الرئيس تبّون يشرف على مراسم أداء اليمين    اللواء سماعلي قائداً جديداً للقوات البريّة    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    تقليد المنتجات الصيدلانية مِحور ملتقى    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    أكثر من 500 مشاركاً في سباق الدرب 2024    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    فلاحة: التمور الجزائرية تصدر إلى أكثر من 90 دولة    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الملفات التي تمس انشغالات المواطن أولوية    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    "صفعة قانونية وسياسية" للاحتلال المغربي وحلفائه    إحباط إدخال 4 قناطير من الكيف عبر الحدود مع المغرب    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلقة التاسعة: شهرزاد.. حب جزائري في الزمن اللبناني
"بدّه عيشوش" مصريون وعرب في مسيرة القدر
نشر في الشروق اليومي يوم 24 - 02 - 2010

.. اسمي شهرزاد ... هكذا عرفت بنفسها, بعد صمت سبق الإجابة عن سؤال متداول و معروفة نتائجه مسبقا ً في جامعة تتحرك فيها الأنوثة و الذكورة لتلتقيا عند مرافئ اللذات غير المشروعة في الغالب، غير مكترثة لصرخات طهر المكان وقدسيته، و ثقة عائلات وضعتها في المرسلين هنا، ليعودوا إليها محملين دون علمها بأوزار فتنة اجتماعية جنسية ما روعيت فيها الوصايا و لا التحذيرات.
صمتها كان ينيب عنها في الإجابة دائما ً، مكتفية في الغالب بإبداء ابتسامة ٍ كإعلان للموافقة أو حيرة ٍ في تينك العينين الخضراوين كإبلاغ بالرفض لموقف ٍ بعينه، الصمت حماية لها عندما تضطرب المواقف و يتحرك طلبة الجامعة لرفض عام غير مبرر ٍ و لا مقبول منتهين إلى الإضراب ، معتبرين أن تلك بداية الحرية و نهايتها..عندها تقف مشاهدة لما يحدث و شاهدة عليه ، مسندة ً ظهرها إلى جدار المدخل الجامعي، أو إلى المدفأة في الداخل حين يحل الشتاء .
كانت في حاجة ٍ لدفء القرابة الدموية، مع أنها لم تحرم منها، و كان مثلها في حاجة ٍ إليها، وهو أيضا ً لم يحرم منها، و التقيا عند ربوة تلك القرابة ، الحاضرة الغائبة ذات الأفق البعيد، حيث غدا اللقاء مبررا ً في نظر الآخرين ، فنسبت إليه و نسب إليها ، و كذلك اعتقدا, وصدق الوعد بينهما إلى حين ٍ من الوقت، و تحول ذلك التهجين أو الاستنساخ إلى حقيقة ، وطرحت الأسئلة تلو الأخرى من الطلبة، ثم عادوا بعدها محملين بهموم أكبر، فالشبه يقول أنها ليست أخته، لكن شرعية العلاقة ووضوحها تؤكدان ذلك، و انتهت معظم الآراء إلى اعتبارها أخت غير شقيقة, و لم يكن العربي و لا شهرزاد بعيدين عن تلك الآراء التي تحولت إلى حقائق يومية تجلد بأسواط الرفض، أولئك المقتربين منها ، وما أكثرهم !
لم يلجا في طغيانهما يعمهان في تلك العلاقة الواضحة و إنما وظفاها إلى حيث الخير, و إذ كل منهما يحس بالمسؤولية تجاه الخير، إن غاب عنها أو غابت عنه أحسا باهتزاز الأرض مع ثباتها و غيم السماء مع صحوها ، و تغير لمن حولهم مع أنهم ثابتون في الحركة ، و ما كانت تنطق عن هوى حين تراجعها أسئلة العربي أو حين يفرض عليها الآخرون الحديث.
منذ الوهلة الأولى وعند ولادة الذات إجابة لسؤال الآخر و اكتشاف المعرفة ، بدت العلاقة بينهما ذاهبة إلى حيث لا يعلمان ، فقد كانت أكبر منهما ، و قد ظلت هي في صمتها و هو في نطقه ، يسبحان في أمواج الجامعة المتلاطمة باحثين عن مرفأ أمان ، ليكونان عند المنتهى موقف احتجاج عن وضع وطني أو قومي.
عين العربي.. ودفء حياته
علاقة راسخة لكنها متناقضة لجهة التعبير عنها ، فصمتها يفرحه لأن يعبر عن امرأة ناضجة في نظره ، و صخبه يفرحها لأنه يعبر عن مكونات ذاتها ، فالتحدي من سماتها ، لكنها لا تعلن عنه لأنها ترى الوقت غير مناسب و تلك طبيعتها منذ الصغر ، دقيقة في اجتياز الأزمنة واختيارها، و معها تخرج ما في الصدر حين تأتي الفرصة ، لكنها ليست سباقة لذلك ، لأن الآخر سيصل و إن طال الوقت إلى ما تودّه فلماذا البوح أو إتاحة فرصة ٍ لتغيير الاتجاه؟!
