صباح باكر، لا شيء في الأفق، سوى خيوط شمس باردة وخجولة.. أشعر بنسمة باردة تسري في المفاصل، صمت وسكون يكتنفان الطريق المؤدي من المدية العاصمة التليدة للتيطري باتجاه القصر العتيق القابع في أحضان المدينة الحجرية، قصر البخاري.. تمتد المسافة إلى 60 كلم جنوبالمدينة على مشارف “القبلة". يربط رفي سكون مجلل بالخشوع ضريح “سيدي الطويل"، في قلب أعتق حي في مدينة الشمس، وهو حي القصر العتيق المتواجد بأعالي القصر كالحصن المنيع المشفوع بحراسة تكاد تكون ربانية، وذلك ما يضفي على المقام المبجل أهمية بالغة لا تضاهى كونه القلب النابض لمدينة قصر البخاري. تتجمع به العائلات ويُدرس به القرآن وغيرها من تقاليد المدينة الضاربة في تاريخ حكم الدولة الرستمية، وهذا الضريح ليس كباقي الأضرحة المنتشرة بمختلف الولاية، لأنه يستقطب سنويا عددا كبيرا من المواطنين القاصدين لزاوية “حناشة" والقادمين من مختلف ربوع الوطن. الوصول إلى مقام “سيدي الطويل" وزاوية “حناشة" من مدخل المدينة يستغرق أقل من نصف ساعة، حيث استقبلنا رئيس الجمعية التي تعتني بالمقام وتحافظ عليه “محمد ثلجون" بحفاوة كبيرة وبصدر رحب ودعانا إلى “رفسة"، وهي الأكلة الشعبية للمنطقة، ولأول وهلة “مرحبا وقبل بداية الحديث يجب عليكم تذوق بركة الولي الصالح كشرط أول لزيارة المقام". الضريح عبارة عن بناء قديم يجمع في هندسته تاريخ المدينة التي عايشت مختلف حقب تاريخ الجزائر من الفتوحات الإسلامية إلى الاحتلال الفرنسي. تتوسط ساحة “زاوية حناشة" المدرسة القرآنية إلى يمين ضريح “سيدي الطويل"، وهي تختلف عن باقي مدراس قصر البخاري، كما حدثنا الساهرون على الضريح فهي قطب كبير في تعليم كتاب الله ومنارة للعلم والمعرفة على مستوى المناطق الجنوبية للمدية، بحيث تخرج منها عدد كبير من الأئمة والفقهاء المعروفين على المستوى الوطني كالشيخ بلحوت، وتقوم هذه المدرسة بتعليم قراءة القرآن. بالقراءات المتواترة المختلفة عن طريق حلقات خاصة، يتلقى فيها الدارس منهجا متكاملا للحفظ والمراجعة مع شرح للأحكام النظرية، ويقوم بالتدريس مشايخ زاوية حناشة بالطريقة التقليدية باستعمال الألواح الخشبية و«السماغ" وقراءة ورش. هذا، وتستقطب المدرسة المئات من أطفال وشباب قصر البخاري “القناديز" قصد تعلم كتاب الله. الأمر الملفت في هذا المكان هو عدد المخطوطات القديمة التي تعود إلى العصور الإسلامية الأولى المتواجدة في مكتبة الزاوية، ومن المخطوطات النادرة أيضا مراسلة من إمبراطور فرنسا “نابليون" لأهالي قصر البخاري، حيث يخاطبهم فيها باللغة العربية وهي وثيقة مهمة جدا ونادرة. وهناك الكثير من المخطوطات القديمة التي تعود إلى عدد من فقهاء المنطقة في بداية القرن ال 16، كما يوجد النسب الكلي والأصلي لكل القبائل العربية التي سكنت المغرب العربي، هذا، ويحافظ القائمون على الزاوية على هذا الإرث بشكل كبير مما ساهم في كتابة تاريخ مدينة قصر البخاري، من جانب يخر يسعى أعضاء جمعية حناشة للتراث الثقافي إلى نسخ عدد من هذه المخطوطات خوفا عليها من الضياع. لمن لا يعرف منطقة قصر البخاري، فهي غنية بالصناعات التقليدية النابعة من المجتمع المحلي، منها ما اندثر، ومنها ما بقي لكن بشكل مختلف عن الذي كان عليه في الماضي القريب وجمعية حناشة للتراث الثقافي تسعى للحفاظ على هذا الموروث من خلال جمع المواد النسيجية “الزرابي" والبرانس والحصائر والبرادع والقفاف والسروج.. وغيرها من الأشياء التي كانت المنطقة تعرف بها، ويتميز هذا المجتمع المحلي بعادات وتقاليد خاصة تتجسد عموما في نمط معيشته وطريقة لباسه والأدوات المستعملة. مع حلول المواسم الدينية مثل رمضان والمولد النبوي والأعياد، يجتمع عدد من مريدي “سيدي الطويل"، في حلقة الحضرة، وهي عبارة عن اجتماع يتم فيه ذكر عدد من الأشعار في حب الرسول (ص) ومن طقوس “الحضرة" أنهم يدعون بالمغفرة والتقرب إلى الله جماعة، ويصل عدد الحضور إلى المئات سنويا أثناء عقد “الحضرة"، وهذا ما يعكس الارتباط الكبير لسكان قصر البخاري عامة والقصر العتيق خاصة بمقام الولي، الذي عرف في حياته بالزهد والعدل في الحكم بين الناس، هذه الشخصية الغنية عن التعريف والتي لم يسبق لأي جهة رسمية ثقافية سياحية أو دينية الحديث عنها. هكذا تنتهي زيارتنا لمقام الولي الصالح “سيدي الطويل" وزاوية حناشة، هذا المقام الذي تسجل فيه الذاكرة الشفيهة للمنطقة قصص كثيرة عن كرامات شهدتها “خلوته"، غادرنا قصر البخاري وأسئلة كثيرة تدور في أذهاننا، منها هل ستتمكن هذه المنطقة من المحافظة على قصرها العتيق وعادتها.. التي تشكل خصوصية وتميز هذا المكان وسط هذا الزخم المتسارع من التحولات؟