شهدت ولاية عنابة في الآونة الأخيرة إقبال العديد من الشباب الذين قرروا ركوب زوارق الموت انطلاقا من شواطئ هذه المنطقة التي أصبحت قبلة لكل من يريد أن "يقطع البحر" بالنظر إلى قربها من السواحل الإيطالية، والطريق إلى سردينا كأقرب نقطة من إيطاليا يبقى محفوفا بالمخاطر، في وقت اختار فيه هؤلاء الشباب الوصول إلى هناك بأي ثمن حتى لو كان الحياة نفسها. "صوت الأحرار" رافقت حراس الشواطئ انطلاقا من ميناء عنابة، حيث تم استرجاع 24 شابا في الحدود البحرية بين الجزائر وإيطاليا، كانوا محتجزين على متن باخرة إيطالية "قارديا فيننزا" والتقت بالعديد من "الحراقة" الذين حالفهم الحظ في العودة إلى الجزائر بعد النجاة من موت أكيد في عرض البحر. روبورتاج: عزيز طواهر في مهمة شبيهة بالمستحيلة تتواصل مجهودات حراس الشواطئ بميناء عنابة من دون انقطاع من أجل تقصي المهاجرين غير الشرعيين الذين أصبحوا يتوافدون على هذه المنطقة أفواجا أفواجا بحثا عن حياة أفضل يتوهمون أنها موجودة وممكنة وراء البحار، لتتحول بذلك مهمة هؤلاء المجندين على طول الشريط الساحلي من حماة للحدود البحرية إلى شرطة بحرية تسعى جاهدة لإنقاذ "الحراقة" الذين عادة ما يلقون حتفهم في عرض البحر بعد تعطل محرك الزورق أو حدوث أي عطب بحكم أن هذه الزوارق غير صالحة وتحمل أعدادا بشرية تفوق الحجم المعقول. كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا من يوم 14 جوان 2009، عندما استقبلنا حراس الشواطئ بعنابة، في صبيحة هذا اليوم وعلى عادته كان الرائد لحاق عبد الخالق القائم على رأس المجموعة الإقليمية لحراسة الشواطئ بعنابة على أهبة الاستعداد رفقة فريقه البحري، خاصة في هذه الفترة من السنة التي تشهد تزايدا غير مألوف لمحاولات الهجرة غير الشرعية انطلاقا من شواطئ عنابة، وبعد أن رحب بنا لم يتردد هذا الرجل في القول "إننا مجندون منذ أكثر من أربعة أيام بسبب الأعداد الهائلة للحراقة الذين يتم رصدهم بين الحين والآخر، تصوروا أننا نعمل 24 ساعة على 24 ساعة وأننا ضحينا حتى بعطلة نهاية الأسبوع". في تلك اللحظة بالذات كان الرائد لحاق يحدثنا عن توقيف 39 "حراقا" في اليوم السابق، وعن توقيف فريق آخر متكون من 23 "حراقا" يوم 14 جوان تتراوح أعمارهم بين 18 و33 سنة تم رصدهم في حدود منصف الليل و15 دقيقة وتم توقيفهم على الساعة الثالثة صباحا و40 دقيقة في الوضعية البحرية "36 درجة"، "59 شمال"، و"007 درجة"، "48 شرق"، بما يعني واحد ميل بحري شمال رأس الحمراء، هذا الفريق الشبابي القادم من عرض البحر فضل الخروج من شاطئ "جوانوا" العنابي، ليتم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة وتحويلهم على وكيل الجمهورية. أما نحن فكنا بانتظار فريق من الحراقة يتكون من 31 شخصا ومباشرة بعد هذه الشروحات، تصل باخرة "الوافي" محملة بهؤلاء الشباب لينزلوا بميناء