أفضت مهمة البحث عن حراقة بولايتي الطارف وعنابة للحديث معهم عن تفاصيل رحلة الحرقة عبر البحر وظروف توقيفهم وترحيلهم من ايطاليا إلى الكشف عن تفاصيل مميزة ومثيرة جدا عن منظمي رحلات الحرقة والأشخاص الذين يتولون مهمة إيصال أفواج الحراقة إلى ضفاف سردينيا وهي المهمة التي يقول عنها بعض من التقتهم الشروق بالقالة، بأنها مسؤولية كبيرة تضاهي مسؤولية قائد فرقة عسكرية في مهمة حربية. رحلة الألف ميل تنتهي بالعاصمة يعتبر الشاب »اليامن بوزنة« من رواد الحراقة بولاية الطارف وهو أول من نظم رحلة إلى سردينيا، انطلاقا من شواطئ القالة المعزولة بقارب صغير ودون أية مؤونة أو متاع ولم يتجاوز وقتها سن ال23 فقط. وحسب اليامن، الذي لا تفارق البسمة شفتيه، فإن أول رحلة إلى سردينيا بدأت بالصدفة حيث اتصل به ثلاثة من أصدقائه عارضين عليه الفكرة، مؤكدين أنه يمكن إيجاد عدد كاف من الحراقة لتوفير ثمن القارب والمحرك. ومن دون تردد قبل الفكرة وشرع في الاتصال بآخرين ليصل العدد عند بداية أوت 2006 عشرين شخصا تراوحت أعمارهم ما بين 22 و30 سنة، 15 من عنابة، أربعة من القالة وتونسي، دفع كل منهم ما بين 7 و9 ملايين سنتيم، بعدها شرع اليامن وأصدقاؤه في البحث عن قارب ومحرك حيث تم شراء محركين 30 حصانا بمبلغ 59 مليون سنتيم وقارب طوله 10 أمتار وحدد تاريخ الرحلة انطلاقا من شاطئ فكيرينة بالقالة القديمة أين تم الانطلاق في إحدى الليالي الحارة من شهر أوت ليبدأ من يومها التقويم لتاريخ طويل من رحلات الحرقة بالمنطقة، ولم تدم الرحلة الأولى سوى 24 ساعة بلغ بعدها الشبان ال20 شواطئ سردينيا التي دخلوها وجابوا عددا من شوارعها قبل أن يقبض عليهم ويقتادوا إلى مركز للشرطة الإيطالية التي دونت بياناتهم وتسلموا تصريحات بالبقاء لمدة 5 أيام بالمدينة على أن يغادروها قبل انقضاء آجالها، لينقلوا بعدها إلى أحد الفنادق المحلية للأيام الخمسة وهي الفرصة التي اغتنمها الحراقة ال20 للراحة والتحضير لمواصلة المغامرة. وروى اليامن أنه وزملاؤه تركوا الفندق بعد أربعة أيام باتجاه مدينة نابولي التي قضوا فيها ما يقارب الشهر كاملا قضوه في التسكع في الشوارع وتوصيل البعض منهم إلى معارفهم بإيطاليا. وبعد هذه المدة قرر اليامن مواصلة رحلته باتجاه فرنسا التي قضى بها ما يفوق الشهر بمدينة مرسيليا ليتم القبض عليه من طرف الشرطة الفرنسية بمدينة بربينيون التي كان يعتزم المرور من خلالها إلى برشلونة الإسبانية أين يتواجد قريبه ليسجن ويحاكم بعد 13 يوما بالسجن ويرحل على أول باخرة متجهة إلى ميناء العاصمة في العشر الأواخر من رمضان. وحسب اليامن، فإن رحلته هذه التي ضمت 20 شابا عاد منهم ستة فقط في حين ذاب الباقون بأوربا إلى حد كتابة هذه الأسطر. تعددت الأسباب والهدف واحد حين قرر اليامين الحرقة إلى إيطاليا كان هدفه الأول إيجاد عمل هناك لتحسين وضعه المادي والاجتماعي وهو السبب الذي يشترك فيه مع معظم من رافقوه في رحلته، أما »عاشور.