لم تمرّ إطلالة الدكتور الداعية الكويتي الشهير طارق السويدان، عبر فوروم الشروق اليومي، ثم تراجعه عن أقواله عبر حسابه على الفايس بوك، من دون أن تحيي جدلا قديما، تجمّد لبعض الوقت، عن السحر والعين والمسّ، بعد أن ظن المدافعون عن هذه "الغيبيات" بأن معركتهم قد توّجت بانتصارهم الساحق، حيث أصبحت الرقية مهنة قائمة بذاتها، لا تنافس الطب فقط، وإنما تعوّضه، مدعمة انتصارها بتفسير بعض الأحاديث الشريفة، والإقبال الرهيب لأجل ممارستها والإيمان الطاغي بكونها علاجا أثبت نجاعته في بعض الحالات، بعد أن عجز الطب، حسب ممارسيها وطالبيها. هل للرقية أناسها واختصاصييها، هل لها تشخيصات، وهل لها طرق علاج محدّدة، بل هل هي من الدين، ثم لماذا لم يثبت ممارستها من كبار علماء الجزائر وعلى رأسهم الشيخ عبد الحميد بن باديس وعلماء الجمعية، ومالك بن نبي أو الشيخ أحمد حماني؟ وفي المقابل، هناك من الأطباء من يدعون إلى ترقيتها إلى المستشفيات، وأن تكون جنبا إلى جنب مع الطب، من أجل صحة البدن والنفس معا، وهناك من يضعها إلى جانب الطب النفسي، ولكن الغالبية يعتبرونها علاجا منفردا بعيدا عن المقررات الدراسية الجامعية التي تتأرجح بها بين الطب البدني والنفسي. وبين هذا وذاك، فرضت الرقية نفسها في السنوات الأخيرة، على المجتمع الجزائري، وواضح أن الدولة غير مهتمة بها، وسط تيهان عامة الناس، وجدل بين العلماء، يقرّون بشرعيتها ويختلفون في كيفيتها، وخاصة في المفوّض بممارستها وطريقتها، فكل المشعوذين يقدمون أنفسهم كرقاة شرعيين، والمرضى يطلبونها كما يطلب الغارق في أعماق البحر يد النجاة من الخيّرين ومن أهل الشر أيضا، ولاحظنا أن طالبيها لا همّ لهم سوى النتيجة حتى ولو جاءت بطرق غير شرعية، وهذا ما استندت عليه وزارة الشؤون الدينية في تعليمتها الأخيرة بمنع الأئمة من الرقية والحجامة في المساجد على وجه التحديد.
"الرقية" لم تُذكر أبدا في ملتقيات الفكر الإسلامي؟ لا جدال في أن الرقية والحجامة هي ممارسات جديدة على المجتمع الجزائري، فعندما أشعّت الصحوة الإسلامية في نهايات سبيعنيات القرن الماضي، لم تطلّ الرقية معها، حيث أخذت الصحوة بسرعة مسارها السياسي مع الراحلين الشيخ سحنون وعبد اللطيف سلطاني، وكان أول من كتب عنها ومارسها هو الشيخ أبو جرة سلطاني المحسوب على الإخوان، عندما كان إماما في جامع الفتح بسيدي مبروك بقسنطينة وأستاذ أدب عربي في جامعة منتوري، وقد بحثنا في سيرة شيوخ علماء جمعية العلماء المسلمين جميعا، من دون استثناء، وقرأنا كل أعداد المنتقد والشهاب، حيث كان الشيخ ابن باديس يردّ على أسئلة الجزائريين ويكتب باستمرار، ولم نجد للرقية أثرا، وكان الشيخ ابن باديس يحارب بقوة الطرقية وخاصة الشعوذة، ولم يحدث وان نصح بالرقية، وعندما مرض رحمه الله ولا أحد فهم سبب مرضه وفك طلاسم أعراضه، وبقي في السرير يصارع الموت لمدة ثلاثة أيام، لجأ إلى طبيبين أحدهما فرنسي وآخر جزائري هو بن الشيخ لفڤون، وربما فضل شيوخ الجمعية الذين عاشوا يحاربون السحر والشعوذة وكُتاب التمائم والطرقية، عدم الخوض في الرقية، حتى لا يستغلها المشعوذون كما هو الشأن حاليا، فممارسة الرقية لم تعد من صلاحيات الشيوخ ورجال الدين فقط، بل صارت بيد الجميع. سألنا الأستاذ الصادق مزهود، وهو أحد أشهر المشاركين باستمرار في ملتقيات الفكر الإسلامي في زمن عمالقة الفكر الجزائري الجميل، ومنهم العبقري مالك بن نبي والمفكر