في الأيام الأولى تعذر على العربي معرفة اتجاه الريح عندها ، و مع الأيام أدرك رهافة حسها و عشقها للجمال حسب مواصفاتها الخاصة ، و تعودت هي على غضبه السريع ، وأفكاره الجريئة و ازداد تعلقا ً بها حين ميزها في علاقة مقارنة ببنات الجامعة عبر مجال طهر و نقاء و قدسية ، و غيرها مشاع و سقط متاع ,إن تمكن منهن ما ترك فرصة للأيام الخوالي في تلك الحضارة الراقية و الزاهية لعلاقة الأمراء بالجواري في الدولة العباسية .
كانت طالبات الجامعة قد أعدت لها من مكرهن أسئلة تلو الأخرى لمعرفة علاقة ٍ بدت مشبوهة ً لهن ، و كانت تأتي بالإجابة لكل واحدة ً منهن حسب وضعها الطبقي و الثقافي والجامعي ، و تستدعيه بين الحين و الآخر ليخرج عليهن ، فما إن يرينه حتى يكتشفن بعد طول جهد ٍ واهتما م أنها أخته حقا ً .
و بالمقابل كان العربي يسأل في اليوم عشرات المرات و يرد غاضبا ً و بحزم ٍ عن أسئلة ٍ لا يراها بريئة ، و يدعو من استطاع أو كان جاء لخطبتها منه ، محذرا ً في نفس الوقت من الاقتراب منها لأي سبب ، و كان خوف الآخرين منه ، ليس لقوته و إنما لأفكاره يحول دون إعادة الكرة ، و انتهت الأمور بعد سنة من الأخذ و الرد إلى تثبيت وضع ٍ بعينه .
شهرزاد ، عين العربي التي يرى بها ما يدور في مدرجات كلية الحقوق من طرف الدكتور زهير "العراقي "، و يسري " المصري " و عن طريق صديقاتها يعرف نشاط الدكتور حسن ، و هو في ذلك صاحب هدف ٍ نبيل ، فعروبته الطاغية و الغارقة في التحذير الأول من بده عيشوش جعلته يتقصى أخبار كل الأساتذة الشرقيين ، و لاعتقاده الراسخ بحقه في البحث ، كان يستبيح كل كليات الجامعة بحثا ً عن مواقف الأساتذة جزائريينً كانوا أم عربا ً ؟
و لطالما سألته شهرزاد : من يراك و أنت تتبع أخبار أساتذة الجامعة يعتقد أنك رجل أمن ، و بما أنني أعرف كرهك لرجاله و العاملين في مجاله ، فهل لي أن أعرف الهدف ؟
يضحك من سؤالها غير البريء ، ثم يعلق قائلا ً :
إنني مؤرق بعروبتي ، لذلك أبحث عن الأجدى و الأولى اتباعا ً .
لكن ليس لدرجة الهوس و التغيب عن المحاضرات .
الدنيا يا عزيزتي في كل أمورها تأخذ غلابا ً ، و ليس اختيار العروبة -و أنا أتحدث عنها ليس انتسابا ً عرقيا ً و إنما ثقافة ً و فكرا- ً بالأمر السهل .
تستمع شهرزاد لحديثه العذب ، و يسعد هو كثيرا ً من أسئلتها الملتهبة شوقا ً لمعرفة المزيد ، و حين يفترقان في المساء كل إلى حيه الجامعي ، و إلى غايته من الدنيا ، يظل الآخر حاضرا ً في فكره و تصرفاته على أمل اللقاء في اليوم التالي .. و حين يحل الصباح ، يفتح العربي عينيه على صورتها وعلى صوتها و على بسمتها ، فتبدو له الحياة مشرقة ، زاهية ، و ما كان يعرف عنها شيئا ً عندما يحل الظلام أو عندما يشرق يوم جديد .. و إن كان يراها عند بزوغ الشمس في تلك الربوة العالية حيث تقيم جامعة قسنطينة في امتدادها ، تتراءى للناظر من بعيد ، علامة مميزة لمدينة العلم و العلماء ، شمس أخرى ، دافئة حنونة ، تنافس في زرع الدفء , الدفء ذاته ، فيذهب برد الشتاء دون رجعة و يزول صقيع النفس ، و تذوب ثلوج قسنطينة ، التي تتساقط وتتراكم لأيام ، أحيانا ً تطول ، و تغطيها فتبد و بيضاء من غير سوء لا ينقصها سوى الإسكيمو و سكان القطب الشمالي .
لقيط فلسطيني ..أم لقيط زنجي؟
لا ينازعه في أمرها منازع ، و لو فعل لعاد خاسئا ً مدحورا ً ، و عند النقاش ينتهي كمن على رأسه الطير ، تلك حال دائمة في علاقة مستقرة لا تكشف عما وراءها لهما أو للمتربصين بهما، أمثال سعيد الفلسطيني،الذي أزعج شهرزاد عدة مرات .
