تقربت "النهار" ممن غامروا بحياتهم في سبيل البحث عن عيش أفضل عن طريق ما يسمى "ب "الحرقة" عبر قوارب الموت، إنها عينة عاشت أخطر لحظات حياتها في سبيل التنعم بنسمات "الجنة الأوروبية"، غير أنها لحظات كانت نتيجتها العودة إلى ارض الوطن إما حيا ترزق، أو إما في النعش، دون بلوغ الهدف المرجو... يوسف، ابن الحراش، احد الناجيين من حادثة غرق قارب كان يقل 12 شابا بالمياه الإقليمية الاسبانية، بعد إقلاعه من مستغانم، كشف لنا عما خفي من أسرار "رحلة الموت" التي بدأ التخطيط لها على مدار 10 أيام في الحراش بالعاصمة، ليتفق رفقة أصدقائه الأربعة من نفس المنطقة، اثر تلقيهم أخبار تثبت نجاح أبناء حيهم في العبور إلى الضفة الأخرى، اختيار نقطة الانطلاقة من الجهة الغربية و بالتحديد من سواحل مستغانم، يقول يوسف أن الاجتماعات التحضيرية للحرقة تطرقنا فيها إلى كيفية جمع المال، بعدما اخبرنا محمد المستغانمي الرأس المدبرة لجل عمليات الحرقة بالولاية، أن ثمن الرحلة يقدر ب 7 ملايين سنتيم، كما اخبرنا بضرورة تحويل العملة من الدينار إلى الأورو، مؤكدا لنا أن احتمالات فشل الرحلة منعدمة تماما...مما زادنا تيقنا بتحقيق حلمنا وهو الوصول إلى اسبانيا في وقت القياسي، وأقلع الأربعة في سيارة أجرة باتجاه مستغانم ، أين وجدوا محمد في انتظارهم. الرأس المدبر للحرقة استقبلنا في بيته لأنه هو الرأس المدبرة العملية الحرقة في الجزائر فقد تكفل محمد بإيواء الحراقة الأربعة القادمين من الحراش في بيته إلى حين مواتاة الظروف، كان محمد الذي يعيش رفقة أمه وأخته الصغرى يخطط هو أيضا للحرقة، ويعد الأيام بالدقيقة والثانية لليوم الذي يحين فيه مغادرة الوطن دون عودة، كما قام ومن معه بإقناع و من معه من شباب المنطقة بالأمر، وبمجموع الأموال التي تم تحصيلها، حيث قامت الجماعة بشراء قارب جديد بمحرك يتراوح ثمنه-يقول يوسف- بين 35 إلى 40 مليون سنتيم، كما عمد كل واحد منا إلى بيع نقاله للاستعانة بثمنه - يضيف يوسف - "لقد كنت الوحيد الذي احتفظ بهاتفه لأني غادرت العاصمة، وبحوزتي مبلغا فاق ال 11 مليون سنتيم إضافة إلى 200 أورو...و قد ساعدت أبناء حيي ببعض المال، لأنهم لم يتمكنوا من تحصيل المبلغ المطلوب...." و عن يومياتهم في تلك الفترة، يقول محدثنا " لقد قضيت معهم يومين قبل أن اضطر إلى دخول المستشفى لإجراء عملية جراحية على مستوى الأنف " و قد تزامن تواجد يوسف بالمستشفى و رداءة الأحوال الجوية، حيث اضطرت الجماعة المكونة من 12 حراقا إلى إرجاء الانطلاقة، التي تمت رسميا يوم الجمعة في حدود الساعة الواحدة صباحا، باتجاه شاطئ "الوريعة"، و بعد نصف ساعة امتطوا قاربهم، مجازفين بحياتهم في رحلة تستغرق 14 ساعة على الأقل. غير أنه مالم يكن في الحسبان أن تتوج رحلتهم بالفشل، حيث قال يوسف " جهلنا للطريق السليم على مدار اليومين الأولين من الرحلة، أدى إلى ضياعنا يوم الأحد..."، أما عما كان يدور بينهم من حديث في القارب، فقد أكد محدثنا أنهم " و بمجرد مرور يوم واحد على رحلتهم نفذ الزاد، و نفذت معه كمية الماء، المقدرة بخمس لترات، و قد أدركوا بأنهم تاهوا، فما عاد هناك من مواضيع للحديث عنها..."