نايت بلقاسم والمفتي أحمد حماني، وهي ملتقيات شارك فيها كبار رجال الدين والفكر مثل محمد عمارة وعلي هويدي وعثمان أمين والشيخ الغزالي، فأكد بأن همّ العلماء في ذاك الزمن كان كيفية، منع المدّ الشيوعي والمدّ الرأسمالي، فقد تم طرح الاجتهاد في الدين، ولكن الفكر كان هو الطاغي، كانت محاربة الجهل والتخلف هي شغل الجميع، وليس المسّ بالجنّ، وكشف الصادق مزهود بأن ملتقيات الفكر كانت تساير طبيعة الحياة السياسية، وكان الهدف الأول هو كيفية استرجاع الشخصية الإسلامية، كان همّ مالك بن نبي هو مشكلات القرن في حضور عدد من المفكرين المستشرقين مثل الألمانيين هونكيه وهونرباخ، وبرغم حضور عدد من العلماء والأطباء والمختصين في علم النفس، إلا أن الرقية لم يسبق وأن طُرحت إطلاقا، في صلب الملتقيات ولا على حوافها حسب الأستاذ الصادق مزهود.
لا "مقياس" للرقية في الجامعة الإسلامية شاع في السنوات الأخيرة اختيار عامة الناس، من يرقيهم، ضمن المتخرجين من الجامعة الإسلامية الأمير عبد القادر، حيث تطمئن القلوب للحاصلين على شهادة ليسانس أو دكتوراه في الشريعة، لأنهم ملمون بالعلوم الشرعية وربما أكثر التزاما من البقية، وتستقبل الجامعة الإسلامية الأمير عبد القادر الطلبة من كل بقاع الجزائر، ومن كثرة الرقاة المتخرجين من الجامعة الإسلامية ظن الكثيرون بأن مقرّرا خاصا بالرقية الشرعية أو مقياسا كاملا موجودا في الجامعة الإسلامية، بالرغم من أن أول من وضع الحجر الأساس للجامعة الإسلامية الشيخ محمد الغزالي رحمه الله رفضها جملة وتفصيلا. وأعطى الدكتور عمار طالبي، وهو أحد أصدقاء المفكر مالك بن نبي، وأول عميد للجامعة الإسلامية في عهد الشيخ الغزالي، للشروق اليومي رأيه في الرقية وعن تغييبها عن الجامعة الإسلامية وبقية الجامعات الإسلامية بما فيها السعودية، فقال: "صحيح، أن الرقية موجودة في الأحاديث الشريفة، ولكن الناس تجاوزوا الحدود وجعلوها حرفة، وفتحوا لها عيادات ومحلات"، ثم نصح الدكتور عمار طالبي الناس: "كل رجل مؤمن بإمكانه أن يرقي نفسه أو يرقي ابنه أو زوجته، وهي دعاء لا يحتاج إلى متخصصين يسمون أنفسهم رقاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم سُمي بالأمين والصادق، ولا أحد أطلق عليه ولا على صحبه لقب الراقي". أما الشيخ محمد الغزالي الذي كان محاضرا في الجامعة الإسلامية بقسنطينة لمدة خمس سنوات كاملة، فعُرف عنه، نهيه للناس بتحويل الرقية إلى عملية فوضوية وشجّع على طلب العلوم والطب بالخصوص، والذين كانوا يتابعون حديث الاثنين الذي كان يقدمه خصيصا للمشاهدين الجزائريين، يذكر حادثة رواها على المباشر عن شاب زاره بمسكنه بقسنطينة وطلب منه أن يرقيه حتى يخرج من جسده جنا سكنه، فصاح في وجهه: "رجل طويل عريض مثلك، إبن الثوار، يسكنه جن، أغرب عن وجهي فأنت من تسكن الجن"، ورفض الرقية في نفس الدرس، وقال أن الدعاء هو الدين، والعلم هو ما دعا إليه الله ورسوله الكريم. وامتعض الشيخ محمد الغزالي من انتشار الرقية بشكل كبير وفاضح وفوضوي، واعتبر التركيز عليها إساءة إلى الدين وقتلا للعلم وإهمالا للطب. ولكن بمجرد ظهور التيار السلفي، تم نقل فتاوى الشيخ ابن باز التي لم تقرّ بشرعية الرقية فقط، وإنما نصحت بها، وقننتها حسب ما ورد في الأحاديث الشريفة ولدى السلف الصالح، وقدّمت مختلف طرق العلاج بالرقية الشرعية، مثل قراءة القرآن الكريم والنفث على المريض، والمسح بالريق والقراءة في الماء، ولكن علماء السلفية حاربوا ظاهرة امتهان الرقية أو تسمية إنسان ما بالراقي، ونصحوا بأن يرقي كل إنسان نفسه كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