" سعيد " طالب ً فلسطيني ً ينتمي إلى الجبهة الشعبية، يعتقد أن الحرية في جامعة قسنطينة لا حدود لها، الأصل فيها الإباحة ، و أصبح ذلك شعورا ًعاما ً بين الطلبة الأجانب و ليس الفلسطينيين فقط, تحول مع الأيام إلى مقولة " هذه البلاد نساؤها لعب " ، مع أنها لم تكن مع من غلب ، و لا يجمع أهلها الطرب ، غير أن رد مذموما ً مدحورا ً حين أبلغت شهرزاد أخاها " العربي " بتربصه بها عند المجيء إلى الجامعة أو العودة منها .
لقد قبلت أخطاء و زلات و فساد الطلبة الفلسطينيين في جامعة قسنطينة لنبل القضية ولجاذبية تميزوا بها ، و لجمال بعضهم الأخاذ ، حتى ذلك التصادم بين طلبة الجبهتين الشعبية و الديموقراطية والذي ينتهي أحيانا ً إلى الضرب بالسكاكين كان ينتهي بعد تدخل جزائري إلى اعتباره فوران جماعات ثورية أرقتها الغربة و أبعدتها قرارات العرب عن موقع العمليات .
المال زينة الحياة الدنيا ، و تلك الأموال التي يحصل عليها الطلبة الفلسطينيون من منظمة التحرير الفلسطينية ، و من وزارة التعليم العالي الجزائري كانت زينة ً أيضا ً و تفاخر بالمعاصي ، حتى اعتبرهم البعض يهودا ً أو عملاء لإسرائيل ، و نسجت حولهم أساطير القرون الأولى ، تجاوزت في وصف أفعالهم تلك الليالي الحمراء في كل كازينوهات العالم .
قلة منهم فقط تميزت بنقاء الثورات و صفاء القضية أعطت وجها ً مشتركا ً لقضية عادلة , اختصرت في الطالب " عطا " القادم من غزة ذو الميول الإسلامية ، و الذي من أن يراه المرء حتى يتخيل وجه "أمين الحسيني" مناديا ً للعرب أن دعمونا بالسلاح فقط دون الرجال .. و اتركونا نطبق مقولة "طارق بن زياد" البحر من ورائنا و العدو أمامنا .
" عطا " عطية الله في الكون ، لقد ألهمه تقوى النفس ، فترك للطلبة الفلسطينيين الآخرين فجور الأنفس و تطاحن الأفكار و صنم التنظيمات .
اختلط العربي بالطلبة الفلسطينيين ، حتى أنه تولى الدفاع عنهم حين رجموا بالغيب ، ثم توجوا ذلك بأفعالهم الدنيئة ، فما أنكروها، قائلا ً:
إذا كان قرارنا هو مواجهة الفساد الأخلاقي فليشمل الجميع بما في ذلك الطلبة الأفارقة .
و يأتي الرد سريعا من طالب ٍ داعية ٍ :
لكن الطلبة الأفارقة لم يعلنوا فسادهم .
و يسخر العربي من هذا القول :
أن الاختيار بين لقيط ذو ملامح فلسطينية وبين لقيط زنجي ، سيكون للأول بلا ريب .
ينزعج الطلبة الإسلاميون ، و يسحبون داعيتهم المفوه ، و الأحاديث تجول بينهم : دعك منه .. إنه زنديق مثلهم مع أنه يصلي معنا ، و يختلفون إن كان يعول عليه خيرا ً لصلاته ، أو يخاف من شره لنفاقه ، و لعلاقته المزعومة بأجهزة الأمن ، التي يروها هم دون غيرهم .
ما كان النقد اليومي ، المتميز بالقصف قولا ً من الطلبة الجزائريين الإسلاميين، و بالفعل من الطلبة الفلسطينيين ، جد أذانا ًَ صاغية عند الطلبة أو الأساتذة الشيوعيين، لأن العلاقات القائمة بين إناث الجزائر و ذكور فلسطين ، تكتسي طابعا ً خاصا ً .. إنها حريات شخصية تلزم صاحبتها فقط ، غير أنه مع الأيام تحركت فيهم رغبة الانتقام من ذلك الرفض الفلسطيني لاقتراب الجزائريين أو إقامة علاقة مع الطالبات الفلسطينيات، و لذلك تحولت العلاقة المتميزة بين جماعات فلسطينية و جزائرية تنتمي لتيار واحد إلى بأس شديد ، انتهى إلى الضرب المتبادل ، تدخلت فيه الإدارة أو الأجهزة الأمنية ، و بذلك انتهى عهد الفساد الفلسطيني .
أبصرت شهرزاد رفقة " العربي " عن كثب, ذلك الاختصار اللامنطقي لزمن العلم في جامعة أنشئت من أجل تنوير العقول و تهذيب الأنفس، و سمعت منه بأساطير الفلسطينيين و قصصهم و مغامراتهم و غزواتهم بعيدا ً عن فلسطين ، و كانت تقف ضده في مواقفه ، و تلتقي مع الطلبة الإسلاميين - الذين كانوا يكرهوننا بسبب علاقتها بالعربي،- في رفض الفساد , و حين يبرر لها أن القضية الفلسطينية أكبر من أن تنسب لهؤلاء، ترد :
أبناء الثورات يجب أن يكونوا أقرب إلى الملائكة
و يرد مبررا ً أفعالهم ، التي يرفضها داخل نفسه:
هم بشر ، تؤثر فيهم الغربة والسن والاختلاط و الحرية .
