لطالما شكل الانتماء الحزبي للعمل الطلابي "تهمة" من الرأي العام، وفي ذات الوقت صنع "عقبة" داخل الأطر التنظيمية، في صناعة القرار والموقف، هذا الوضع نجم عنه تصدعات وصراعات طلابية على خلفية التوتر الذي عاشته التشكيلات الحزبية، لذا سوف أطرح رؤيتي لموضوع العلاقة السياسية، لتكون هي ختام هذه المساهمة المتواضعة. 15/ الرعاية السياسية: أرفض التعامل مع الحركة الطلابية وفق مقاربة "الجهاز" الذي يجعل من القوى الطلابية مجرد توابع خانعة لسلطة عليا، تقرر وترسم ما تراه مناسبا للمجتمع باسم المصلحة الوطنية أو الحزبية، لتحصر بموجب ذلك دور الطلبة في الترويج والدعاية للسياسات والخيارات، التي قد تغلف أحيانا بغطاء القناعات والمواقف المبدئية، وهي من الممكن أن تتقاطع تلقائيا مع أطراف كثيرة، منها السلطة الرسمية و التشكيلات السياسية، أو هكذا تبرر الأمور على الأقل، لكنني في ذات الوقت، مقتنع تماما وفق طبيعة الحركة الطلابية ككيان اجتماعي بخلفية ثقافية وفكرية، أن هذه الأخيرة لا يمكن أن تنمو وتترعرع بعيدا عن محاضن العمل السياسي العام و دعم المرافقة الحزبية المرنة، تلك هي المعادلة التي ما زالت مغيبة بين التفريط والإفراط في واقع العلاقة البينية التي تصل المنظومة الحزبية بروافدها الطلابية، لكن الأمل في ترقية الرعاية السياسية لا يتوقف عند مستوى الحديث عن مسؤولية الأحزاب، بل يتعداه وفق تصوري المتواضع إلى تناول الاهتمام الرسمي الذي وجب أن يتخلص من ثقافة التوظيف والاحتواء المبنية على اعتبارات ظرفية ضيقة، لصالح التفعيل الحركي وتنشئة الأجيال الطلابية على قيم المبادرة الايجابية والاستقلالية في الرأي والحرية في التفكير، من خلال توفير كل سبل الدعم المادي والمعنوي للعمل الطلابي دون انتقائية أو شروط مسبقة، إلا ما تعلق بالحفاظ على الثوابت الأساسية لقيم الشعب والدولة، لأن القضية ترتبط بالاستجابة لرهانات المستقبل، الذي لن يبنى إلا بسواعد تلك القوى المؤمنة بمثل النضال وتدافع الأفكار على أرضية من الوفاق الوطني، في إطار المواقف النقدية التي تفضي إلى التكامل المنشود في الرؤى والانجازات المطلوبة، فأي محاولة لوأد هذه الروح الثائرة وتحويلها إلى حالة من السكون المريح، سوف تتهدد مستقبل الأمة الذي سيفتقد حينذاك عناصر المبادرة والبناء والقيادة في مجتمع تحكمه طبائع الخمول والكسل والتبعية، لذلك فإن الحركة الطلابية لا تشكل أي خطر على النظام السياسي عندما ينظر إليها من زاوية التطلع نحو مستقبل أفضل، ويسعى لتلبية حاجياتها، والتكيف مع خصوصياتها الاجتماعية، أما مناورات القفز على هذه الحقيقة، والتخطيط لتقزيمها وتهميش آثارها الفعالة، فيستحيل أن تؤمن نتائجها الوخيمة، إلا بقدر تأجيلها للانفجار المحتوم الذي تراكم فواعله بمرور الوقت، حتى تمنحه شدة أكبر!. أما التشكيلات الحزبية في الجزائر، فلا يبدو لي أن لها منهجية واضحة للاستثمار السياسي الجاد في شريحة يقارب تعدادها 1,5 مليون طالب، رغم امتلاك العديد منها لواجهات طلابية بعضها معلن و بعضها الآخر يفضل