س« صاحب الثلاثة عقود من العمر، فإن هدفه من مغامرة الحرقة التي قام بها في سبتمبر الماضي كان مختلفا تماما عن غيره. فهو يمتلك عائلة من زوجة وابن بمرسيليا الفرنسية حرم من رؤيتهما منذ نهاية 2003 بسبب رفض السلطات الفرنسية تجديد تأشيرته بعد أكثر من خمسة ملفات من دون إعطائه تبريرا مقنعا. وبحسب عاشور، فإنه بمجرد تفكيره في الحرقة تلقى اتصالا من أحد معارفه يطلب منه مرافقة فوج من الحراقة مجانا على أن يتولى قيادة القارب واستعمال جهاز الGPS وهو ما استجاب له دون أدنى تفكير، ليقرر الإبحار في الليلة الثانية من رمضان الماضي مرفوقا ب32 شابا من عنابة، قسنطينة الطارف والعاصمة على متن ثلاثة قوارب من شاطئ سيدي سالم بعنابة. رحلة عاشور، على خلاف اليامين، بدأت وانتهت بمشاكل عويصة، فبمجرد انطلاقهم من سيدي سالم واجهتهم فرق حراس الشواطئ ليضطروا إلى الافتراق ومواصلة الرحلة على انفراد، ثم استيقظوا بعد 26 ساعة من الإبحار بشاطئ تابع لأحد الخواص بسردينيا أين وجدوا الشرطة في انتظارهم بعد أن بلغ صاحبه بوصول القاربين الأولين. حيث اقتيد الكل إلى مركز الشرطة ونقلوا على متن طائرة عسكرية إلى مركز بمدينة باري أين مكثوا ثلاثة أيام رفقة العشرات من الحراقة من بلدان إفريقية وعربية مختلفة، بعدها فروا باتجاه مدينة نابولي وهناك افترقوا ليركب عاشور رفقة آخرين القطار نحو الحدود الفرنسية حيث قبض عليه بمدينة فنتيميليا على الحدود الفرنسية وسجن بمرسيليا على بعد أمتار فقط من عائلته وحكم عليه بعدها ب15 يوما حبسا والترحيل على باخرة متجهة إلى وهران رفقة شاب تلمساني وآخر من سوق أهراس. وحسب عاشور، فإن الكثيرين ممن جربوا الحرقة نحو إيطاليا كانوا ينوون الوصول إلى فرنسا أين يتواجد أفراد من عائلاتهم أو لهم عائلات هناك واصطدموا ببيروقراطية السفارة الفرنسية بالجزائر ورفضها غير المبرر لطلباتهم للحصول على تأشيرة الدخول إلى فرنسا، بالرغم من كونهم غير مسبوقين قضائيا ولم يصدر عنهم أي سلوك مخالف للقوانين الفرنسية خلال إقامتهم بها، وهو ما ينطبق أيضا على »كريم.ف« من ضواحي ابن مهيدي الذي حاول اللحاق بوالدته المتواجدة بمدينة ديجون مرارا وتكرارا، إلا انه لم يتمكن من الحصول على التأشيرة، في حين منحت لأخته بكل سهولة وهو ما دفع به إلى سلوك طريق البحر هروبا من ويلات التأشيرة. واختلفت أسباب الحرقة من شاب إلى آخر لدرجة استحالة إحصائها. وكالات للحرقة وأخرى للإرشاد اتفقت معظم الشهادات التي جمعتها الشروق لحراقة بعنابة والطارف على وجود ظاهرة غريبة بعنابة تتمثل في تشكل وكالات شبه علنية لتنظيم رحلات الحرقة باتجاه جزيرة سردينيا دونما الحاجة لجوازات سفر أو تذاكر أو حتى متاع. وحسب عاشور وزملائه، فقد شهدت مدينة عنابة مؤخرا توافد مجموعات كبيرة من الشباب من مدن مختلفة من الوطن من العاصمة، قسنطينة، قالمة، سكيكدة، وبمجرد دخولهم المدينة