عنابة، واستنادا للشروحات التي قدمها لنا قائد الوحدة حرس الشواطئ 355 النقيب محي الدين بوخاتم، فقد تم إنقاذ الحراقة البالغ عددهم 31 شابا من موت أكيد، خاصة بعد صعود الماء إلى الزورق الذي كانوا على متنه بسبب الثقب الموجود فيه، طول القارب يبلغ ثمانية أمتار، لونه أزرق وهو من صنع تقليدي، 16 من هؤلاء الشباب ينحذرون من ولاية عنابة، 2 من الطارف، 2 من الجزائر العاصمة، 2 من قسنطينة وشابان من باتنة. النقيب محي الدين تحدث عن "الحراقة" الذي كانوا معه لأنهم اضطروا إلى توزيعهم على فريقين بسبب عددهم الهائل، حيث تم ضم 17 "حراقا" إلى الوحدة الأولى و14 "حراقا" إلى الوحدة الثانية التي تكفلت أيضا بجر القارب وقال "لقد تنقلنا إلى عين المكان بعد حصولنا على معلومات تفيد بوجود قارب في الوضعية 37 درجة، 28 شمال، 007 درجة، 57 شرق، أي على بعد 45 ميل بحري شمال عنابة، في رأيي كانوا كلهم سالمين باستثناء شابين اثنين كانوا يعانون من كسور ومجبسين على مستوى اليد، سن هؤلاء الشباب يتراوح بين 19 سنة و31 سنة. 50 ألف دينار جزائري يدفعها كل "حراق" وشهادات حية على أفواه هؤلاء نزل هؤلاء الشباب الموزعين على دفعتين من الباخرة وهم يرددون "لقد تم إنقاذنا من الموت بعد أن صعد الماء إلى الزورق، نحن فقراء ولا نملك المال، لذلك قررنا الحرقة بحثا عن حياة أفضل"، كثيرون منهم من فضلوا الامتناع عن الكلام، كانوا متعبين من رحلة دامت قرابة 24 ساعة، بعد ذلك تم اقتيادهم إلى المحطة البحرية الرئيسية لميناء عنابة لحراس الشواطئ لتحرير محضر سماع الذي يكون في أغلب الأحيان مسبوقا بفحص طبي شامل من طرف طبيب تابع لمصالح الحماية المدنية. خلال تواجدنا بالمحطة حاولنا الحديث معهم فرفضوا الخوض في التفاصيل التي جعلتهم يفرون من أرض الوطن على متن قوارب الموت، واكتفى بعضهم بالتنديد والصراخ ورفض التقاط الصور، فيما عبر البعض الآخر عن تذمرهم من الأوضاع المعيشية وحصر مشكلته في الفقر و"الميزرية" كأهم دافع وراء قرار "الحرقة"، أما فيما يتعلق بأحد الشباب الذين كانوا مجبسين على مستوى اليد، فقد رفض رفضا قاطعا الحديث، كانوا أغلبهم من أبناء عنابةوسكيكدة، يرون في "الحرقة" سبيلا لحياة أفضل وراء البحار، فإما الموت أو العيش هناك. محاضر الاستماع بدورها أفصحت عن كثير من التفاصيل، فقال محمد "لم يكن في الزورق أية وسيلة للحماية ولا أدري إن كان لهذا الزورق وثائق أم لا"، رضوان القادم من سكيكدة والبالغ من العمر 31 سنة، يعمل خبازا ولا يحمل وثائق معه، قال إنه لا يعلم أي شيء عن مصدر الزورق وكل ما فعله هو انه دفع مبلغ 50 ألف دينار جزائري للإبحار نحو إيطاليا، رضا، قال إنه "يحرق" للمرة الثانية بعد أن جرب حظه سنة 2008 وها هو يفشل مرة أخرى، لم يدفع أي مقابل للإبحار، هو من مواليد 1988 بسكيكدة، ركب الزورق الذي انطلق من شاطئ سيدي سالم بعنابة نحو حياة