، حيث كان القارب في كل مرة يتخذ اتجاها مغايرا للذي كنا عليه، إلى أن بدأ الطقس في التقلب، ابتداء من الساعة الرابعة من صبيحة يوم الاثنين... فيما وضعت دراسة ميدانية البطالة كسبب رئيسي في استفحال الظاهرة أخصائيون يدعون إلى إنشاء خلايا استماع للشباب للحد من "الحرقة" دعا أخصائيون وخبراء السلطات العمومية إلى إنشاء خلايا استماع وطنية جوارية من أجل الحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية للشباب والتكفل بانشغلاتهم التي يتصدرها الحصول على مناصب للشغل وتحسين المستوى المعيشي. اختتم الملتقى الوطني حول الهجرة غير الشرعية، الذي أشرف عليه رئيس الحكومة عبد العزيز بلخادم، بجملة من التوصيات أهمها إنشاء خلايا وطنية وجوارية للاستماع والتكفل بانشغالات الشباب، حيث أوضح الخبراء والأخصائيون أن إنشاء مثل هذه الخلايا عبر مختلف بلديات الوطن يسمح بالاستجابة لتطلعات الشباب حيال البطالة والانشغالات الأخرى التي تدفع للهجرة غير الشرعية. واقترح الأخصائيون كذلك مضاعفة النشاطات الإعلامية والتوجيهية لفائدة الشباب حول مختلف الإجراءات المساعدة على الاستفادة من الشغل داعين في ذات السياق، إلى ترقية التكوين المهني واعتماده لتصور جديد يراعي قدرات المترشحين مع صرف النظر عن سنهم أو عن مستواهم التعليمي. وقد تم خلال الملتقى، عرض نتائج أولية لعملية سبر آراء حول ظاهرة الهجرة غير الشرعية وضعت البطالة في صدارة أسباب ظاهرة "الحرقة" بعدما تم استجواب أكثر من 300 شاب من طرف نفسانيين في العديد من مناطق الوطن. م ب من عرض بحر مستغانم...إلى المقبرة يقول يوسف " كان البحر هائجا، و الكل ذهب بعيدا في تفكيره، الموت في صورة الجميع، قبل أن تلمحنا باخرة تجارية هولندية كانت متجهة إلى فرنسا، إذ أدرك طاقمها أننا في خطر، فاقتربوا منا، مما أدى إلى تقلب القارب الذي كان يقلنا، و عندما رموا لنا الحبال، تمسكت أنا و عبد الرحمان المستغانمي بالحبال، ليتم سحبنا إلى سطح الباخرة"، أما عن التسعة الباقين الذين لا يعرف مصيرهم إلى غاية اليوم، و يضيف يوسف أنه وبمجرد انقلاب القارب، ثمة من هوى في الماء، فالبعض لا يجيد السباحة، فضلا على برودة المياه، و ثقل الثياب، فشل هؤلاء في النجاة، بينما الشاب الذي انتشلت جثثه، يقول محدثنا أنه كان ممسكا بي عندما رميت لنا الحبال، و قد شرب الكثير من المياه، لأنه لايجيد السباحة" و يضيف " أنا نجوت لأنني تخلصت من ثيابي العلوية، فبمجرد شعوري بأن القارب سينقلب، سارعت للسباحة" و قد انتهت رحلة الحراقة ال 12 بمواراة الشاب الذي كان متمسكا بيوسف اثر انقلاب القارب، التراب بمسقط رأسه بمستغانم، فيما أحيل يوسف وعبد الرحمان على محكمة الجنح بسيدي محمد حيث توبعا بتهمة "الركوب السري". 50 دينار فقط تدفع لأعوان حراسة الميناء لضمان نجاح الحرقة عبر الحاوية النوع الثاني من الحرقة، قلما تسجل فيه حالات وفاة، كونه أكثر أمانا، و الأكثر فشلا أيضا، وهو الحرقة عبر الحاويات، انتقلنا إلى محيط ميناء العاصمة، و تحدثنا إلى بعض الشباب الذين كانوا يرصدون الحركة هناك، ليكشفوا لنا عن كيفية الولوج إلى الميناء من مداخله الرئيسية، و كيف تخترق الحراسة المشددة ببعض الدنانير، وكذا كيفية الاحتيال على مفتشي الحاويات، إلى جانب التطرق لموضوع نجاح حراقة الحاويات في الوصول إلى الضفة الأخرى، إذ يعتبر حراقة الحاويات على دراية دائمة بمواقيت دخول السفن و خروجها، حركة أعوان الحراسة، عددهم ومواقيت مناوبتهم، حيث يقول محمد ابن باب الوادي، 26 سنة، " أنه سبق له و أن جرب الحرقة مرتين...عبر البواخر التجارية التي ترسو بالميناء ليلا، و تقلع صباحا، لذلك فإن عملنا غالبا ما يتم في الليل، وبعد التزود ببعض المستلزمات، نضع لباسا رثا فوق لباسنا الأصلي تحسبا لأي تمزق يصيب ثيابنا الأصلي الذي نظهر به في الضفة الأخرى"، فبعد تحديد الحاوية التي سيتم شحنها رسميا في الباخرة بناء على المعلومات المتوفرة، فإننا نرصد تحركات أعوان الحراسة الذين يجوبون الميناء في مجموعات مكونة من 5 أفراد يجرون كلابهم معهم، وعند شعور أحدهم بالتعب، يخلفه آخر...لذلك فإننا نترقب انشغالهم بذلك وابتعادهم عن المكان، لنسرع إلى الحاوية و نختبئ خلف السلع.." فهذه الطريقة محفوفة بالمخاطر و قلما تتوج بالنجاح، إلا أنها تبقى الطريقة الأكثر نجاعة من أي طريقة أخرى"...