"قلعة بشطارزي" .. هذا العنوان اللافت الذي أثار فضولي ورسم في ذهني الكثير من الصور المغرقة في السواد.. تخيلت من مدينة عنابة حيث كنت أقيم، مبنى شامخا مقيدة أبوابه بالسلاسل ومحاطة بالحراسة المشددة .. بل وجزمت مسبقا بأن الدخول إليه من سابع المستحيلات. وحتى عندما اقترح الأستاذ احمد شنيقي أن أكون ضمن الطاقم الصحفي الذي سيغطي عودة المهرجان الوطني للمسرح المحترف سنة 2006 .. لم أكن متيقنة حتى وأنا على متن الطائرة المتوجهة إلى العاصمة أني سأتجول بين طوابق البناية الشامخة. تواضع الأستاذ إبراهيم نوال ونشاط فتح النور بن ابرهيم وابتسامة لامية وجدية إسماعيل ياحي وحكمة خديجة - رحمهما الله - وغيرها من التطمينات التي خففت من توتري ورفعت من معنوياتي قبل لقائه. صوت جهوري وحازم ونظرة واثقة وخطوات ثابتة .. الكل يصمت فجأة ويحييه .. ويرد بابتسامة ودعابة .. ثم سرعان ما يكسر صراخه سكون المسرح الوطني معاتبا فريق العمل على التأخر أو التعثر. لم يكن ينتظر موعد الندوة الصحفية ليسطر برنامجه في الوقت بدل الضائع ولم يكن يثق في اقرب المقربين منه بل يصر على متابعة كل كبيرة وكل صغيرة تتعلق بالمهرجان. بن ڤطاف - رحمه الله - لا يجامل في العمل ولا يخشى لومة لائم عندما يتعلق الأمر بالواجب المهني. بن ڤطاف لم يفرض علينا في "مجلة المهرجان" منذ تأسيسها على يد الإعلامي أحمد بن صبان أن نكون "شياتين" بل يحرص على أن تكون المجلة توثيقية ويردد "اكتبوا وانتقدوا.. المسرح بحاجة إلى نقد صحفي بناء وإلى صحفيين متخصصين في المسرح .. لقد فتحت الباب ورميت المفتاح في قاع البحر". وفعلا .. كانت أبواب "محيي الدين بشطارزي" مفتوحة على مصراعيها للجميع وكنا دائمي التردد على المسرح الوطني .. كان بيتا بالنسبة لنا ونجح في جمع شملنا "كعائلة" لم تتفرق إلى حد كتابة هذه الأسطر.. ليس "الريع" - كما قال البعض من خصومه - ما وطدد هذه العلاقة وإنما "حب المسرح" وتواضع الشيخ بن ڤطاف وإيمانه بالشباب وحكمته في معالجة المشاكل. بن ڤطاف وفي كل حوار يقول لي "يا ابنتي .. المبدعون الحقيقيون لا يتركون "حروبا كلامية" وإنما رصيدا إبداعيا يخلد ذكراهم". بن ڤطاف رفض أن نزوره وهو على فراش المرض .. أراد أن نحتفظ بصورة الرجل القوي والصارم.. رحمك الله وأسكنك فسيح جناته .. آمين.
الفنان هارون الكيلاني "المسرح قلعتكم يا شباب .. لن يغلق" "عمري 12 سنة قادم من الأغواط إلى العاصمة في رحلة فرحة حصولي على شهادة التعليم الابتدائي ,أنا وأختي بموقف الحافلات بديدوش مراد، لحظات ويبرز من بين سحابات الناس يحمل في يديه كيسا من الورق، وأصرخ : هناك .. هناك .. إنه الممثل، لا أذكر إلى يومنا هذا أي اسم أطلقته عليه، لكن لن أنسى كيف ترجيت أختي لتوقفه، وقبلني سي أمحمد على جبيني الصغير وأهداني تفاحة من كيسه. مروري أمام المسرح الوطني في تلك السن كان يقشر سؤالا دون تردد: هل يمكن أن أشاهد مسرحية في هذا المكان؟ وتمر السنين .. قدمت عرض في المسرح الوطني (نهر العطش) للكاتب سعودي بوزيد، ثم قراءة لمسرحيتي (الانتقال) بدعوة من صديقي أبو بكر سكيني في صدى الأقلام ورحلة أخرى مع المخرج حيدر بن حسين كممثل ولامست أركان بناية المسرح التي يأكلها الغبار والعتمة لعلني انزلق إلى زمن مواز، أشاهد فيه دروس الأداء والإخراج وأقتات من خبز ملائكة المكان المقدس. وفي ّإحدى ردهات المسرح قال سي إمحمد: المسرح لم يعد برجا مشدد الحراسة، البوابة مفتاحها في قاع البحر، إنه الآن قلعتكم يا شباب .. المسرح بحاجة إليكم إلى أرواحكم الفياضة".