أفضل أو مصير مجهول، فهو لا يدري، وكان يردد "في وسط الطريق انشق القارب ودخل الماء". حمزة من مواليد 1979، شاب بطال من سكيكدة، قال إنه لا يعرف مكان خروج القارب، دفع 50 ألف دينار جزائري وليس له أي معلومات أخرى، المهم الحرقة، رشيد من قالمة، عمره 30 سنة، أعزب وبطال ولا يحمل أي وثائق، دفع 35 ألف دينار جزائري، سفيان عمره 22 سنة قال "إنه مات بالبرد" وشكر حراس السواحل على تدخلهم لإنقاذ حياته في عرض البحر، أما محمد من عنابة فقال إنه ساهم بمبلغ 20 ألف دينار...وربما يبقى أن العامل المشترك بين كل هؤلاء هو انعدام أدوات الحماية والسلامة على متن هذه التوابيت العائمة، بالإضافة إلى رفضهم التبليغ عن صاحب الشبكة الذي باعهم الزورق، أو ربما لأنهم لا يعرفون حتى من يكون، كل واحد منهم ساهم بقدر المستطاع لركوب البحر، من المجهول إلى المجهول، في وقت تخيط فيه شبكات وعصابات محكمة نسيجها للإيقاع بهؤلاء الشباب الذين اختاروا الموت عن وعي أو عن غير وعي. بعد أن يتم فحص "الحراقة" وتحرير مصدر سماع، يتم تحويلهم من المحطة البحرية بميناء عنابة إلى مقرر المجموعة الإقليمية التي تبعد عن الميناء بحوالي 500 متر، ينتظرون هناك لفترة معينة لليتم نقلهم مرة أخرى على مقر الأمن أين يتم التأكد من هويتهم اخذ البصمات، حينها يحالون إلى وكيل الجمهورية الذي عادة ما يطلق سراحهم بعد أن يحدد لهم موعد محاكمة، وفي حالات نادرة يتم حجز البعض منهم خاصة الانتكاسيين الذين يعاودون الكرة أو أولئك الذين ترتبط فعلتهم بالمخدرات أو غيرها من أنواع الإجرام، ويشار إلى أن عقوبة "الحراقة" قد تصل بعد المحاكمة إلى 6 أشهر حبسا نافذا. إجلاء 24 "حراقا" من السواحل الإيطالية في منتصف الليل بعد هذه العملية يتفاجأ الرائد لحاق باتصال آخر في حدود منتصف النهار يؤكد رصد "حراقة" يبلغ عددهم قرابة 27 شخصا، ليتم إرسال الفرق المختصة لاعتراض سبيلهم، وبعد مرور أربع ساعات داخل المجموعة الإقليمية تلقى الرائد لحاق مرة أخرى مكالمة مفادها أن حراس الشواطئ الإيطالية قد لمحوا "حراقة" جزائريين بالقرب من السواحل الإيطالية، حينها قرر الرائد السماح لنا بمرافقة وحدة 355 المنهكة من كثرة التدخلات رفقة النقيب محي الدين وكان الإبحار في حدود الساعة الخامسة والنصف مساء من ذات اليوم أي 14 جوان. أبحرت باخرة الوافي وبعد مرور أقل من ساعة يتغير برنامج الرحلة، حيث تم إبلاغ قائد الباخرة بتغيير المسار ومرافقة الباخرة التي كانت محملة ب 27 "حراقا" القادمة نحو ميناء عنابة والتي كانت تبعد عنا بأكثر من 30 ميلا في أول الأمر، بحكم أن الباخرة الإيطالية قد ألقت القبض على الجزائريين الذين كانوا بالقرب من سواحل إيطاليا وسيتم اقتيادهم إلى مراكز الحجز هناك، وبالفعل التقينا الباخرة وطاقمها على الساعة السابعة والنصف مساء ورافقناها لمدة 20 دقيقة، لكن ما حدث هو تغيير مفاجئ للبرنامج، حيث تلقى القائد مرة أخرى معلومات تفيد بالانتقال إلى الحدود البحرية الإيطالية لاستقبال "الحراقة" وتسلمهم من طرف الباخرة الإيطالية "قارديا فيننزا". انطلقت الباخرة مجددا لتشق طريقها في البحر، وفي حدود الساعة التاسعة والنصف ليلا كان اللقاء على بعد 60 ميلا بحري من ميناء عنابة، في الحدود البحرية مع إيطاليا، باخرة "قارديا فيننزا" كانت في الموعد، وطلب من القائد الجزائر أن يبعث زورقا صغيرا من نوع "زودياك" لاستلام 24 "حراقا"، بالإضافة إلى الزورق الذي كانوا على متنه، العملية تطلبت استنفار كل قوى الباخرة وتجنيد كل الحراس الذين نزلوا إلى البحر وخاطروا بحياتهم من أجل استلام هؤلاء "الحراقة" الذين كانوا مرفوقين بإمرأيتن. وقد اضطر الفريق العامل بالباخرة إلى القيام بحوالي ست رحلات لإجلاء كل "الحراقة" واسترجاع الزورق الذي سيذهب إلى مقبرة القوارب بالمجموعة الإقليمية لحراس الشواطئ بعنابة، وفي مغامرة كبيرة رهانها الحياة، انتهت العملية بعد جهد جهيد في حدود منتصف الليل، عملية التصوير والتقصي من طرفنا كانت جد صعبة لا سيما بعد أن بقينا قرابة 10 ساعات في البحر وخاصة في الأوقات التي كانت تتطلب توقف الباخرة في عرض البحر والعمل بجد من أجل التحكم في الأوضاع، وبالرغم من الدوار وما سببه لنا من أعراض، انتهت المهمة وعدنا أدراجنا على متن باخرة "الوافي" محملين بالحراقة، لترسو بميناء عنابة في حدود الساعة الثالثة والنصف صباحا. بالرغم من الكلل والتعب، إلا أن الفضول كان أقوى، ولعل ما دفع بنا مرة أخرى إلى حضور محاضر الاستماع التي قالت فيها فاطمة الزهراء وهي فتاة لا يتعدى سنها 19 سنة أنها لم تدفع أي مبلغ للحرقة وأنها وجدت نفسها على متن القارب وكانت تقترب بالفعل من إيطاليا لولا أنه تم رصدهم من طرف القوات الإيطالية، هي لا تذكر ساعة الانطلاق أو الشاطئ الذي شهد الإبحار، أما عبد العالي المولود سنة 1989 فقد صرح أن الإبحار كان من شاطئ سيدي سالم بعنابة، لنتفاجأ بأمه أمام المحطة جاءت للبحث عنه، لحظة لقاء صعبة وفرح لأنها وجدته على قيد الحياة، نبيل قال إنه دفع 50 ألف دينار للذهاب إلى إيطاليا، صالح البالغ من العمر 42 سنة بدوره قام بمحاولة يائسة بحثا عن حياة وراء البحار. غادرنا عنابة التي أصبحت تستهوي وتستقطب جموع الشباب الباحثين عن الجنة المزعومة، أسئلة كثيرة طرحناها قبل الروبورتاج وربما نكون قد أجبنا عن بعضها ليبقى لغز "الحراقة" كظاهرة استفحلت في المجتمع الجزائري قائما، وعلى المسؤولين والسلطات العليا في البلاد أن تفكك خيوطه، لإنقاذ هؤلاء الشباب الذين قرروا وبكل أسف ركوب البحر، مخاطرين بحياتهم التي جعلوا منها قربانا لافتداء ما هو غير موجود، مجرد أحلام تتداولها أفواه وتنقلها من هنا وهناك عن حياة أفضل وراء هذا البحر الذي لا يسمح بأي هامش للخطر، لأن كل خطأ يساوي الموت الأكيد.