أثار موضوع تأنيث المناصب والوظائف والمهن لغويا في فرنسا جدلا كبيرا وأعاد إلى الواجهة الصراع القديم بين مختلف المؤسسات الرسمية الفرنسية.. فجرت القضية من جديد نهاية الأسبوع الماضي "نائبة" في الجمعية الوطنية عندما رفضت "تأنيث" المناصب مفضلة "التذكير" رغم أن المخاطب الذي يتولى المنصب كان امرأة.. والغريب أن الصراع في فرنسا حول تأنيث المناصب والوظائف والمهن لم يأخذ شكل صراع جنسي بين النساء والرجال بدليل أن ثمة نساء مسؤولات ضد صيغة التأنيث، بينما ثمة مسؤولين رجال يناضلون بشراسة من أجل ترسيخ صيغ التأنيث في الإدارات والمؤسسات والخطابات والوثائق الرسمية.. إشكالية اعتماد صيغة تأنيث المناصب صراع قديم يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي.. ففي الحادي عشر مارس عام ألف وتسعمائة وستة وثمانين أصدر رئيس الحكومة تعليمة تقضي بضرورة تأنيث أسماء المهن والمناصب والوظائف والرتب تنفيذا لنتائج عمل لجنة المصطلحات التي شكلتها وزيرة حقوق المرأة عام ألف وتسعمائة وأربعة وثمانين، وعكفت على إعداد وثيقة طيلة عامين كاملين.. تعليمة الوزير الأول الفرنسي لوران فابيوس لم تر النور ولم تطبق إطلاقا، فأردفها خليفته ليونال جوسبان، في السادس مارس سنة ألف وتسعمائة وثمان وتسعين بتعليمة أخرى، ليتكرس الصراع بين الأكاديمية الفرنسية الرافضة رفضا مطلقا لصيغ التأنيث، والسلطة السياسية بجهازيها التنفيذي والتشريعي المصرة على ضرورة التأنيث اللغوي للمناصب والمهن والوظائف والرتب.. ليأخذ الصراع في آخر المطاف شكل صراع سياسي بين محافظين وإصلاحيين، حول الصلاحيات وأهلية اعتماد مصطلحات لغوية جديدة.. حجة الأكاديمية وكل المحافظين في فرنسا في عدم قبول التأنيث اللغوي للمناصب والوظائف أن التأنيث والتذكير في لغة فولتير رمزي للتفرقة بين الأنثى والذكر فقط، وعليه فإن "علامة التأنيث لا تؤدي إلا دورا ثانويا في النحو" حسب الأكاديمية.. أما تذكير التسميات فليس فيه أي انتقاص للمرأة لأنه محايد يتعلق بالمهنة وهو سيان سواء كان ذكرا أو أنثى.. أما حجة المجددين في الحكومة والبرلمان ومؤيديهم في كل مكان فهي ضرورة إعادة الاعتبار للمرأة وتقدير مساهمتها التي شملت مختلف مناحي الحياة، لأن صيغة "السيدة وزير العدل، أو السيدة عميد الجامعة" فيه انتقاص وإهانة للمرأة وعنصرية مقيتة.. ويرى هؤلاء ضرورة تأنيث إسم المنصب كلما تولته امرأة فلا ضير في القول "السيدة الوزيرة"، و"السيدة المديرة"، و"السيدة عضوة اللجنة"، و"السيدة العميدة" وما إلى ذلك.. والظاهر أن حجة الأكاديمية داحضة لأن التأنيث محترم ومعقد في تفاصيل اللغة الفرنسية ويتعدى إلى الأفعال والصفات، والنحو والصرف وصيغ الجمع والمفرد، وعندما يتعلق الأمر بالوظائف والرتب يصبح ثانويا ولا أهمية له؟ هذا شيء عجاب وغير مستساغ.. والحقيقة أن المحافظين يحاولون التغطية على مشكل أكثر عمقا ظل راسخا في عقلية الفرنسيين والغرب عامة، وهو تلك النظرة الدونية للمرأة واحتقارها، والتي ظلت ترفض ولوج المرأة إلى الحياة العامة وتصر على بقائها في البيت تؤدي وظيفة واحدة وحيدة.. تذكير الوظائف والرتب والمسؤوليات لغويا ورفض تأنيثها يجد تفسيره في عدم تصور الفرنسيين والأوروبيين عامة، وإلى أجل قريب، إمكانية تقلد المرأة هذه المناصب