وإفصاحهم عن مطلبهم يتم توجيههم من طرف أشخاص موجودين لهذا الغرض إلى منظمي هذه الرحلات بمنطقة سيدي سالم ليدفعوا ما بين 6 و12 مليون سنتيم، كما ظهرت هذه العملية أيضا بالسوق الأسبوعية بالقالة، أين أكد البعض وجود أشخاص معيّنين يقومون بتسجيل الراغبين في الحرقة على شاكلة رحلات العمرة. وعلى خلاف الوكالات الرسمية فإن الأسعار ليست محددة بدقة، إذ يتم تحديد السعر وفق الظروف الخاصة بالحراق وعلاقاته بالوسط. وحسب شهادات بعض العائدين من سردينيا، فإن نصيب منظم الرحلة لا يقل في الغالب عن 50 مليون سنتيم في الرحلة الواحدة، حيث يقوم المنظم باقتناء قارب ومحرك بما لا يتجاوز 30 مليون سنتيم ويحتفظ بالباقي قبل أن يختفي بعد تحديد تاريخ الرحلة ومكانها وتكليف شخص بقيادتها، على أن تكون رحلته مجانا أو بمبلغ رمزي فقط وهو الوجه الآخر لهذه الوكالات، حيث تتم الاستعانة بشباب من ذوي الخبرة في البحر واستعمال جهاز GPS لضمان وصول الشباب إلى وجهتهم، ويتشكل هؤلاء المرشدون عادة من البحارة العاملين بالقالة أو الشواطئ المجاورة لها. وتفيد المعلومات المتوفرة حول هذا المجال، أن الكثير من منظمي رحلات الحرقة وجدوا في الشباب البحارة استثمارا مربحا، بالنظر إلى الظروف القاهرة التي يعيشها هؤلاء في مهنة الصيد البحري التي لا تدر حسبهم أي ربح، خصوصا مع حلول الشتاء أين يتوقف هؤلاء عن العمل لما يفوق الأربعة أشهر دون توفرهم على البديل. وتؤكد معلومات مستقاة من وسط الحراقة بمنطقة سيدي سالم على وجود إسمين مشهورين في تنظيم رحلات الحرقة، أحدهما معروف لدى المصالح الأمنية وسبق لها حسب بعض الشهادات سماعه، كما ظهر منذ أيام أشخاص آخرون لذات الغرض ودخول أكثر من مستثمر فيها من صناعة للقوارب وتوفير للمحركات بعد تنامي الظاهرة وتحولها إلى استثمار مربح. المرشد يعاني ألف مرة أكد اليامين وعاشور أن المهمة التي قادتهما إلى سردينيا كانت من أصعب المهمات على الإطلاق، بالرغم من خبرتهما الكبيرة في ركوب البحر وقضاء أيام في عرضه. وتكمن صعوبة هذه المهمة في كونهما كانا مسؤولين على مصير شبان في عمر الزهور، معظمهم لا يعرف عن البحر أكثر من سباحته في الشاطئ، فاليامين كان قائدا لرحلة من 20 شخصا وعاشور قاد أخرى ب33 شخصا وهما رحلتان تخللتهما الكثير من الحوادث التي عالجاها بما توفر لهما من علم بأمور البحر، فعاشور برمج محركه على ستة عقد في الساعة (12 كلم في الساعة ) وكان يتوقف بين الحين والآخر لصيانته ومعاينة القارب الذي لا يتجاوز طوله 7 أمتار وعلى متنه 11 شخصا، كما كان يهتم بحالات الإغماء والتقيؤ التي أصابت بعضا من مرافقيه بسبب دوار البحر والجوع والبرد. وكانت أكبر هواجسه حسب شهادته الخروج من المياه الإقليمية الجزائرية والتونسية، كونهما الأخطر في الرحلة، والخروج منهما يعني نجاح الرحلة. كما تحدث الأخير عن نوعية القارب المصنع محليا والذي يشكل مجرد ركوبه خطرا كبيرا لعدم