ها هو الكاتب محمد بن شيكو يعود مرة أخرى إلى دائرة الضوء، عقب منع صدور كتابه الجديد (دفاتر رجل حر)، ولعل ما يثير الغرابة في هذا الأمر أنه يتعارض مع السياسة الثقافية الجديدة الساعية إلى تكريس "حوارالافكار"، وأنه تزامن مع مشاركة الجزائر في ملتقى دولي بكندا، الذي أوصى خيرا بحقوق الإنسان التي تشكل فيها حرية التعبير ثالث الأثافي. كما تزامن أيضا مع استقبال الجزائر للشاعر أدونيس، وهي مبادرة إيجابية تعد لبنة في بناء صرح ثقافة قبول الرأي الآخر، تستحق الجهات الراعية لها كل الشكر والتقدير. * هذا ورغم اختلافنا في الرؤى السياسية والفكرية، فإنني أشعر -بصفتي مثقفا أحترم الرأي الآخر- بواجب تأكيد حقه في حرية التعبير، هذا الحق الذي كرسه الإسلام كقيمة أخلاقية، وجعلته الشعوب المتمدنة بعد معاناة كثيرة، ركنا أساسيا في وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي يتوجب على الجميع أن يعض عليها بالنواجذ. * * رغم أنني أختلف معك * نعم لقد كان الكاتب محمد بن شيكو أيام سنين الجمر، خصما لدودا للحزب السياسي المعارض الذي كنت أنتمي إليه، خاصة بعد تبنيه لخط المصالحة الوطنية، فأقصانا من فضائه الإعلامي القوي آنذاك، وكان يكيل لنا الضربات الموجعة الواحدة تلو الأخرى، بسلاح البهتان وأسلوب المغالطة اللذين تجازوا حدود أخلاقية الكتابة. كما استغل منبره الإعلامي مأساة منطقة القبائل لحاجة في نفس يعقوب، فزاد أوضاعها تفاقما بما كان ينشره من خطابات البغضاء والشحناء بين أوساط الشباب، الذي كان في الحقيقة في حاجة ماسة إلى من يوسّع مساحة التعقل في سلوكه، بدل الضرب على الأوتار الحساسة الجالبة للخراب، وما ينجم عنه من جنون، أوله غضب وآخره ندم. * ورغم هذا الرصيد من العلاقة المتوترة بيننا في الماضي، ورغم تباين طروحاتنا السياسية والفكرية، فإنني أقرّ له بحقه في حرية التعبير، وفي طرح أفكاره للرأي العام، ثم على المثقفين والكتاب والمواطنين أن يناقشوها بكل حرية، كل حسب قناعته وتوجهه الفكري، على أساس أن لا أحد يملك الحقيقة حسب مقولة الإمام الشافعي (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب). * إن الغاية من ذكر هذه الحقائق التي عشتها في الميدان كمناضل من أجل الديمقراطية، هي أن نتعلم كيف ندافع عن حرية من نختلف معه، ولتوضيح على أن احترام الرأي الآخر والتفاني في الدفاع عنه، لا يعني بالضرورة موافقته وقبول محتواه. فالاختلاف سنة الله في خلقه، وما دام ربنا قد كرمنا بالعقل -الذي لا يمكن أن ينشط إلا بتدافع الأفكار المختلفة- فلا مناص من احترام الرأي الآخر وتقديره وتقديسه. وليس من الحكمة أن نقبل بقمعه أيا كان المبرر، لأن قمع حرية التعبير هو تعطيل لعقول المثقفين، وتكسير لأقلامهم، وإبطال للفكر النقدي الضروري لترقية المجتمع، وإلغاء للنقاش الذي يولد في رحمه الحق والصواب، وتكريس لذهنية القطيع المميتة للشعوب على أساس "اعتقد ولا تنتقد". * * الحركة الإصلاحية وثقافة "انتقد ثم اعتقد" * ولعل ما تجدر الإشارة إليه في ثقافتنا الجزائرية تفطن الإمام الرائد عبد الحميد بن باديس إلى أهمية الفكر النقدي المفجر للعقل، حين دعا إلى نبذ ذهنية القطيع بمقولته المشهورة "انتقد ثم اعتقد"، فكان يحترم الرأي الآخر الناقد لخطه الإصلاحي، إلى درجة أنه كان ينشره في بعض صحفه تحت عنوان [ما يقولون عنا]، وقال في هذا السياق الأستاذ أحمد حماني: "... ولم يكن ليخطر بباله أن يكتم أنفاس أحد أو يكمم الأفواه أو يقيّد الحرية الفكرية أو يجبر الناس على أن يكونوا كالببغاوات