يركزون على ما جاء في "إنجيل مرقس" اليهود والنصارى أيضا يرقون لطرد الشياطين سألنا الأستاذ الدكتور محمد بوالروايح، أستاذ مقارنة الأديان بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، عن الرقية في مختلف الأديان، فتساءل أولا عن مصطلح الرقية الشرعية، معتبرا إياه خاطئ، لأن الرقية لا يمكن أن تكون غير شرعية، وقال: لا بد أن أشير في البداية إلى أن استخدامي لمصطلح الرقية من منظور الأديان، هو استخدام تعميمي مجازي، لأن الرقية مصطلح إسلامي حسب ما تدل عليه نصوص السنة النبوية وأعمال الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، وبذلك فإنها بهذا الإسم تحمل كل المواصفات الشرعية المنصوص عليها، ولا تحتاج إلى وصف لفظي إضافي بكونها رقية شرعية، كما شاع في لغة المحدثين، لأن الرقية لا تكون إلا شرعية، وماعداها فهو شعوذة ودجل لا تبرره الشريعة الإسلامية، بل تحرمه مطلقا وتعدّ ممارسه ومتعاطيه مشعوذا خارجا عن مراد الشريعة قولا واحدا. والرقية لها وجوه كثيرة، ولكن أهل الصناعة جعلوا لها وجها واحدا أو يكاد، يتلخص في إخراج الجن بقراءة القرآن والتعاويذ الشرعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما استغلته بعض الأوساط في ترويج ثقافة "رقيوية"، أي متعلقة بالرقية، شبيهة بتلك التي عرفتها اليهودية والمسيحية، حيث نجد أن الرقية -خاصة في المسيحية- ارتبطت بشكل واحد وهو إخراج الشياطين، وهو الشكل الذي انتقل إلى البلاد العربية والإسلامية، حيث حصرت الرقية في علاج النفس من المسّ، وحرص بعض الدجالين المتاجرين باسم الرقية الشرعية على إيهام الناس بأن حياتهم مهددة من قبل الجن وأنه يصول ويجول في أفنيتهم وشوارعهم وبيوتهم ونفوسهم، وأنهم لا قبل لهم به ولا منجا منه إلا بالاستعانة بالرقاة الذين يملكون دون غيرهم القدرة على طرده من حياتهم وواقعهم برقية شرعية وغير شرعية في أغلب الأحيان. ويعتقد الدكتور محمد بوالروايح أنه لا بد على المسلمين أن يعودوا إلى الكتاب والسنة، وأن يعلموا أنه لا سلطان للجن على الإنس، وأنه مهما يكن لهذا الجن من تأثير عليهم فإنه لا يعقل ولا يقبل أن يصل إلى الحد الخطير الذي يحاول بعض الرقاة تصويره لمرضاهم. لقد ارتبطت الرقية عند المسلمين بإخراج الجن، وهو تماما ما شاع في اليهودية والمسيحية، ونحن نعلم أن هناك حالات من هذا القبيل يتحدث عنها الكتاب المقدس تتمثل في طرد المسيح لأرواح نجسة، مثل حادثة كفر ناحوم، حين صرخ المسكون داخل المجمع: "ما شأنك بنا يا يسوع الناصري؟ أجئت لتهلكنا، أنا أعرف من أنت، أنت قدوس الله"، فزجره يسوع قائلاً: "اخرس واخرج منه"، فطرح النجس الرجل وصرخ صرخة عالية وخرج منه، ويذكر إنجيل مرقس أنه -أي المسيح- "طرد شياطين كثيرة". وحتى على افتراض صحة الروايات المسيحية بأن المسيح -عليه السلام- كان يخرج الشياطين والأرواح النجسة، ولكنها ليس الجن بصفة الخصوص، لأن الجن ليسوا كلهم أرواحا نجسة، ففي عقيدتنا الإسلامية أن فيهم المسلم وغير المسلم، كما أن الشيطان رمز لكل شر يصيب الإنسان والحياة ولا يمكن حصرها في هذا الكائن الخفي، هذا علاوة على أن القرآن الكريم ذكر معجزات المسيح جميعها، وليس إخراج الشياطين من بينها.