توفره على الشروط الضرورية في قوارب الإبحار لمسافات طويلة، حيث تخصص في الغالب للصيد في البحيرات أو على الشاطئ فقط. وحسب عاشور يكفي الضغط بالقدم على قاعدة القارب المسطحة بشدة لينفجر بالماء ويغرق من فيه في لحظات وهو ما كان يحرص على عدم حدوثه طيلة الرحلة. سنعود ولو متنا لم يختلف اليامين وعاشور وغيرهما ممن حاورتهم الشروق بعنابة والطارف، في قرارهم بشأن معاودة الكرة والحرقة من جديد نحو الأراضي الإيطالية للوصول إلى تحقيق هدفهم، حيث شرعوا في التحضير لرحلات جديدة، بالرغم من كونهم قد أصبحوا مسجلين بالسجلات الأمنية بأكثر من دولة. وعن الأخبار المتعلقة بوفاة وفقدان العشرات من الشباب خلال رحلات الحرقة وتأثيراتها في قرارهم بمعاودة الكرة، أكد هؤلاء أنهم يحسبون كافة الاحتمالات المتعلقة بالمغامرة، بما فيها الوفاة، معتمدين على مقولة سائدة وسط البحارة مفادها أن »البحار إذا خرج إلى البحر فهو مفقود وحين يعود فهو مولود من جديد«. وقد أكد عاشور وكريم أنهما عازمان على الوصول إلى أهلهم بفرنسا مهما كلفهم الأمر، بعد أن تحولت القضية إلى »نيف وزكارة« وما يشجعهما على ذلك هو عدم تعرضهم لأي نوع من الإهانة بإيطاليا أو فرنسا، إلى جانب توفرهما حاليا على أماكن عديدة للذهاب إليها بألمانيا، بلجيكا وإيطاليا من خلال الحراقة الذين استقروا بها والذين مايزالون على اتصال دائم بهم. التوانسة يفضلون الجزائر للحرقة عرفت رحلات الحرقة بالقالة وسيدي سالم مشاركة عشرات الحراقة من تونس بعد دفعهم لمبالغ طائلة وصلت إلى حدود 2000 أورو عن الشخص الواحد. وتأتي مشاركة التوانسة في رحلات الحرقة من الشواطئ الجزائرية، بعد الإجراءات المشددة التي اتخذتها السلطات التونسية لمحاربة هذه الظاهرة والعقوبات الشديدة ضد من يقعون في قبضة حراس السواحل التوانسة، بالإضافة إلى رغبتهم في الحرقة مع الجزائريين الذين ينالون حسب بعضهم معاملات تختلف كثيرا عن المعاملات التي يحظى بها الأفارقة والتونسيون الذين يرحلون إلى بلدهم عقب توقيفهم مباشرة. وبحسب بعض الحراقة الجزائريين، فإن التوانسة يبدأون رحلة الحرقة باكرا، حيث يتوجب عليهم دخول التراب الجزائري بالحرقة سواء عبر الحدود البرية أو عن طريق البحر، خصوصا وأن منطقة سقلاب الحدودية على الساحل ما بين البلدين تعد سوقا مفتوحة لتجار المرجان وهو ما يسهل الأمر على هؤلاء لإيجاد التسهيلات لدخول مدينة القالة ومن ثمة الاتصال بمنظمي رحلات الحرقة عن طريق بعض البحارة من شباب القالة أو التوجه مباشرة إلى منطقة سيدي سالم التي أصبحت ذات شهرة كبيرة لدى جيراننا. ولم يكن هؤلاء الأجانب الوحيدين، حيث تم توقيف مغاربة وليبيين ضمن أفواج الحراقة بسيدي سالم والقالة، في حين أوقفت مصالح الأمن المختلفة بالطارف ما يفوق 75 مهاجرا غير شرعي من جنسيات مغربية، ليبية، مصرية وإفريقية مختلفة بالطارف خلال 2007 كان معظمهم يعدون العدة »للهدة« نحو سردينيا.