عنوان هذه الكلمة هو عنوان رسالة صغيرة الحجم، قليلة الكم، ولكنها كبيرة الشأن، لأنها تتناول أخطر قضية تمس الإنسان، وهي قضية التيه الفكري والقلق النفسي اللذين أشقيا أوربا وجعلاها تتخبّط في حياتها، وهي تجرّ العالم كله إلى هذا التخبط، وتركسه، وهي تحسب أنها تحسن صنعا. إن أصل هذه الرسالة هو محاضرة ألقاها مؤلفها لدكتور جو تفرايد كونزلن في ملتقى مسيحي - إسلامي، عقد في مدينة عمّان بالأردن في 7 - 9 أفريل من سنة 1997.إن مما يزيد هذه المحاضرة قيمة، ويعطيها أهمية، ويمنحها صدقية أن صاحبها غير مطعون في نصرانيته، وغير متطفل على موضوعها، سواء في جانبها الديني، أو في شقها العلماني؛ فهو عالم من علماء النصرانية، وداعية من دعاتها، وخبير بقضاياها، وقد كان وقت إلقائه هذه المحاضرة يعمل أستاذا في مادة اللاّهوت والأخلاقيات الاجتماعية بجامعة القوات المسلحة الألمانية في مدينة ميونيخ، وهو بحكم النشأة والانتماء ابن مجتمع علماني، هو المجتمع الألماني، الذي هو جزء من المجتمع الأوربي، الذي تنغرس جذوره في النصرانية المجرفة، ولكنه أوغل منذ قرن ونيف في اللائكية، حتى استبدلها بالدين، وصارت تسمى "الدين العلماني" (ص29).لقد أحلّ الأوربيون العلمانية محلّ الدين، فصاروا يقدسونها أكثر مما يقدسونه، ويَعْنُون لها أكثر مما يخضعون له، ويتحاكمون إليها في جميع شؤونهم، وينزلون على حكمها ولو كان خاليا من أية حكمة، ولا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضت، ولو أباح هذا القضاء ما ليس مقبولا في أي دين، ولو كان دينا وثنيا، وما ليس معقولا في أي عُرف، ولو كان عرفا بدائيا. فهل من الدين القويم، أو من العرف السليم أن يتزوج ذكر بذكرٍ، وأثنى بأنثى؟ وهل من الدين القويم أو من العرف السليم أن يتزوج المرء بأخته، أو أن تحمل المرأة من بعل ابنتها؟ وقد وقع بعض ذلك في كنائس وبمباركة قسيسين!!إننا نؤمن أن المسيحية الحقيقية دين قويم، أنزله الله الخبير العليم على سيدنا عيسى عليه السلام، ليهدي به خراف بني إسرائيل الضّالة إلى الصراط المستقيم، ويعرّفهم بالله البرّ الرحيم، وينزهه عما ألصقه به اليهود من صفات كالعجز، والنقص، والجهل...ولكن هذه المسيحية ما إن انتقلت شمالا نحو أوربا حتى "أفسدها الفكر الإغريقي والتنظيم الروماني، أفسدها الغرب"(1)، فصار لله ابن، وأصبح هذا الابن إلها (❊) أو نصف إله.. وبذلك ارتكب الغرب أكبر الكبائر، حيث ألّهَ الإنسانَ، وأنسن اللهَ، (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا)، ثم انسحب هذا الضلال على من يسمّون في الكنيسة "القديسين"، حيث أصبغ عليهم من صفات الكمال والجلال ما لا يمكن لبشر أن يصل إليه.لقد استمرأ أولئك "القديسون" ما أحيطوا به من مظاهر "التقديس" فاسترهبوا الناس، وأوهمومهم أن بأيديهم مفاتيح كل شيء، فمنحوا لأنفسهم حق اللعنة، وحق الغفران، وحجروا على الناس أن يستعملوا نعمة العقل التي منّ الله بها عليهم حتى صار "الدين من أهم العوائق أمام العقل والمنطق، فحال بين الإنسان وبين التعبير عن ذاته، وبالتالي بينه وبين السعادة". (ص 24). وهذا ما جعل كثيرا من مفكري الغرب يرددون في أقوالهم وكتاباتهم أن "القسيس في كل بلد وفي كل عصر معاد للحرية (2)".