الفنانة نادية طالبي "بن ڤطاف أذهل وأبدع في "وقائع سنين الجمر" "أمحمد بن ڤطاف كان أخا حقيقيا منذ عرفته في بداية مشوارنا المسرحي بالعاصمة، هو أحد أعمدة المسرح الجزائري. بن ڤطاف لم تكن المسؤولية هدفا له منذ شبابه وإنما كان مهوسا بالعمل الإبداعي ومحبا للمسرح حد الجنون. وأتذكر أنه كان يقصدني كل صباح في نزل المسرح بساحة بور سعيد حاملا أوراقا ويصر على أن يقرا لي ماكتب، وكانت تلك بدايات الكتابة المسرحية عنده، نتحدث عن أحد أعمدة المسرح الوطني.. لم يفكر يوما في المسؤولية، كان يحب ارتشاف القهوة التي أعدها وكنت أتحمل رائحة السيجارة التي كان يدخنها وهو يقرا ما كتب. وأذكر أن المخرج أحمد العڤون عندما كان يحضر لمسرحية "الفوضى" توجه إلى بن ڤطاف وطلب إشراكي لأني كنت قد تقاعدت فقال له بعد أن مدحني "الوحيدة التي يمكن أن ترجع إلى المسرح الوطني هي نادية طالبي". كان صديقا مقربا جدا، ومما اذكره أيضا أن المخرج لخضر حمينة عندما كان يحضر لفيلم "سنين الجمر" الذي افتك السعفة الذهبية في مهرجان "كان" كان يبحث عن ممثل صاحب صوت قوي يناسب دور "لخضر" الذي أداه اليوناني "يورغو" فأشرت عليه ببن ڤطاف.. ولكن حمينة أراد تجريب الكثير من الممثلين وفعلا قام بذلك واستقر اختياره على أمحمد بن ڤطاف رحمه الله كما توقعت. وعندما اتصل بي من فرنسا أسرعت إلى بيت بن ڤطاف لأنقل له البشرى وصعدت 14 طابقا في العمارة التي يسكنها.. وذكر انه فرح كثيرا بالخبر وربما كثيرون لا يعرفون أن بن ڤطاف هو صاحب صوت بطل "سنين الجمر" الذي أضاف له الكثير، عملت معه في عدة مسرحيات من تأليفه وبقيت العلاقة بيننا قوية بعد تعيينه مديرا للمسرح الوطني واختارني عضوا في لجنة تحكيم المهرجان الوطني للمسرح المحترف، لم يتنكر لأصدقائه ورفقاء دربه بعد تنصيبه على رأس المسرح الوطني.
الفنان طه العامري "ترك بصمته كفنان وكمسير لأكبر مؤسسة مسرحية" "لا يمكن اختزال حياة أمحمد بن ڤطاف رحمه الله في كلمات خاصة وأن علاقتي به قديمة وقوية. كل ما يمكنني أن أقوله أنه كان مولعا بالمسرح منذ كان عضوا في فرقة الإذاعة التي كنت اشرف عليها. ولكنه أراد بقوة أن يجرب صعود الركح ولقاء الجمهور على المباشر، وعليه قصد الراحل مصطفى كاتب وطلب منه ذلك، وطبعا قبل كاتب، وأصبح بن ڤطاف ضمن طاقم التمثيل في المسرح الوطني. بذل جهده لإبراز مواهبه وفرض نفسه في الساحة المسرحية، وبعد سنوات من التمثيل توجه إلى الكتابة المسرحية وتحول إلى أشهر الكتاب في العالم، والدليل أن نصوصه مثلت في مختلف المسارح العربية والأوروبية. بن ڤطاف لم يتغير مع أصدقائه عندما عين مديرا للمسرح الوطني ولا يمكن لأحد أن ينكر أنه ترك بصمة حقيقية خلال فترة تسييره للمسرح الوطني محي الدين بشطارزي".