كل تلك الأسباب لا تبرر ما يقومون به ، كيف تعذرهم و كثيرين ناصروهم ثم تخلوا عنهم وبعضهم رسب لسنوات بسبب مطاردة البنات ؟! .
لا يأخذ النقاش حول أفعال الطلبة الفلسطينيين وقتا ً طويلا ً بينهما ، لأن شهرزاد تسعى لمعرفة مختلف التيارات دون أن تقترب منها، أما العربي ، فقد كان يكف عن الحديث لما يملكه من معطيات تخص مواقف الطلبة الفلسطينيين، و التي يعلنها بعضهم صراحة ً مختصرة في قول مروان :
لا ندري لماذا ينتقدنا الطلبة و الأساتذة الجزائريين مع أن جامعة قسنطينة " تكفينا و تكفيكم " ؟!
ماذا تعني يا مروان ؟
أقصد أن جامعة قسنطينة ، فيها من الطالبات ما يكفي الجميع و يفيض ، و لذلك لا داعي لمنعنا مما نقوم به .
يرى العربي أن لا جدوى من هذا النقاش ، لكنه حين يبتعد من مروان الذي يناديه فلا يرد ، يعيد عبارته " تكفينا و تكفيكم " هاهي تعود إلى نشأتها الأولى ، منذ عشر سنوات ، حين كانت بداية التحذير من المصريين ، من قائلها " بده عيشوش " و يتساءل العربي :
- أيكون الفلسطينيون على علاقة ببده عيشوش أم هو منظرهم أم هم أمثال المصريين ؟ ويواصل البحث عن الإجابة في عهد ٍ يعبر سريعا ً فيه من الأحداث الكبرى ما يجعل القضايا الصغرى مسائل ثانوية .
عبد الناصر.. قاتل ، مهزوم ، خائن
الحضور الفلسطيني بالمئات في جامعة قسنطينة ، لا ينفي الوجود العربي و إن كان على درجة قليلة ، فهناك طلبة عراقيين لا يتجاوز عددهم العشرة ، و مصريين أبناء الأساتذة العاملين في الجزائر في حدود الثلاثين طالبا ً ، و سوريين لا يفوق عددهم العشرين ، و يمنيين و توانسة ، و قوميات أخرى كثيرة غير عربية . و مثل كل الجامعات الجزائرية احتوت جامعة قسنطينة التي تجاوز عدد الطلبة فيها في ذلك الوقت الخمسين ألف طالب على أفكار و آراء ، جاءت صرخات ٍ للمظلومين ، أو دفاعا ً عن أنظمة حكم بعينها و أيديولوجيات كبرى ، لكن هذا لم يحل دون التزام البعض الصمت خوفا ً من عيون الحكومات التي تترقب حركة الطلبة .
و لم يجد الأساتذة المشارقة الفرصة أمامهم لزرع أفكارهم ، فمنه من زادته إيمانا ً باختياره الأيديولوجي ، و منهم من ضل السبيل حين اكتشف أجواء حرية مختلفة عما كانوا فيه ، غير أن أغلبهم تفادى إعلان مواقفه السياسية ، حتى المغضوب عليهم أو المطاردين التزموا الصمت أو تأييد أنظمة ساءتهم سوء العذاب ، و طاردتهم داخل بلادهم ، و مع أن الأساتذة المصريين لم يكونوا معارضين في الغالب مع أنهم يحملون رؤى لا تتطابق مع توجهات الحكم في تلك المرحلة ، إلا أنهم ساهموا بشكل ٍ مباشر في توجيه كثير ٍ من الطلبة .
فالدكتور " عسكر " أستاذ الرياضيات ، كان يوزع عن الطلبة كتبا ً حول الاستراتيجية العسكرية لحرب الاستنزاف ، و منهم " العربي " الذي أدرك محاولات أستاذه الجادة للتأثير فيه للاندفاع باتجاه الناصرية ، و مع أن العربي كان يحب " عبد الناصر " ، إلا أنه كان غير مؤمن باختصار القومية العربية في شخص , حتى لو كان قائدا أو زعيما ، و مع هذا كان يصغي إليه حين يجلسان معا ً أو عندما تحضر شهرزاد .
ما كان الدكتور " عسكر " على علم بأخوة العربي لشهرزاد ، لذلك كان يوصيها بقوله :
- عليك أن تحافظي عنه فهو خبر معين على الطريق
تبتسم شهرزاد فتزيد المكان جمالا ً أو تزيل عنه القبح إذا كان بعض من حولهم قد ملأوا المكان ، أو توسعه إذا كان ضيقا ، و لا تقلق لما يقوله الدكتور " عسكر " ، و تواصل استماعها لتاريخ حرب الاستنزاف المجيدة . لكنها بالنسبة للقاءات العربي بالدكتور محمد أستاذ الجيولوجيا فقد عرفتها من نقل العربي لتلتك الأحاديث القومية ، مكتفية ، راضية ً بما يعود به ، مقتنعة ً بأنه أكثر بلاغة ًفي اللغة ، بعيدا ً عن لحن القول ، و أصدق في النقل , وأقدر على التأثير .