و يشير محمد في معرض حديثه إلى أنه يعرف الكثير من أبناء الديار الخمس "الساميزو" ممن نجحوا في الوصول إلى الضفة الأخرى، جراء اغتنامهم فرصة إقامة المعارض التي عند انتهائها تشحن السلع لإعادتها إلى بلادها..." وعن سر الولوج إلى الميناء، كشف لنا فارس ابن الحراش، " إن دخولنا الميناء هو أمر سهل جدا، إذ يتم فقط بدفع 50 دينارا لعون الأمن الواحد.. ليمهد لنا الطريق" و يوضح " إن أعوان أمن الميناء يعرفوننا جيدا، و ثمة اتفاق ضمني بيننا، ندفع المقابل و نمر دون مشاكل" و عن خطورة ما يقومون به يقول يوسف " هم يعرفون مع من يتعاملون، و لايثقون في من هب ودب"، و بالمقابل يلتزم الحراقة بالتكتم في جلسات محاكمتهم، و في رده عن الأسئلة المتعلقة بكيفية الدخول، يكشف يوسف أن ذلك يتم عن طريق القفز من السياج. نحتال على مفتشي الحاويات...بدهن الصفائح الحديدية يعترف فارس بأنهم يحتالون على الأعوان المكلفين بتفتيش الحاويات قبل شحنها في الباخرة، ليضيف قائلا " نقوم بشراء قطعة كبيرة من ورق كرتوني بمبلغ 500 دينار، ثم نعمد إلى دهنها بألوان شبيهة بلون الحاوية، ثم نحمل زادنا و نسلك الطريق الذي اشتريناه ب 50 دينارا فقط...ثم نفتح الحاوية، أو تكون مفتوحة لحظات قبل تفتيشها، ونأخذ قطعة الكرتون التي تحدث فيها طيات تجعلها تبدو و كأنها أحد جوانب الحاوية، و هي قطعة نختفي وراءها، و نلتزم الصمت أثناء مرور أعوان التفتيش، الذين يسلطون الضوء عبر كافة جوانب الحاوية، غير أن صمتنا يؤكد لهؤلاء و كأن الحاوية الفارغة...ليلجؤوا إلى تشميعها". و عند ابتعادهم نتوزع عبر أركان الحاوية تفاديا لميولها أثناء رفعها...مثلما حدث معنا في المرة الأخيرة، حيث رفعت الحاوية مباشرة بعد تشميعها، مما لم يعطنا وقتا للتوزع... و مالت الحاوية، و اكتشف أمرنا...يضيف " لقد كان الوقت في غير صالحنا..." ويكشف يوسف أن الحراقة قد غيروا طريقة الحرقة باستعمال الكرتون، و لجأوا إلى صفائح الحديد، تقارب مساحتها مساحة مدخل الحاوية، و بالتالي تبدو الحاوية فعلا فارغة، حيث أكد نجاح العديد باستعمالهم هذه الطريقة، بالرغم من أنها خطيرة عن سابقتها، من خلال تعرض أصحابها إلى خطر الاختناق، إلا أنهم غالبا ما يقومون بإحداث ثقب على مستوى الصفيحة قصد دخول الأكسجين. الصيادون يطالبون بأموال أخرى...في حال نجاح الحرقة في حديثنا مع الحراقة، كشف لنا هؤلاء عن طريقة أخرى من طرق الحرقة، فالكل يحدثنا "عن احد" يتكفل بمهمة إيصالهم إلى الوجهة المقصودة، و يلقي بهم بالقرب من المياه الإقليمية، دون أن يتم تحديد هوية صاحب القارب، الذي لا بد أن تتوفر شروط الإلمام بالملاحة والصيد البحري إلى رصد حركة السفن وقوارب حرس السواحل ، ومواقيت تجوالها ، و هو الشيء الذي لا يمكن أن يمارسه بحرية غير الصيادين، الذين – حسب اعترافات الحراقة - و جدوا في نقل "الحراقة" بواسطة قواربهم تجارة أكثر ربحا مما يجد به البحر عليهم من خلال الصيد. يقول محمد " إن الكثير من البحارة يقصد هنا الصيادين هم من يتولى إيصال الحراقة إلى الضفة الأخرى، مقابل مبالغ مالية، تتراوح من 5 إلى 10 ملايين سنتيم حسب إمكانيات الحراق" و في حال نجاح الصياد في إيصال الحراق إلى وجهته، فان الصياد يطالب الحراق بأموال أخرى...". أما عن الصيادين المعروفين في العاصمة بالتجارة في أرواح الشباب، أكد محدثونا أن البحار العاصميين يتم اجتنابهم، و نلجأ إلى الاستعانة بصيادي الجهة الشرقية من الوطن، مثل صيادي كل من منطقة زموري، دلس ، و عنابة، فصيادي هذه المناطق لا يترددون في القبول بنقلنا، كونهم ذوي احترافية في نقل الحراقة.