رئيس بلدية في ولاية الطارف يسيّر بلديته بالرقية لم تذكر كل كتب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم رقى واحدة من بناته أو أبنائه، أو سيوفا حارب بها في غزواته أو بيتا سكنه، أو دابة ركبها، ومع ذلك يزعم بعض الرقاة ضرورة رقية بعض الماديات والتجهيزات، مثل السيارات الجديدة والفيلات، والمواليد الجدد، وانتقل الأمر إلى عالمي السياسة والرياضة. ونحن بصدد التحضير لهذا الملف، بلغتنا معلومات عن رئيس بلدية بولاية الطارف، جعل برنامجه التنموي معتمدا على الرقية، ولما سألناه هاتفيا عن الأمر، لم ينكر، ولكنه ردّ بسرعة الرقية دين والعين دين والسحر دين، دون أن يذكر بأن العمل والعلم دين، فمنذ أن أصبحت بلديته عاصمة للاحتجاجات من أجل الغاز وشق الطرقات والتهيئة والسكن الريفي بالخصوص، لجأ إلى فكرة لا تخطر على بال أحد أكدها لنا أحد أعضاء المجلس البلدي، حيث قام هذا المير بالاستعانة براق معروف قام برقية زجاجة ماء، صبّه رئيس البلدية في خزان الماء الكبير الذي يزوّد السكان بالماء الشروب، وظن رئيس البلدية أن حمى الاحتجاجات خفّت، وعندما عادت بقوة خلال الأسبوع الماضي، عاد لاستدعاء الشيخ الراقي، وطلب هذه المرة رقية سد الشافية الذي يزوّد بلديته وما جاورها بالماء، وكان شيخ البلدية قبيل فوزه في الانتخابات المحلية قد سكن بيت راق، أكثر مما كان يقدمه لسكان هاته البلدية المتخلفة تنمويا من برامج ووعود. أما في قرية زانة الفلاحية المتواجدة في بلدية زانة البيضاء في قلب ولاية بسكرة فقد زادت الجرعة عن حدّها، حتى صارت تعرف بمدينة الرقاة، فالمنطقة التي بها معهد لتكوين الأئمة، تحوّلت إلى تكوين الرقاة، فترك أهلها الفلاحة وتربية المواشي إلى الرقية التي يمارسونها مثل التجارة، بمقابل مادي يصل إلى 600 دج للحالة الواحدة، وقام أهل القرية بالإشهار للرقاة، فانتعشت التجارة الفوضوية من حراسة السيارات وبيع المأكولات الخفيفة في القرية، وتحوّلت القرية المنسية إلى مزار لطلب العلاج بالرقية، فغادرها الأطباء نهائيا، واعتزل الفلاحون والرعاة مهنتهم بعد أن أصبح ما بين بيت لامتهان الرقية وبيت آخر، بيت لامتهان الرقية. وكما تبدأ الكتابة دائما عن الرقية، تنتهي دائما بعلامات استفهام؟؟