في هذا الحوار، يتحدث المطران عطا الله حنا، رئيس أساقفة سبسطية بالكنيسة الأرثوذكسية في القدس الشريف، عن زيارته للجزائر منذ سنوات، واكتشافه مدى التعلق الشديد للجزائريين بالقدس الشريف، وحملهم لها في وجدانهم، كما يتحدث عن مساعي الكيان الصهيوني لتهويد المدينة المقدّسة والاستيلاء على أراضيها ومقدساتها الإسلامية والمسيحية على السواء في إطار مشروعها لتهويدها، ويؤكد أن "داعش" تسيء بممارستها ضد المسلمين والمسيحيين معاً وإلى الإسلام وتريد تقديمه في صورة أخرى غير صورته الحقيقية القائمة على التسامح والتعايش وقبول الآخر. بدايةً، هل لك علاقة مع الجزائر؟ لقد قمت بزيارة الجزائر قبل 5 سنوات تقريبا بدعوة من المكتبة الوطنية الجزائرية، حيث شاركت في ندوة حول القدس، وكانت لي لقاءات مع مسؤولين وشخصيات دينية ورسمية جزائرية، وأتيحت لي الفرصة للتحدث عبر التلفزيون الرسمي الجزائري وعبر عدد من وسائل الإعلام الجزائرية، وأعجبت بدولة الجزائر وشعبها ورقيّ هذا الشعب وثقافته والتزامه بالقضايا الوطنية. ذهبت إلى الجزائر وكنت حريصا على أن أذهب ليس فقط إلى الجهات الرسمية والمؤتمر وإلى وسائل الإعلام، بل كنت معنيا بالاحتكاك بالناس، فكنت أتجوّل بالأسواق والتقي مع الناس، ولمست أن الشعب الجزائري شعبٌ راق ويحترم ضيوفه، وأنا شكرت الله أنني ذهبت إلى الجزائر ولم استمع إلى النصائح التي طالبتني بأن لا أذهب إلى الجزائر لمخاوف أمنية، لأن هذه الزيارة جعلتني أتعرّف على هذا الشعب عن قرب، إنه شعب يستحق كل التحية والاحترام.
كيف ترى موقف الجزائر من فلسطين؟ القضية الفلسطينية جزءٌ أساسي من المكوّنات الثقافية للشعب الجزائري، وعندما كنت هناك، وعندما كان الناس يرونني بالقاعات أو الشارع، كانوا يأتون ليسلّموا عليّ ويعبّروا عن تعاطفهم وتضامنهم مع الشعب الفلسطيني، الشعب الجزائري يعتبر القضية الفلسطينية قضيته الأولى ويدافع عنها بكل ما أوتي من قوة، وهو نفس موقف البلد.
للقدس أيضاً خصوصية لدى الجزائريين؟ القدس حاضرة لدى الجزائريين بشكل كبير، وأنا دُعيت إلى الجزائر للمشاركة في ندوة حول القدس، وقد تمحورت كل اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات حول القدس، فهو موضوع حي في الذاكرة الجزائرية، ولا ننسى أن هناك باب المغاربة والآثار الجزائرية في مدينة القدس، والجزائريون عملوا من أجل القدس، ولكن عندما نذهب إلى الجزائر نجد أن القدس حاضرة مع الجزائريين إيمانيا وحضاريا واجتماعيا ووطنيا وإنسانيا، وهم يتمنون أن يزوروا مدينة القدس وأن يصلّوا فيها.
الإجراءات الإسرائيلية تعمل على تغييب صفة القدس الإسلامية والمسيحية؟ يجب أن نؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي في مدينة القدس بعنصريته وهمجيته لا يميز بين الكنائس والمساجد، ولا بين المسيحيين والمسلمين، فهو يستهدفنا جميعا، يستهدف كل الشعب الفلسطيني ومقدساته، ولذلك يجب أن يكون ردنا على الاحتلال بمزيد من التفاهم والاتحاد ومزيد من الوحدة الفلسطينية والتآخي المسيحي والإسلامي وبالتالي إسرائيل تستهدف المسجد الأقصى المبارك وتهاجم المسيحيين والمسلمين ولا تميز بين هذا وذاك وهدفها الأساسي هو طمس المعالم العربية لمدينة القدس وتهويدها وتشويه وجهها العربي الفلسطيني الإنساني الروحي الإسلامي المسيحي لهذه الأرض المقدسة.