تلك التوجهات الناصرية ذات المناهج المختلفة ، كانت تقابل برفض من معظم الطلبة الجزائريين إلا أولئك القادمين من الجنوب الجزائري لانتمائهم العربي المعلن ، فالشيوعيون ضدها لأنها تحول دون الفكر الأممي، و الإسلاميون يرون فيها عصبية و دعوة للجاهلية الأولى ، و الوطنيون يرون فيها تجاوزاً لمكانة الجزائر و دورها ، أما البربر ، فهي بالنسبة لهم استعمار عربي ، و يرى فيها الفرنكفويون استعمار من المتخلفين , حتى أنهم يقولون :
- بدل الذهاب إلى رمال الصحراء و الغرق فيها ، لما لا نقطع البحر الأبيض المتوسط لنصل في زمن ٍ وجيز إلى أوروبا؟!.
قلة من الطلبة و الأساتذة الجزائريين مستعدة لسماع أطروحات و آراء الأساتذة المصريين ، أما الغالبية فهي ضد القبول بتلك الآراء من ناحية التطبيق ، لكنها على استعداد أن تتجاوز ، و تفند و تقبل ، باستثناء الطلبة الإسلاميين ، و أغلبهم بوعي أو بدونه ينتمون إلى الإخوان المسلمين ، يرفضون النقاش أو حتى ذكر القومية في شقها الناصري .
ما كان العربي يسلم برفض الإسلاميين المطلق ، و كانوا يردون عنه بعنف :
أن عبد الناصر الذي تتحدث عنه مجرم ، قاتل ، مهزوم ، خائن !
و يرد بغضب :
هذا حكم مطلق و غير مبرر
فينبري حسين للإجابة :
عبد الناصر أعدم سيد قطب ، فهو قاتل ، و هزم في حرب 1967 و جر الأمة معه إلى العار ، و خائن لأنه كان صديق الاتحاد السوفيتي .. الدولة الشيوعية الملحدة .
أنتم تتحدثون عن أمور نجهلها ، نقلت إليكم و لسنا طرفا ً فيها
لا نحن طرف فيها ، و اقرأ ما كتبه الباحثون عن سيد قطب لتعرف الحقيقة
سيد قطب.. والعفيف الأخضر
لأول مرة يسمع العربي باسم " سيد قطب "، و يعكف على قراءة كتبه ، بعد أن كان يطالع كتاب العفيف الأخضر ، و النزعات المادية للفلسفة العربية الإسلامية ل"حسين مروة" ، وتحليل الذات العربية لعلي زيعور، و بجانب هذا روايات كوليت الخوري وغادة السمان و عبدالحميد بن هدوقة و الطاهر وطار .
قراءة العربي لم يكن هدفها المعرفة، إنما لرد على الإسلاميين، و لمعرفة الثغرات في فكرهم، و أصبح حجة في حديث الثلاثاء للإمام حسن البنا و معالم في الطريق لسيد قطب ، وكذلك شهرزاد لما كان ينقل إليها من مطالعاته المتواصلة بالليل و النهار ، و كثيرا ً ما كان النقاش ينتهي لصالحه على مستوى شرح ما جاء في تلك الكتب ، لكن بالنسبة للعمل يكون في الغالب لصالح الطلبة الإسلاميين ، فهم متلزمون بالعبادة و منضمين لجماعة منظمة ، لها أهدافها و مواقفها من كل ما يحدث في الجامعة .
يقترب العربي منهم عبادة يحكم انتمائه المبكر للمسجد و حفظه لبعض سور القرآن العظيم، فيحسبونه واحد منهم ، و يدعونه إلى التحاق بركبهم و يبتعد عنهم موقفا ً حين يناصر الشيوعيين، و يشارك معهم في تلك الزيارات المدنية للأرياف و القوى، من أجل التفاعل ميدانيا مع الفلاحين فيما عرف في ذلك الوقت بالتطوع، أو حين يلعنون إضرابهم من أجل تحسين الأكل في المطاعم الجامعية ، أما شهرزاد فما كانت تقترب من هؤلاء و هؤلاء .. حذرة ً دائما ً ، غير مستعجلة في إصدار حكم أو المشاركة في تجمع ، بعيدة عن حماس اللحظات المؤثرة تاركة ً أمرها للعقل وحده ، و لهذا ظلت بالنسبة لهم لغزا ً محيرا ً .
كيف للطلبة الإخوانجية – الإخوان المسلمين - أو للباكس الشيوعيين- أن يتعاونوا مع العربي ؟ و لماذا لا يثقون فيه ؟ و بعضهم يقول : أنهم يخافونه ؟ هذه الأسئلة تردد كل يوم ٍ في الجامعة ، و تأتي الإجابة مختصرة في القول المريح و الجاهز كل حين لدى كثيرين :
إنه يشتغل في الأمن !
