سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الكتاتيب القرآنية.. أنجبت أفذاذ الجزائر في عز الاستعمار وحطمت حملات التجهيل والتنصير كانت تتسم بالانضباط رغم نقص الإمكانات خلافا لاضطرابات قطاع التربية
صنعت الكتاتيب القرآنية التميز في أصعب المراحل التي مرت بها الجزائر، خلال الفترة الاستعمارية التي تميزت بثالوث الجهل والتجويع والترويع التي مارستها السلطات الاستعمارية التي كانت تسعى إلى تسليط كل أشكال التهميش والتقزيم لمواصلة هيمنتها على ثروات وعقول الجزائريين، موازاة مع تطبيق منطق التنصير والتغريب والتمسيح لتجريدهم من هويتهم الدينية والوطنية. وكان القدامى الذين مروا على حلقات تعلم الكتابة وحفظ القرآن في الكتاتيب يتعاملون مع الأمور بجدية، بفضل شخصية معلم القرآن الذي كان محل احترام وهيبة، وينظر إليه على أنه الخبير الذين يرجعون إليه لطلب العلم، والأخذ بمشورته لحل مشكلاتهم المختلفة، وفض الخصومات، لذلك كان يستشار ويؤخذ برأيه، وكان معلم القرآن يتميز بحفظ القرآن عن ظهر قلب، وملما ببعض المبادئ الفقهية، مع التحلي باللباس الذي يعكس الهوية الجزائرية، والاتصاف بالصدق والإخلاص والنزاهة والوفاء والأمانة. ورغم الهيبة التي كان يتميز بها معلم التعليم القرآني آنذاك، إلا أنه لم يكن يتلقى راتبا محترما مثلما هو سائد حاليا، في الوقت الذي يحرص أولياء التلاميذ على دفع مقدار مالي سنويا وفقا لظروفهم المعيشية، مع إمكانية تسديد حقوقه بكمية معينة من القمح والشعير والحطب وهدايا أخرى في المواسم الدينية والأفراح العائلية، على خلاف ما يحدث حاليا، حيث تدفع اجرة الأساتذة ومعلمي القرآن من قبل الدولة الجزائرية، بعدما أصبحت وظيفة التعليم العام والقرآني من الوظائف العمومية.
النهوض الباكر.. الصمغ.. الفلقة وأشياء أخرى ويستعيد الدكتور الناقد عامر مخلوف (أستاذ بجامعة سعيدة) مسيرته مع التعليم في الكتاتيب بكثير من الاعتزاز رغم عقوبة الفلقة لكل من اخفق عملية حفظ اللوحة، وفضل الرد عن الذين أرادوا تسمية جيله ب"الحرس القدم" (جيل الصمغ) من باب السخرية، معتبرا أن هؤلاء لا يعرفون كيف كانت أوْضاع المدرسة الجزائرية غداة الاستقلال، يوم عمد المستعمِر الفرنسي إلى تفريغها من كل ما يُعيننا على النهوض، مضيفا إن المدرسة لم تنطلق إلا اعتماداً على أولئك الذين افتكُّوا ما تيسَّر لهم من التعلُّم في ظروف صعبة ليدخلوا ممرنين ثم يترقوا تدريجياً بإمكاناتهم الخاصة المحدودة وبأجر زهيد. ويصف مسيرة التعليم في الكتاتيب قائلا "كان الواحد من الحرس القديم ينهض باكراً بثيابه الرثَّة ومعدته الفارغة في حر الصيف كما في عز الشتاء، يتوجَّه إلى الكُتَّاب وعيْناه على عصا الفقيه وعواقب الفلقة. يذرع اللوحة من أعلاها إلى أدناها، مندفعاً بكامل جسده في حركة دائمة إلى أمام وإلى وراء، يلجلج الآيات القرآنية وسط جلبة "القناديز" وصخبهم وهم من أعمار مختلفة وأصوات متفاوتة. جلوسا ساعات وساعات على حصير أحْرش بال. وكلما ختم حزباً أو نصفه، صَلْصَل اللوحة وزيَّنها بتعرُّجات السمق، وخرج على الناس مزهواً بشهادته التي لا تمنحه منصباً عالياً يدرُّ عليه ربحاً مادياً، إنما تمنحه تميُّزاً فيه ما يسعده من الاحترام والتقدير. ثم تأتي عطلة قصيرة يوم الأربعاء يفرح فيها المتعلِّمون ويُهْدون الفقيه (ربْعَة دورو). وهم يردِّدون رموز أيام الأسبوع منشدين "السبت سبُّوت والحد نبُّوت والاثنين شارة ولثْلاثاء مارة ولَرَبْعاء نفَّرحو والخميس نسَّرحو والجمعة فكَّارة لّلْواح".
طلبة اليوم مطالبون بأخذ العبرة من جيل الأمس والواضح أن جيل اليوم له من العوامل ما يجعله في موقع جيد من اجل ضمان التميز، والحرص على ضمان التحصيل الدراسي النوعي، خاصة في ظل توفر الإمكانات، وتعدد آليات تكنولوجيا الاتصال التي تجعلها تتدفق بشتى المصادر المعلوماتية، لكن ما يجب أن يتحلى به تلاميذ اليوم هو ضرورة أخذ العبرة من الجيل القديم الذي رفع التحدي في أصعب الظروف، بفضل تحليه بالعزيمة وروح التحدي، والانضباط الذي سمح بإنجاب العديد من الأفذاذ الذين تحولوا إلى إطارات فاعلة في الدولة، وقدموا الكثير بناء على ما تعلموه من علم وأخلاق ممن درسوا عندهم في أجواء توصف بالصعبة والاستثنائية، ما جعل البعض يصل إلى قناعة بأن "الأزمة تلد الهمة"، والعلم هو الآخر يؤخذ ولا يعطى.