هل تخلى العرب عن العهدة العمرية ولم يستندوا إلى هذه الوثيقة التاريخية في الصراع مع الاحتلال؟ نحن نفتخر في مدينة القدس أن لقاء القمة الأول الإسلامي المسيحي بالعالم تم عندنا من خلال لقاء البطريرك صفرونيوس والخليفة العادل عمر بن الخطاب، ومن خلال العهدة العمرية التي سلمها عمر بن الخطاب إلى البطريرك الأرثوذكسي العربي الدمشقي صفرونيوس في مدينة القدس، هذه الوثيقة تاريخية، ولكن نحن لا ننظر إليها على أساس أنها وثيقة، بل هي ثقافة وهي ممارسة وعلاقة أخوية وإنسانية واحترام متبادل بين المسلمين والمسيحيين، للأسف الشديد نحن اليوم نشهد في منطقتنا العربية مؤامرة على هذا الإخاء الديني ووحدة الشعوب العربية، يريدون تفكيك الوحدة العربية وتدمير المجتمعات العربية، واليوم تلاحظ أن هناك مسيحيين يُعدمون ويذبحون، وكيف أن هناك رجال دين مسلمين ومسيحيين يقتلون، ودور عبادة إسلامية ومسيحية تدمر من قبل جماعات أنا اعتقد أنها لا تمثل الإسلام بأي شكل من الأشكال. بالتالي نحن اليوم أمام تحدي كبير جدا وخطير، هناك جماعات إرهابية تكفيرية ودموية لا تؤمن سوى بالذبح وبالقتل وانتهاك الكرامة الإنسانية وهؤلاء يسيئون للدين، ويخدمون المشروع الاستعماري الصهيوني في المنطقة العربية سواء تحدثنا عن داعش أو أخواتها من المنظمات الإرهابية، هذه جماعات مسخّرة لخدمة المشروع الصهيوني الذي يريد ضرب الوحدة العربية، وأن ننشغل بصراعات دينية ومذهبية لكي لا نفكر في فلسطين ولكي لا نعمل على استعادة فلسطين. أنا أعتقد اليوم، أن المسيحيين والمسلمين مطالبون أن نجدد ارتباطنا بالعهدة العمرية، بل إننا مطالبون اليوم بتجديد هذه العهدة العمرية وأن يكون لدينا عهدة متجددة من خلالها نقول إننا ننتمي إلى شعب واحد وأمة واحدة، وقضية فلسطين قضيتنا وتجمعنا مسلمين ومسيحيين في هذه المنطقة العربية وعلينا أن نرفض وندين كل من يسعى إلى تفكيك هذه المنطقة خدمة لإسرائيل والمشروع الاستعماري.
ما أخطر الإجراءات الإسرائيلية ضد المسيحيين في فلسطين؟ الاستيلاء على العقارات المسيحية في مدينة القدس مازال مستمرا ومتواصلا، والتعديات على دور العبادة والتدخل في الشؤون الدينية والمسيحية، هنالك الكثير من الممارسات غير المقبولة التي تمارسها إسرائيل بحق المسيحيين والكنائس المسيحية، إسرائيل نهبت وسرقت كنائسنا وأوقافنا، ومازالت تعتدي على هذه الأوقاف وهناك الكثير من الأراضي التي كانت تابعة للكنيسة تم الاستيلاء عليها عنوة وبطرق غير قانونية وغير شرعية، إسرائيل مارست ومازالت تمارس سياساتها العنصرية بحق كل الشعب الفلسطيني مسيحيين ومسلمين.
هل ترون أن الأعمال الإرهابية تسعى لترحيل مسيحيي الشرق؟ هذه الجماعات المتطرفة تقتل وتذبح المسيحيين، وقد شاهدنا ما حدث في ليبيا، حيث تم إعدام الشبان الأقباط بكل همجية، وكذلك في سوريا والعراق، وأيضا هذه الجماعات تعتدي على المسلمين، كل من لا يتفق معها حتى وإن كان مسلما تعتدي عليه، هؤلاء يعتدون على المسيحيين وغير المسيحيين، يستهدفون كل مكونات الأمة العربية وأنا قلت لك -وأنا دقيق في وصفي لداعش وأخواتها من المنظمات الإرهابية- هؤلاء يخدمون المشروع الصهيوني ولذلك هم يسعون إلى إفراغ المنطقة العربية من المسيحيين، لأن إسرائيل لا تريد أن يُسمَع الصوت المسيحي المنادي بالعدالة. إسرائيل لا تريد أن يكون هناك إخاء ديني ووحدة وطنية إسلامية ومسيحية، إسرائيل تريد أن تدمّر قيم التعايش بين الأديان في منطقتنا لكي يتسنى لها تمرير مشاريعها العنصرية في فلسطينوالقدس، بالتالي استهداف المسيحيين يصب في مصلحة إسرائيل وتدمير قيم الإخاء الديني يصب في مصلحة إسرائيل. ودعني أقول إني أعتقد جازما أن المستهدف الحقيقي هو الإسلام نفسه، صحيح أنهم يستهدفون المسيحيين والكنائس والأقليات والجماعات البوذية، ولكن المستهدف الحقيقي هو الإسلام نفسه، حيث يراد تشويهه والإساءة إليه وإبراز أنه دين ذبح وقتل وتقطيع أعناق وبالتالي وجب علينا مسيحيين ومسلمين جميعا أن نتصدى لهذا الإرهاب المنظم الذي يستهدفنا جميعا ولا يستثني أحدا.
أخيراً، ما هي رسالتك إلى الجزائر والجزائريين؟ أعتقد بأن دعاة الفتنة والتشرذم والتفكك في منطقتنا العربية وما يقومون به من سياسات مرفوضة من قبلنا، أعتقد أنها سحابة صيف ستزول وسيأتي يوم لن تكون فيه داعش وهذه التيارات التي تخدم المشاريع الصهيونية، لأنها دخيلة غريبة عن ثقافتنا، ليس هذا هو الإسلام، نحن تعايشنا مع الإسلام منذ القرن السابع للميلاد وما تقوم به داعش وأخواتها من المنظمات الإرهابية لا علاقة له بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد. أعتقد أن هذا التيار سينقرض ويزول، ولكن يجب التوعية ويحتاج إلى جهد في المؤسسات والجامعات والمدارس والمناهج، نحن نواجه هذه التيارات المتطرفة ليس فقط مواجهة عسكرية، وإنما مواجهة ثقافية من خلال الخطاب الإنساني والديني الوسطي الذي يحترم ويحبّ الآخر ويحترم الآخر ويتعامل مع الآخر بإنسانية. الجزائر يمكنها أن تكون نموذجاً ومدرسة ثقافية وفكرية، يمكنها أن تساهم في إفشال هذه المشاريع العنصرية الدخيلة التي هي هدفها تصفية القضية الفلسطينية، وتصفية الإخاء الديني والعلاقة الطيبة بين أبناء الأمة العربية الواحدة.