صبر الغربيون حينا من الدهر على هذه المسيحية المنحرفة الخرافية، ثم بدأوا -شيئا فشيئا- يتجرأون على أباطيلها، ويثورون عليها فحاولوا أن يصلحوها عن طريق ما عرف في التاريخ الأوربي بحركات الإصلاح الديني، ولكنهم تبينوا -بعد أُمّة- أن هذه الحركات الإصلاحية ليست بأحسن مما جاءت لتصلحه، أي المسيحية المُؤَغْرَقَة والمُرَومَنَة، وتبيّن للعقلاء من الغربيين أن المسيحية غير قابلة للإصلاح، لأنها تفتقد المرجعية الأصلية، أي الإنجيل الذي أوحاه الله -سبحانه- إلى نبيه ورسوله عيسى -عليه السلام- فما يسميه النصارى إنجيلا، ليس إلا ما خطته أيدي بشر، ولهذا تنسب هذه الأناجيل إلى أصحابها، ولم يجد الغربيون مناصا من أن يتخلصوا من هذه الديانة المعادية للعقل، المناقضة للمنطق، المضطهدة لحرية الفكر، ونتج عن ذلك التخلص "فقدان الدين المسيحي لأهميته فقدانا كاملا" (ص25) والعجيب هو أن يسمي الفيلسوف الألماني هيرمان ليبيه هذا التخلص من المسيحية بأنه "تنوير ديني" (ص26).لقد ساير هذا "الإصلاح الديني" في أوربا تطور علمي، حيث راح العلم التجريبي يحقق إنجازات كبيرة، ويفتح آفاقا واسعة، فاكتشفت حقائق كونية، فصاح الغربيون: وجدناها، وجدناها، كما صاح من قبلهم أرخميد س: وجدتُها، وجدتها. وصاح أحدهم قائلا: "بدماغك القوي يا "فاوْست" صرْ إلها (3)".ظن الغربيون أنهم قد استغنوا عن الدين ب "العلم"، فاتخذوه "إلها"، وخرّوا له سجّدا، وعكفوا عليه، وتبتّلوا إليه، فإذا هم -بعدما ذهبت السّكرة وعادت الفكرة- يتبيّنون أن مثلهم كمثل من رأى سرابا فحسبه شرابا، فلما جاءه لم يجده ماء، ومآسي البشرية لا يمكن التخلص منها، وأدركوا أن "نبوّة الزمان الخالي من الدين لم تتحقق". (ص33)، وأن "معبد العلم أصبح عتيقا". ص(31)، وأن هذه "العلمنة أصابها الإعياء". (ص36) وأن ما كانوا يأملونه منها من "فهم للوجود وقوى الإيمان ذات توجه دنيوي". (ص30) لم ينالوه، بل أدى ذلك إلى "حدوث أزمة في الثقافة العلمانية للحداثة". (ص31).لقد زعم الغربيون عندما كانوا في قعر سكرتهم أن القرن العشرين سيكون "قرن الهندسة الاجتماعية"، أي أنهم سيقيمون مجتمعات قوية، متينة، كما يقيم المهندس الماهر أي منشأة هندسية، متينة الأسس والأركان، قوية البنيان، حصينة الجدران، مقاومة لأي زلزال أو طوفان؛ فإذا بهذا القرن ينتهي إلى البحث عما سماه المفكر الفرنسي المتأمرك روني ديبو "إنسانية الإنسان" بعدما عرف من الحروب، والتقتيل، والظلم، والعدوان، والقلق، والآفات الاجتماعية ما لا يعرفه الناس طيلة التاريخ، مما دعا المفكر الأمريكي النفساني هنري لينك إلى كتابة كتاب سماه "العودة إلى الإيمان"، ورحم الله الشاعر والمفكر الإسلامي المؤمن محمد إقبال، الذي قال:إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحيي دينَاومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينَاوصدق الله العليم، القائل: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون".وها هو الغرب بعدما أفسد المسيحية، واخترع العلمانية الفاسدة، لا يألو جهدا ولا يدخر وسعا في إفساد الإسلام، وفرض العلمانية علينا، وكل ذلك بواسطة بعض المسلمين، فنضل ونشقى كما ضل وشقي فنكون سواء. الهوامش:1- روجي غارودي: حوار الحضارات. ص36❊- هناك كتاب للباحث جيرالد ميسادي عنوانه "الرجل الذي أصبح الله"، انظر: زيب عبد العزيز: محاصرة وإبادة. ص81.2- كرين برينتون: تشكيل العقل الحديث. (عالم المعرفة. الكويت). ص207.3- روجي غارودي.. مرجع سابق. ص39. وعن أسطورة "فاوست" في الأدب الغربي، انظر: الموسوعة العربية الميسرة.