التحدي الذي ميز العربي في مواقفه المتباينة كان ملفتا ً للنظر ، فتارة هو إسلامي حتى النخاع ، و تارة أخرى هو شيوعي ، و مرة ثالثة هو رافض للجميع ، ورابعة مكونا ً لجماعة توزع المنشورات في الجامعة ليلا ً ، لتختفي نهارا ً ، تعتمد عناصرها عن القوة و الرّدع ، لا يعرف بعضهم بعضا ً، و لا يعرف العربي, مؤسس الجماعة, العناصر التي تنضم إليها كل يوم و تتولى الدفاع عنها و تسمي نفسها " الطلبة الوطنيون " .
التحدي .. تلك الصفة التي توهت الطلبة و الأساتذة ، وأرعبتهم أحيانا ً ، تواصلت حتى بعد أن جاء الباطل و زيف الحياة في ذلك اليوم الموعود ، حين كانت الفرحة تعم الجزائريين بفوز فريقهم الوطني على ألمانيا في كأس العالم ، في الوقت الذي اجتاحت إسرائيل لبنان .. آنذاك اعتقد الجزائريون أنهم أحسنوا صنعا، و أظهرت لهم الأرض زخرفها و زينت الحياة في أعينهم ما عادا العربي ، الذي انفعل مع الجو العام في اليوم الأول ، لكن من إن حل اليوم الموالي ، حتى دخل الجامعة محركا ً الطلبة في تجمع عام ، و هنا بهت الذين ظنّوه أمنا ً، فوجدوه من الرعية التي استباح عرضها في لبنان ، فذرفت الدموع في قسنطينة ، و بدت الحقيقة أكبر من أن تصدق .
نشوى اليوم السابق لم تعمر طويلا ً بالنسبة لثلة ٍ من الطلبة فقد أظهرت الحزن من اجتياح لبنان ، في حين انشغل الباقون و ما أكثرهم بحياتهم الدراسية ، مرددين بافتخار ما حدث بالأمس في مدريد ، حيث أعيدت قرطبة و غر ناطة ، و ربط انتصار الفريق الجزائري و مدربه على ألمانيا في كرة القدم بذكريات الفتح الأولى بقيادة طارق بن زياد .
النصر عزة و فخر و نفس سابحة في أفق الآمال ، تواقة إلى غد ٍ أكثر إشراقا ً ، و النصر تثبيت للنفس أيضا ً.. هكذا قال مسعود ، الذي يعشق كرة القدم و لا يعشق النساء، غير أن النصر على الجهة الأخرى زيف إذا تعلق بالمكتسبات البسيطة ، أو شغل الشعوب عن قضاياها الكبرى، و تلك هي نظرة العربي الذي بدا في ذلك اليوم غاضبا ً، حزينا ً ، متألما ً .
حاولت شهرزاد ثنيه عما هو مقدم عليه، و لكنه أصر إصرارا ً ، و حين أدركت أن لا جدوى من تراجعه ركبت معه موج الرفض دون أن يفكرا في السبيل الميسر للوصول إلى بر الأمان ، و تلك كانت المرة الأولى التي تساهم فيها بشكل ٍ مباشر في تجمع ٍ كبير ينتقد أصحابه النظام الحاكم بشكل ٍ علني.
دموع هيفاء اللبنانية
نادى العربي ,من قريب ٍ و من بعيد , على الطلبة ، فأحاطوا به من كل جانب إلى أن أصبح وسطهم يقف على برميل ٍ أفرغ من زيته ، و أصبح ذاك البرميل بعدها علامة ً مميزة ً للإعلان عن حدث ٍ هام أو التبليغ عن قرار ٍ معين أو الدعوة للإضراب.
لم تكن استجابة الطلبة الفورية و حتى الأساتذة الذين حضروا و لم يشاركوا في التجمع عفوية ً ، ذلك لأن التجارب السابقة أثبتت أنه كلما وقف العربي خطيبا ً إلا و حلت المصائب في نظر أجهزة الأمن ، فتندس عناصرها وسط مجموع الطلبة ، ثم تقدم تقاريرها للجهات المسؤولة بعد ذلك ، كان آخرها عندما زار الوزير الجامعة ، و قوبل بالدلاء الفارغة كتعبير ٍ عن انعدام الماء ، مما أفشل زيارته و غير وجهته نحو كليات ٍ أخرى بعيدة ٍ عن الجامعات المركزية .
حين تحلّق الطلبة حول العربي كانت شهرزاد تقف مع صديقتها اللبنانية " هيفاء " تواسيها عما حدث في لبنان ، غير سائلة ًعن رد الفعل المنتظر للتنظيم الذي تنتمي إليه .
هيفاء فتاة في العشرين من عمرها تنتمي إلى حزب أمل الشيعي جاءت للدراسة على حساب الدولة الجزائرية ، حين كانت العلاقة بين الجزائر و بعض أحزاب لبنان ، متجاوزة ً الجغرافيا إلى الهوية ، و دون وعي ٍ كانت تعيد تاريخ الفينيقيين في رحلتهم من صيدا إلى الشرق الجزائري ، مركزين أصول الحضارة و دعائمها .