الباحث عبد الناصر خلاف "لم يكن أكولا.. احترم المرأة.. وتومي كسبت الرهان " "عندما اختار عمي أمحمد فريق العمل معه في إدارة شؤون المحافظة المهرجان الوطني للمسرح المحترف، لم يبن اختياراته على المحسوبية والجهوية بل من منطلق الكفاءات والقدرات على الأداء المهني.. لقد انحاز أكثر للشباب لأنه كان يراهن عليهم ويعتقد جازما انهم البديل الأمثل بعد رحيله. لذا أقول إن الفريق الذي اشتغل معه طيلة سنوات يبقى الأحسن والأكثر فاعلية وطنيا في تفعيل المهرجانات الوطنية المسرحية، لم يكن عمي امحمد اكولا، كان يكتفي ببعض اللقيمات.. وكنا نتقاسمها معه في كثير من الأحيان... وأذكر أنه كان يتنازل لي عنها. ما لمسته شخصيا في هذا الرجل هو احترامه للجميع وبدون استثناء لكن المرأة الفنانة والإدارية والصحفية لها المكانة المقدسة، منحها كل التقدير والاحترام.. لم أشاهد طيلة وجودي معه وفي الظروف المهنية الصعبة والشاقة تصرفا يسيء اليها ولو بكلمة أو نظرة.. كم كان محتفلا بالمرأة كان يقول لها ابنتي.. اختي .. كل النساء أخواته وبناته. إن أهم الذكريات التي يحتفظ به بن ڤطاف في مساره الفني والحياتي هي زوجته، حيث يقول بالحرف الواجد: زوجتي .. ( يتنهد) أكثر من خمسين سنة تقريبا، لم نتحدث في يوم من الأيام بجدية عن الحياة ومشاكلها المادية مثل :أين نسكن وكيف نشتري قطعة أرض. هذه في نظره أشياء تافهة جدا، لذا فهو جد مرتاح، أحب ابنتي وأولادي لكن زوجتي هي رأسمالي.. تاج يوضع على رأسي.. امرأة طيبة احتملتني كثيرا.. قال ان أبناءه كانوا يحضرون التدريبات في سن مبكر. يحضرون العروض وهم يعرفون الممثلين والتقنيين وخلفيات اللعبة المسرحية، لكن لا احد منهم فكر في الدخول إلى عالم التمثيل، استطاع عمي أمحمد بن ڤطاف من خلال فتح فضاء المحافظة في الطابق الثاني بطريقة أمريكية أن يجعل منا عائلة واحدة - نحن عائلته -.. كان سعيدا جدا وهو يرانا نعمل ونعمل ونحدث تلك الضجة، وكان يحزن حين نغيب ويبقى الخواء يعم المكان ويسرع للاتصال بنا سائلا: متى تعودون؟.. كان يقول لي إن ضميري الآن جد مرتاح لأنني شاركت في بناء هذه العائلة وهذا المشروع، من الصعب جدا أن يراهن سياسي على فنان، لكن حدث أان الوزيرة خليدة تومي راهنت على أمحمد بن ڤطاف حتى توفاه الله وربحت هذا الرهان، لأن بن ڤطاف الإنسان والفنان كان أداة استقطاب، كان مخلصا للثقافة وللأصدقاء وللجزائر، رحمة الله عليك أيها الرجل الكبير كبر هذا الوطن"
الباحث محمد بوكراس "أسس جوائز وتقاليد ثقافية لم تستمر" نظم بن ڤطاف مسابقة بعنوان "صورة الثورة الجزائرية في المسرح العربي"، وتوجت المسابقة بثلاث بحوث مهمة طبع كل منها في كتاب. وكان أول المستفيدين المكتبة الجزائرية أثريت بثلاثة عناوين مهمة، وجاءت الفكرة من صديقنا عبد الناصر خلاف، وبمجرد الاقتراح على الراحل أمحمد بن ڤطاف وافق على المشروع وثمنه، وشرعنا في التفاصيل، تصميم قانون الجائزة وتوزيع الإعلان وتحديد أعضاء لجنة التحكيم وغيرها من التفاصيل، وأصبح الحلم حقيقة، للأسف لم يستمر الحلم، لكن ماذا لو استمر؟ لكنا قد كونا مكتبة مسرحية تعدادها عشرات البحوث الرصينة، كان مقر محافظة المهرجان في الطابق الثاني من مبنى بشطارزي يتحول ليلا إلى قاعة تحرير فيها عشرات الصحفيات والصحافيين، وبعد حوالي ساعتين من نهاية حفل افتتاح الطبعة الأولى، يدخل الراحل بن ڤطاف رفقة وزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي على طاقم التحرير (أحمد بن صبان، ناصر خلاف، سعيد حمودي، محمد شماني، وسيلة بن بشي، حكيم كاتب يرحمه الله، آسيا شلابي، المصمم فاروق درراجة، الكاركاتوريست باقي بوخالفة..) وكان هدف بن ڤطاف من هذه الخطوة هو القول بلسان الواثق أنني أتعامل مع فريق شاب، لقد كان منتشيا وقتها، وكان واعيا بأهمية هذه الخطوة، وفعلا بعد عشر سنوات نجد اليوم هذا الفريق الشاب يتصدر الأقسام الثقافية للجرائد الوطنية والقنوات التلفزيونية".