يرددون ما يسمعون! بل قد ينشر في صحيفته حتى ما يقول عنه وعن أمته أعداؤهم تحت عنوان (ما يقولون) ولا يرد عليهم بل يكتب في الباب انه لا رأي له فيما يقولون"(1) * أما صنوه الإمام محمد البشير الإبراهيمي، فقد نوّه بمكانة المثقفين الحقيقيين لما لدورهم الناقد من أهمية في ترقية المجتمع، في الكلمة التي ألقاها بمدينة تلمسان حول "واجب المثقفين نحو الأمة"، جاء فيها على الخصوص: "... والمثقفون هم حفظة التوازن في الأمم، وهم القومة على الحدود أن تهدم، وعلى الحرمات أن تنتهك، وعلى الأخلاق أن تزيغ، وهم الميزان لمعرفة كل إنسان حد نفسه، يراهم العامي المقصر فوقه فيتقاصر عن التسامي لما فوق منزلته، ويراهم الطاغي المتجبر عيونا حارسة فيتراجع عن العبث والاستبداد"(2) * * حاجتنا إلى النقاش بدل مصادرة الفكر * لا شك أن أهم عقبة كأداء واجهت المسلمين زمن الانحطاط الفكري هي تعطيل العقل باسم الدفاع عن النص المقدس، علما أنه (أي العقل) يعد أعظم هبة منّ الله بها على عباده لتحقيق مهمة إعمار الأرض بصفته مستخلفا فيها، ولإعداد زاد الميعاد على أسس صحيحة. واشتد الصراع بين أنصار العقل الذين أنتجوا فكرا إنسانيا ساهم في بناء صرح الحضارة البشرية، وبين أنصار النقل الذين حصروا دور الإنسان في حفظ النصوص المقدسة، على قاعدة (كل من تمنطق فقد تزندق). * هذا ولا تزال تداعيات عصر الانحطاط تفعل فعلها في نفوسنا، وتحول دون استفادتنا من "حداثة الغرب" رغم أننا نعلم أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها. كما أن الصراع ما يزال قائما بيننا من أجل التوفيق بين الرواية والدراية، ويعتبر الدكتور محمد عمارة من المفكرين الإسلاميين الذين يعملون من أجل إعادة الإشراقة إلى إسلام العقل. * وفي سياق التجاذب القائم بين تياري الأصالة والمعاصرة، طفت على سطح الأحداث المصرية في التسعينيات من القرن الماضي، قضية فكرية خطيرة تجاوز دويها مصر والعالم العربي ليصل إلى أصقاع العالم، وكان بطلها الدكتور نصر حامد أبو زيد، الذي تجرأ على تخطي الخطوط الحمراء في مناقشته للنصوص المقدسة، حين اعتبرها نصوصا تاريخية، أي أنها لا تحمل صفة الخلود. وعلى اثر ذلك حوكم، وأصدرت محكمة الاستئناف بالقاهرة حكما قضى بالتفريق بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس سنة 1995م، على أساس ثبوت ردته، وقد أثار هذا الحكم القضائي القاسي زوبعة من النقاش تجاوز مداها الحدود المصرية. * وعلى اثر ذلك انهالت اتصالات الإعلاميين بالمفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة طالبة منه إبداء رأيه في هذه القضية الشائكة، فأجاب عنها بوضوح بقوله: "إن قضية الدكتور نصر أبو زيد هي قضية فكرية، مجالها الحوار الفكري. والمختصون فيها هم المفكرون والباحثون. وهي ليست قضية قانونية، يختص بها المحامون ودوائر القضاء"(3) * ورغم خطورة التطاول على العقيدة الإسلامية، فإن هذا المفكر الكبير لم يفقد توازنه، بل أوضح أن تعددية الآراء في الإسلام أمر جوهري باعتباره: "... سنة من سنن الله في الخلق والفكر والاجتماع الإنساني... فالإسلاميون سيكونون الخاسرين قبل غيرهم، إذا تم تقييد حرية الفكر. ومن مصلحتهم قبل غيرهم فتح أوسع أبواب الحرية أمام الجميع، فبحرية العمل والفكر الإسلامي سيكسبون الملايين... وعلينا أن نحارب الكفر والمروق والنفاق بسلاح الكلمة، والحجة والبرهان، وليس بمصادرة الفكر"(4) * * الحوار مع العلمانيين * أثارت محاضرة الشاعر العربي أدونيس وتصريحاته الصحفية في الجزائر ردود أفعال