التدثر برداء الاستقلالية التنظيمية، لكنها تعاني جميعها من غياب الرعاية الأدبية وتدفع في كل محطة استحقاقية ضريبة التدخلات الفجة في قرارات هياكلها، طبعا لا يمكن أن نخوض في مثل هذا المقام في كل التفاصيل المتصلة بهذه الإشكالية، لكن المعنيين يدركون تماما ما المقصود بمثل هذا الكلام. تجربتي الشخصية في حقل العمل الطلابي قادتني إلى خلاصة مؤلمة للأسف، وهي أن الطلبة مطلوبون عاجلا قي كل ساحات المغارم، لكن لا حصة لهم في موسم المغانم، لا يحز في نفسي كثيرا، أن يطال الحرمان الأفراد في القصور عن الوصول إلى طموحاتهم الشخصية في ميدان الوظيفة والحياة المهنية، بل يصدمني أكثر تغييب المشروع الطلابي في أجندة العمل الحزبي، أعني على مستوى الإستراتيجية العملية وليس خطابات الأبوة التي ترسم حقوق البر وتشطب موجبات الإحسان، والنتيجة هي تشرذم نتاج الحركة الطلابية في كل الاتجاهات، بحثا عن النجاة الفردية وأحيانا الانطلاق في معركة الحياة من الصفر!. حان الوقت لإعادة صياغة رؤية جديدة في منظومة العلاقات الحزبية الطلابية، تتحرر من واقع الولاء للأشخاص وحتى الأطر الضيقة، لتكرس مفهوم الارتباط بالمنهج العام والمقاصد الكلية، لأن العمل الطلابي يستحيل أن يستمر في ظل سيادة عقلية "سلطة الظل" التي أصبحت لدى البعض أشبه بسلطة الكنسية في زمن "التفويض اللاهي"، من العيب أن يتعامل مع قيادات تصنع التاريخ بانجازاتها، وفق قاعدة " الحجر على القاصر" التي تخول لوليه التصرف في شؤونه الخاصة!. تعلمت من قراءاتي القليلة في مجال التربية، أن دور الأسرة ينحصر في توفير كامل الظروف المادية و إحاطة الطفل بأجواء الرعاية العاطفية والتوجيه الإرشادي، مع فسح المجال المطلق لتشكل مواهب الناشئ وفق ميولاته وقدراته الطبيعية، حتى يحقق النجاح المنشود في الحياة في مرحلة المراهقة والشباب، وكل رغبة ملحة من الأبوين في فرض مستقبل محدد في اتجاه معين، سيبوء بالفشل إذا ما تجاوز السنن الفطرية الناظمة لحياة البشر. لست أدري إن كان من الممكن أن تقرب هذه الفكرة التربوية حدود التماس الموضوعي في علاقة المجال الطلابي بالحقل السياسي الرسمي منه والحزبي على السواء، لكن تبقى مساحات الحرية المتاحة في هندسة الفعل وصناعة الموقف هي الضمانة الجوهرية في ترجمة كينونة الحركة الطلابية الحقيقية و تأمين مستقبلها في كنف الإبداع والحيوية والانتماء الصادق المتجرد للوطن والمذهب إن جاز هذا التعبير. دعوتي لكل من يتحمل جزء من مسؤولية هذا الوضع المختل، أن يسائل نفسه: ماذا قدم في ميادين التكوين والتوعية والرعاية والتكفل، لترقية أداء الحركة الطلابية وتثمين منجزاتها و متابعة منتجاتها النوعية، قبل أن يخطب ودها أو يتهمها بأي عقوق أو مروق عن بيت الطاعة، رغم أني أنكر مثل هذه الطقوس في نسج قنوات الاتصال، في رحاب مشروع يمثل القاسم المشترك، يتداعى له الجميع من منطلق الشعور بالمسؤولية والقناعة بالهدف الأسمى، بعيدا عن ذهنية "حارس المعبد وأجيره". أعلم أنه ليس في متناول الجميع أن يستبطن كنه هذه الاستفاضة، إلا