أو تبوئ تلك الرتب أو تولي الوظائف أصلا، لأنها غير مؤهلة لذلك من جميع النواحي من جهة ولأنها أقل شأنا وقيمة وأهمية من الرجل من جهة أخرى.. لقد كان المجتمع الفرنسي يعتبر المرأة شيئا من الأشياء المكرسة لخدمة الرجل لا غير، حتى أن الأوروبيين كانوا يشكون في أنها إنسان بدليل أنهم عقدوا مؤتمرا في فرنسا (بعض المراجع تقول في سويسرا) في القرن السابع يبحثون فيه ما إذا كانت المرأة إنسانا يستفيد من كل الحقوق أو "حيوانا"، لكن لحسن حظهم توصلوا إلى حل وسط فاتفقوا على اعتبارها إنسانا لكن بتجريدها من كل الحقوق الإنسانية !؟.. وها هو بيير جوزيف برودون، السياسي والفيلسوف الفرنسي، وعضو الجمعية الوطنية يؤكد في كتابه "من العدالة في الثورة وفي الكنيسة" عام 1858، أن المرأة ما كان لها أن توجد... ثم يقول في وصفها لتأكيد قصورها ونقصها "إنها نوع من المدى المتوسط بين الرجل وجنس الحيوان.." ! وهذا هو التفسير والتبرير الحقيقي لغياب صيغ التأنيث للوظائف والمناصب والرتب في اللغة الفرنسية وغيرها من اللغات الأوروبية.. ولعل من نافلة القول التذكير بان المرأة ظلت في هذه المجتمعات مغيبة حتى بعد الحربين العالميتين. في العربية المشكل غير مطروح لغويا لكنه مفروض سياسيا فرضا، فثمة الكثير من النساء والرجال يصرون على الترجمة الحرفية للصيغة الفرنسية الرافضة للتأنيث، فيتحدثون عن السيدة الوزير، والسيدة النائب، والسيدة عضو اللجنة.. وما إلى ذلك، أسوة بالمحافظين الفرنسيين، وهم وهن يهينون ويهن كرامة المرأة من حيث يدرون أو يدرين أو لا يدرون أو لا يدرين.. الدكتور عمر بلخير أستاذ اللسانيات المعرفية بجامعة تيزي وزو يؤكد أن الظاهرة غير موجودة في اللغة العربية ولا في الممارسة اليومية إلا نادرا.. ففي اللغة العربية فإن ما يسمى أكاديميا ب "ظاهرة التغليب" غير موجودة إلا في صيغة الجمع فقط، حيث يتغلب التذكير على التأنيث، كأن تقول "الرجال والنساء يتجمعون"، أما في الفرنسية فالتغليب طاغ عموما.. الدكتور بلخير وفي اتصال هاتفي يفسر ظاهرة إصرار البعض – ومنهم نساء - في الجزائر وغيرها من الدول المغاربية والخليجية على تبني صيغة التذكير، تفسيرا ثقافيا على اعتبار -كما يقول- أن اللغة والثقافة وجهان لعملة واحدة.. فهي إما استلاب ثقافي أو تبعية كما هو حاصل في الحالات التي ذكرتها في الجزائر وتونس والمغرب على قلتها، أو تأثر بالمحيط الذي ترعرع فيه الإنسان كما هو في المجتمعات الخليجية التي ذكرتها.. فالمجتمعات الخليجية مجتمعات بدوية ذكورية بامتياز، علاقة الرجل فيها بالمرأة تؤثر على لاوعي ولا شعور المرأة فتجدها من حيث تدري أو لا تدري تمارس على نفسها ما أسميه "المنع الذاتي" تحت تأثير هذه التربية الرجولية التي تربت عليها فتصر على تبني صيغ التذكير وإن كانت هي التي تتبوأ هذا المنصب أو ذاك، رغم أنها في قرارة نفسها قد لا تكون مقتنعة بهذا العرف والثقافة المفروضة عليها.. فاللغة - يستنتج الدكتور عمر- تخضع لكل مكونات شخصية البلد التي يستعملها، فهي كما يقول السيوطي مجموعة من الرموز يستخدمها كل شخص لقضاء حاجاته، ليست رموزا تقنية بقدر ما هي رموز تتماهى في وعاء فكري ديني شعوري.. وهي في الأخير التي تشكل الثقافة وفي هذه الثقافة نجد كل التفسيرات والمبررات لكل الظواهر..