مختلفة، استنكر بعضها نقده للإسلام السياسي، بل وتجرأ البعض الآخر على الإنحاء باللائمة على مدير المكتبة الوطنية الذي استضافه، وعلى الصحف التي أجرت معه حوارات دافع فيها عن أفكاره العلمانية المعروفة لدى المثقفين. وفي الحقيقة فإن مثل هذه المواقف المتشددة تعيد إنتاج خطاب الإقصاء الذي يوفر التربة الخصبة للتطرف، كما أنها لا تنسجم مع رحابة الإسلام وتسامحه مع الرأي الآخر المؤكد عبر العصور. إن قوة الإسلام ليست في الإقصاء والإلغائية، بل في الحوار والجدال بالتي هي أحسن، مع جميع التوجهات الفكرية، وقد أكد ذلك المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة حين قال: "إن التعددية الفكرية -في المنظور الإسلامي- تسع العلمانيين، بل والشيوعيين.. والمشروعات الفكرية تعالج بالدراسات الموضوعية، لا بتكميم الأفواه.. والذين يريدون تكميم أفواه خصومهم ليس من حقهم الشكوى إذا كمم خصومهم أفواههم !!.. فالحل هو في التعددية.. وفي الحوار"(5) * * الحل في الحوار * واعتبارا لما ذكرناه فإن مناقشة مؤلفات الكتاب هو شأن المثقفين، وليس شأن موظف وزارة من الوزارات، لأن المثقف يناقش من أجل تبيان الخطأ والصواب، ويقرأ قراءة نقدية لترقية الذوق السليم ومن أجل تكريس أخلاقيات الكتابة الراقية، في حين أن قراءة أعوان الدولة تهدف إلى البحث عما يبرر منع النشر ومصادرة الفكر، بحجة الحرص على أمن الدولة ورموزها. ومن نافلة القول التذكير بحق كل مواطن أو مسؤول في رفع دعوى قضائية ضد أي كاتب يخدش سمعته أو يسيء إلى عرضه. * * إن السفينة لا تجري على اليابس * وأستسمح معالي وزيرة الثقافة للتعليق على ندوتها الصحفية الأخيرة، ولنا في مسارها النضالي ما يجعلنا نطمئن إلى رحابة صدرها، الذي سيسع رأينا المخالف لتصورها. لقد فاجأتنا بقرارها القاضي بمنع صدور الكتاب المذكور، بالنظر إلى رصيدها النضالي من أجل الديمقراطية الذي كان يعتبره الرأي العام ذخرا للمسيرة الشاقة لهذا النضال، فكان قرارها أشد وقعا علينا من الصاعقة! * وللتذكير، فإنها قد نشرت أفكارها السياسية والفكرية قبل وصولها إلى سدة الحكم، وقد حمل كتابها((6 من النقد اللاذع لبعض مؤسسات الدولة، وبعض رموزها السياسية والفكرية ما ينطق البكم ويسمع الصم! ورغم ذلك لم تضايقها السلطة والدولة آنذاك، ولم يصادر الكتاب. وقد فرحنا لذلك أيّما فرح، وهللنا لرحابة صدر الدولة الذي بدأ يسع "الرأي الآخر"، واعتبرناه بداية نهاية الوصاية الفكرية، وعربون [عفا الله عما سلف] وفاتحة عهد احترام الرأي المخالف. كما توسمنا خيرا في وصولها إلى سدة الحكم، وكنا متأكدين على أنها ستكرس منطق [رغم أنني أختلف معك فإنني مستعد أن أموت من أجل أن تقول رأيك]. غير أن هذه الحادثة الأخيرة جعلتنا نرتاب في قناعتنا تلك المفعمة بالأمل، فهل كانت قراءتنا سرابا حسبناه ماء؟ * * * * الهوامش: * * 1- آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، ج 6، ص 10، مطبوعات وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، 2005. * 2- آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي،جمع وتقديم نجله د/ أحمد طالب الإبراهيمي، * ج 2، ص 126، الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1997. * 3- محمد عمارة، التفسير الماركسي للإسلام، ص 9، دار الشروق، الطبعة2، 2002م. * 4- المرجع نفسه، ص10. * 5- المرجع نفسه، ص 11. * 6- Khalida Messaoudi ,une algérienne debout ,entretiens avec Elisabeth Schemla, Flammarion,1995 * * [email protected]