لما أطلقه الله. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على الناس، ويأتيهم إلى مجالسهم، ومنتدياتهم، وأسواقهم ولم ينتظر حتى يأتوه. وكذلك فعل الذين استنّوا بسنته، واهتدوا بهديه من صالح المؤمنين، وكم من بلد دخل أهله في دين الله بفضل تاجر بسيط، أو سائح حَطيط. وللإمام عبد الحميد بن باديس في هذا المجال كلام نفيس، حيث قال في تفسيره لقوله تعالى: »قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله، وما أنا من المشركين«. »على كل مسلم أن يكون داعيا إلى الله.. فالمسلمون - أفرادا وجماعات- عليهم أن يقوموا بالدعوة إلى الله، فمن الدعوة إلى الله دروس العلوم كلها مما يفقّه في دين الله، ويعرّف بعظمة الله، وآثار قدرته، ويدل على رحمة الله، وأنواع نعمته. فالفقيه الذي يبيّن حكم الله وحكمته داعٍ إلى الله، والطبيب المشرِّح الذي يبيّن دقائق العضو ومنفعته داعٍ إلى الله، ومثلهما كل مبيّنٍ في كل علم وعمل«. وكثيرا ما أَعجَب من طلاب يتركون كليات الطب، والهندسة، والعلوم ويأتون لكليات الشريعة، وعندما يُسألون عن سبب تركهم لهذه الكليات -ومنهم من أوشك على التخرج منها- وحرصهم على الالتحاق بكليات الشريعة يجيبون بقولهم: نريد أن نكون دعاة إلى الله، كأن الدعوة إلى الله حصْرٌ في خريجي كليات الشريعة!! ويضيف الإمام ابن باديس في شرحه للآية الآنفة قوله: »ومن الدعوة إلى الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة بدون استثناء، وإنما يتنوع الواجب بحسب رتبة الاستطاعة.. ومن الدعوة إلى الله ظهور المسلمين -أفرادا وجماعات- بما في دينهم من عفة وفضيلة، وإحسان ورحمة، وعلم وعمل، وصدق وأمانة، فذلك أعظم مُرغِّب للأجانب في الإسلام، كما كان ضِدُّه أعظم مُنفِّر لهم عنه، وما انتشر الإسلام أول أمره بين الأمم إلا لأن الداعين إليه كانوا يدعون بالأعمال كما يدعون بالقول، ومازالت الأعمال عيارا على الأقوال، ومن الدعوة إلى الله بعثُ البعثات إلى الأمم غير المسلمة، ونشر الكتب بألسنتها.. فعلى كل مسلم أن يقوم بما استطاع منه في كل وجه من وجوهه(1)«. إن الذين »لا يفْقَهون ولا ينْقَهون« (2)- ولو أوتوا علم الأولين والآخرين- هم الذين سيبسطون ألسنتهم في الأخ جلول، ويقولون عنه: لقد جاء شيئا فرِيّا، واقترف أمرا إدّا، وما يفعلون ذلك إلا لأن الأخ جلولا أحرجهم ب »فقهه« العملي، وأظهر قصورهم وتقصيرهم. ونصحيتي للأخ جلول - والدين النصيحة- أن لا يُلقي سمعه لمَاضِغي الكلام، المحتكرين للإسلام، القاعدين والناس قيام، وليواصل الدعوة إلى الله فيما يعلم، سائلا أهل الذكر فيما لا يعلم، لتكون دعوته إلى الله على بصيرة وفهم، والإخلاص الإخلاص هو ملاك الأمر كله. 1) آثار الإمام ابن باديس: ج1. ص60 - 62 2) نَقَهَ: أصله البُرْءُ من المرض على ضُعْف، ويقال أيضا: نَقَهَ الكلامَ إذا فَهِمَه، كأنه بَرِئَ من الشك فيه، ولهذا قال العرب في أمثالهم: »لا يفْقَه ولا ينقه«.