لم تكن هيفاء الطالبة اللبنانية الوحيدة فهناك غيرها ، لكن عددهم قليل إذ لم يتجاوزوا العشرة ، لذلك لم يظهروا على واجهة الأحداث إلا قليلا ً، غير أنها حين ظهرت رفقة شهرزاد في ذلك الصباح السابق عن التجمع ، زادت دموعها العربي تأثرا ًبغزو العدو الإسرائيلي للبنان ، فليس سماع الأخبار أو حتى مشاهدة الصور ، كالالتقاء بأهل المحنة .
وقف العربي خطيبا ً في تجمع ٍ بلغ العشرات ثم زاد عدد أفراده ليصبح مئات ، و بدا ل"شهرزاد" , وهي ترقبه و تراقب ردود أفعال غيره, خطيبا ً مصقعا ً .. رأته في حلم الواقع قائدا ً ، زعيما ً ، و كثرت صور الغيب لديها ، غير أنها حين عادت للواقع دون حلم ٍ ، سمعت أحد عناصر الإخوان المسلمين يقول:
ما هذه الفوضى التي يحلها العربي كل يوم؟
رد عليه زميله قائلا ً :
- دعنا نرى ما سيقول
اقتربت شهرزاد من الاثنين دون أن يشعرا، و ظلت عيناها معلقتين بالعربي، و أذنيها تسترقان السمع لحديث الإخوان تارة ً و تتلذذان بكلمات العربي التي جاءت على النحو التالي :
لقد عرفتم ما حصل في لبنان ، و لا داعي لعبارات الإدانة أو الشجب، و ليس أمام الحزب الحاكم و الحكومة إلا خيارين ، إما فتح باب التطوع أو إرسال جيش ٍ و ..
قاطعه " حسن التبسي " ، و كان نبراسا ً للإخوان في مواقفهم, قائلا ً:
التطوع يكون للجهاد ، و ما يحدث في لبنان ليس حربا ً من أجل الإسلام ما دامت القوى السياسية التي تحارب هناك علمانية.
كبر المستمعون إليه ، و كانوا أكثرية الحاضرين ، و تداخلت مع التكبير أصوات أخرى رافضة ً لكلام حسن ، و كانت لتيارات أخرى أكثرها من الوطنيين ، بالإضافة إلى الشيوعيين ، الذين أيدوا العربي ليس حبا ً في لبنان ، و إنما معارضة ً للسلطة و معاداة للتيار الإسلامي .
واصل العربي حديثه غير مبال ٍ بتحذيرات الإسلاميين الداعية إلى الكف عن الفوضى و الدعوة إلى إضراب ٍ مفتوح ، على اعتبار أن أمر الحرب و السلم يخص السلطات ، و لا دخل لطلبة الجامعة فيه .
شد من عزمه خروج شهرزاد عن صمتها ، حين قالت , وهي تقتر ب من التجمع ،و تخرج من حدود منطقتها الخاصة ممسكة بيد هيفاء :
الجامعات دائما ً تمثل رد فعل للمواقف السياسية, كما أنها تؤثر في عملية صنع القرار ، ولهذا علينا أن نرفض الخذلان
و الانهزامية ، ثم نحن لسنا بديلا عن نظام الحكم، و لكننا جزء من الشعب الذي لا يقبل باجتياح لبنان .
لم يكن صوتها عورة في نظر الطلبة المتجمعين ، و نسي الإسلاميون قول ذلك، فقد انشغلوا بهذا الصوت الجديد ، الذي لم يعهدوه و إن كانوا على معرفة سابقة بصاحبته، التي رأوها مرات عديدة رفقة العربي .
فضل بعضهم عدم الرد عليها حتى لا يتسع مجال النقاش ، في حين قال أحدهم و هو مصطفى ، و كان متشددا ً ، و رافضا ً لأي دور للطالبات في الجامعة :
يجب إيقافها هذه الطالبة عند حدها
ثم تراجع عن موقفه حين أبلغه أحدهم برد فعل العربي الذي لا يمكن أن يلتزم فيه حدود آداب الحوار .
لقد تمنى الطلبة الإسلاميون أن ينفض هذا التجمع ، الذي رأوا أنه يحمل بصمات شيوعية رغم قناعتهم ببعد " العربي " عن هذا التيار, لكن هاهي ساحة الجامعة قد اكتظت بمزيد من الطلبة ، طالب أغلبيتهم بإضراب مفتوح ، و وراء هذه الدعوة رغبات و نزوات و حسابات سياسية ، و حاجات إنسانية و أسفار و علامة حب و عشق تحتاج الوقت للتنفيس عنها .
علت الوجوه نحو " العربي " و اشرأبت الأعناق , و زادت الأصوات الداعية للإضراب ما لم تستجب السلطات بإرسال جيش إلى لبنان ، و تابع الأساتذة عن بعد ممنين الأنفس بإجازة طويلة الأمد ، فهي لن تقل عن شهر.. كانت تلك رغبة الأساتذة العرب, و رغبة بعض الأساتذة الجزائريين أيضا من اجل الاهتمام بعملياتهم التجارية أو تسيير مؤسساتهم و مكاتبهم الخاصة .