من اكتوى بنار الانحراف و عاش في أتون الصراعات المقنعة، تحت ذريعة الولاء والامتثال للمؤسسات، بيد أن الحقيقة لا تعدو أن تكون نوازع لأهواء فريق، يستغل موقعه في فرض الخيارات والقرارات، يخيل إليك من أقواله أنه من صفوة الملائكة والبقية من زمرة الشياطين. لا أود أن أذهب إلى مدى أبعد مما بينته في هذه السطور، لكن لا يفوتني أن أدين سلوكات وتصرفات صنف من عديمي الضمير والأخلاق، يعمدون إلى تكثيف محاور التداخل والتشابك لغايات نفعية محضة على حساب الأسس والتقاليد الأصيلة، وقد لا يلبث الأمر طويلا حتى يكون هؤلاء من أول ضحايا التملق الوصولي.
خاتمة: أعتقد أن القارئ لهذه المقالات، قد يجد فيها مبالغة مثالية أو تحميل للحركة الطلابية أكثر مما تُطيق، لكن هذا ما نظنّه يجسّد حقيقة وجودها ويمثل التعبير الأسمى عن كينونتها الاجتماعية وماهيتها الحضارية. فهي ببساطة ضمير الإنسانية وساعدها القوي، وهي القلب النابض في كل المجتمعات، إذا ما تراجعت عن ثغورها الحصينة، فمن يقود معارك هذه الجبهات المفتوحة على أكثر من صعيد. لا زلت مقتنعا تمامًا، أن قابلية كل مجتمع للتغيير والسمو نحو المعالي، تُقاس بمدى الحيوية والوعي الذي يتميز به شبابه بوجه عام والطلبة منهم على وجه الخصوص، لكن إذا حصل ترويض أو تدجيل لهذه الشرائح بأساليب عديدة، فإن المسافة التي تفصلنا عن أنوار المستقبل تبدو حينها بلا نهاية. إننا نريد حركة طلابية نقابية، جامعية، وطنية، قومية، حضارية وإنسانية، تؤدي وظائفها في تناغم تام مع محيطها الداخلي والخارجي، وانسجام محكم مع طبيعتها الطلائعية المستقبلية. نأبى عليها أن تكون حركة مبتورة عرجاء، قد حصرت همّها في أحسن الأحوال بين مثلث الموت المحتوم ( الغرفة، المطعم والمدرج)، بينما الوطن يأمل في هبّتها، والأمة تستنجد بها، والعالم الحائر يرقُب وثبتها الإنسانية. فهل تعود الحركة الطلابية إلى أحضانها الجامعية الأصيلة، تُعانق من جديد أحلام الوطن، متعلّقة بأشواق الأمة وتشارك الإنسانية آمالها العريضة ، لاستعادة مجدها الغابر، وإحراز لقب عزّ نيلُه بالانتساب، في زمن يزعم فيه الكثير من الأدعياء شرف النضال، بيد أن الجماهير لا تقرّ لهم ودّ الوصال. لا أزعم أنني أمتلك الحق المطلق فيما ذهبت إليه، و لكن أعتقد أنني حاولت ملامسة الواقع، آملا أن تكون هذه الأفكار و الملاحظات التي أبديتها مثار شعور بالمسؤولية التاريخية، وتشكل محاور بحث و مفاتيح دراسة للظاهرة الطلابية، و أن تحمل استفزازات لضمير النضال الطلابي والإرادة السياسية، و ذاكرة من ساهموا في التأسيس و صناعة الفعل الطلابي في الجزائر، حتى يعودوا قليلا إلى الوراء، و يمحّصوا عملهم ليرسموا من جديد معالم و ضوابط و أولويات عمل طلابي كان يتطلع إلى أفق بعيد، و لكنه وجد نفسه ضمن مفترق الطرق، يبحث عن مخرج من حالة المأزق المصيري، فمتى ومن يستدرك الحركة الطلابية لينتشلها من الضياع المحقق، لأن الرهان يتعلق بمستقبل الوطن، الذي لا نتصوره خارج الحقل الطلابي الحيوي الحضاري بكل ما تحمله الكلمة من معنى !! .