لم تتحقق الرغبات المستترة , ولا تلك الأماني الخاصة بالمشاركة النابعة من طهر الشباب و صدق النوايا ، و لم يواصل العربي خطبته ، و أنفض التجمع بتدخل رجال كانوا إلى وقت قريب جزءا من أهل الجامعة ، فظهروا اليوم على حقيقتهم ..إنهم رجال أمن ، تدخلوا لوقف التجمع داخل الحرم الجامعي ، و بدا العربي من عالم يختلف عن عالمهم , و بهت الذين ظنوا بالأمس القريب إنه منهم ,و تمنوا قبلها أن يؤتوا مثلما أوتى العربي من قول حق يستند إلى شرعية الأمن و حمايته .
نصائح ثلاث.. جزائرية وعراقية ومصرية
لقد كشف اجتياح لبنان حقيقة العرب ووزنهم الدولي , هنا في أقصى المغرب حيث دول الأطراف ، وهناك في أقصى المشرق حيث دول المركز , و أما داخل جامعة قسنطينة فقد كشف الاجتياح عن حقيقة"العربي" لزملائه , حيث كان لثلاث سنوات سابقة محل استفهامات كبرى، أما هو فلم تبق له إلا سنة واحدة لإنهاء دراسته الجامعية ، لذلك انشغل فيها بالسعي للحصول على منحة دراسية لاستكمال دراسته العليا في الخارج.
مرت السنة الدراسية محملة بالمتاعب و الأزمات مثل حال العرب , و لم تكن وصية " بده عيشوش " تفارقه ، خصوصا ً بعد أن علم أن الحصول على منحة لا يخضع للشروط الموضوعية فحسب وإنما يتجاوزها إلى العلاقات , و بدا أن هناك استيلاء على إيرادات النفط من لجان شكلت على المستوى الوطني لدراسة ملفات الطلبة المتقدمين ، و بقدر ما كانت الأسعار ترتفع و عائدات النفط تزيد ,كانت أفواه جديدة من المواطنين، و أخرى قادمة من وراء البحر تبتلع خيرات البلاد.
وجد العربي أن وصية " بده عيشوش " تخرج من التنظير إلى الممارسة عند أستاذه " أحمد " ، الذي كان يقول منبها ً و ناصحا ً :
خيرات الجزائر تكفي الجميع ، و " القافز "- الشاطر- هو الذي يطير فيها بورس( يحصل على منحة)
و يرد العربي معلقا ً و سائلا ً في الوقت ذاته:
الحصول على المنحة يحتاج فقط إلى شروط وضعتها الوزارة مثل السن و المعدل العالي لأربع سنوات ، فما الحاجة إلى العلاقات ؟
العلاقات هي الأساس ، و للحصول على منحة عليك أن توظف جميع الوسائل المتاحة .
في كل أحاديثه كان الأستاذ " أحمد " يزرع في تلميذه " العربي " فكرة واحدة هي " اقتناص الفرص " ، كان يقول له ضاحكا:
من الجامعة عليك الحصول على وظيفة أو منحة ، و أن تختار إحدى الجامعيات للزواج ..الشهادة وحدها لا تكفي .
نصيحة الأستاذ " أحمد " لم تكن تلقى قبولا ً مثل نصيحة" بده عيشوش " مع أنها أرقى منها ، لأن العمر اختلف و عقل العربي تفتح على أستاذة آخرين و ثقافات أخرى ، لهذا كان يعرضها على الأساتذة المصريين ، الذين كانوا يقولون له كل على حدة :
آخر أمر يجب أن تفكر فيه هو الزواج .. إنه نهاية المطاف و ليس بدايته ، و أن مواصلة الدراسة أهم بكثير .
ذلك الحكم على حياة العربي مستقبلا ًعند طلب النصيحة بالسؤال من طرف الدكاترة المصريين , كان في نظر أستاذه الدكتور " حمدان العراقي " تمصيرا لحياة الجزائريين ، يأتي ظاهرا ً في قوله :
لا تطلب النصيحة من أحد ، فلكل إنسان تجربته الخاصة ، المهم تحديد أهدافك ! لكن عليك الآن مواصلة الدراسة .
لاحظ " العربي " أن رأي الدكتور " حمدان " يحمل نوعا ً من التناقض لأن الحديث معه انتهى إلى التأكيد على مواصلة الدراسة ، و الذي أدهشه أكثر هو ذلك الإجماع على أن الجزائر تكفي الجميع وعليه أن يأخذ نصيبه منها .
واصل " العربي " مساعيه الحثيثة ، و ما كادت السنة الدراسية توشك على نهايتها حتى حصل على منحة دراسية إلى مصر ، الدولة التي حذره منها بده عيشوش, لأن أهلها يؤكدون عن كفاية ما في يد الآخرين لهم, و لكنهم لا يقدمون شيئا ًللآخرين و لا يقاسمونهم مما أوتوا, و يؤثرون أنفسهم ولو كان بهم عنى, ولا يوقون شح أنفسهم .. ترى هل تصدق نظرية بده عيشوش ؟!
الحلقة المقبلة
جامعة القاهرة.. فكر و رحلة عمر وآهات حب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.