يقول «هايمن» في كتابه "التنشئة السياسية" بأنها "عملية تعلم الفرد المعايير الاجتماعية عن طريق مؤسسات المجتمع المختلفة"، والتنشئة السياسية هي جزء من التنشئة الاجتماعية والتي من خلالها يكتسب الفرد الاتجاهات والقيم السائدة في المجتمع، كما تعتبر التنشئة السياسية وسيلة لتصحيح الثقافة السياسية المنحرفة في المجتمع، وخلق ثقافة مدنية جديدة ومتحضرة للعبور بالمجتمع من حالة التخلف إلى التقدم. تحاول الأنظمة السياسية الديمقراطية والدكتاتورية أن تؤثر في التنشئة السياسية للفرد من خلال استهداف أفكاره عن طريق غرس معلومات وقيم وممارسات يستطيع من خلالها تكوين مواقفه واتجاهاته الفكرية والإيديولوجية التي تؤثر في سلوكه السياسي، وهذا السلوك يلعب دورا في فاعلية الفرد السياسية في المجتمع، لذلك تلجأ الأنظمة السياسية الحاكمة إلى خلق قيم وأيدلوجيات مقبولة ومشروعة لها في عيون شعوبها، وبما إن التنشئة السياسية هي عملية تأهيلية وتعليمية وتثقيفية يخضع لها الفرد من أجل تفعيل دوره في المجتمع، لذا ينبغي أن تتحمل مسؤولية التنشئة السياسية للفرد مؤسسات المجتمع المدني كونها مؤسسات مستقلة، وبذلك تملك القدرة على التفاعل الايجابي في التعاطي مع مفهوم التنشئة السياسية كمادة تثقيفية من خلال الدور الذي تتقلده داخل إطار المجتمع وعلاقتها بالدولة، وهي مدعوة أكثر من غيرها في عملية التنشئة السياسية من خلال تأهيل وتثقيف الفرد باعتباره كائناً سياسياً مؤثراً في المجتمع ضمن معطى سياسي معين، ويأتي ذلك نتيجة التطور والتحول السياسي للمجتمع وطبيعة نظامه السياسي السائد ومعاييره الإيديولوجية ومرونته الديمقراطية والانفتاح محلياً وإقليمياً وعالميا، وعندما تتنحى مؤسسات المجتمع المدني عن دورها المهم في تثقيف التنشئة السياسية, فالتنافس السياسي الحاد للقوى السياسية والصراعات الحزبية والطائفية تكسب جمهورها ثقافة عصبية ترتكز على إقصاء الآخر، فتكون التنشئة السياسية قائمة على ثقافة العنف، وبذلك تنحرف مسارات التنشئة السياسية عن معايير القيم الصحيحة إلى القيم الضيقة التي تساهم في تهشيم الثوابت الوطنية والولاء المطلق للوطن. وهذا الانحراف يشكل تباين وتناقض في القيم والسلوكيات السياسية لمكونات المجتمع, والذي يمهد الطريق إلى العنف السياسي وبالتالي يدخل البلاد في فجوى سيكولوجية كبيرة تجعل المجتمع غير مستقر سياسياً وأمنياً. مكونات التنشئة السياسية من خلال تحديد مكونات التنشئة السياسية يمكننا معرفة طبيعة النظام السياسي وخصائصه وأهدافه كما يمكننا تحديد العلاقة بين مكونات النظام السياسي للبلد. وثقافة التنشئة السياسية السائدة تساعد على فهم نمط العلاقة بين مكونات النظام السياسي القائم في المجتمع, من خلال قراءة الأطر الفكرية والإيديولوجية، ومن هذه المكونات هي: 1- ثقافة الفرد المكتسبة: إن ثقافة الفرد المكتسبة هي إحدى مكونات التنشئة السياسية، ومن خلالها يستطيع الفرد أن يكتسب التنشئة من ثقافة وسلوك وقيم المجتمع الذي يعيش فيه. ويكتسب الفرد تلك الثقافة في السنوات المبكرة من حياته وتنغرس في ذاته وقد تتطور تلك القيم والسلوكيات نتيجة تطور المجتمع ونظامه السياسي وتختلف أنماط التنشئة السياسية للفرد نتيجة لاتساع مداركه وتنوع ثقافاته فيدخل في مرحلة التقييم والمقارنة بما كسبه واكتسبه من التجربة العمرية ومجالها المعرفي ومراحلها ومحطاتها، والتأثير الثقافي للمدرسة والعلاقات مع الأسرة والمجتمع ووسائل الإعلام والاتصال . 2- ثقافة الفرد الذاتية: إن ثقافة الفرد الذاتية تختلف من إنسان لآخر تبعاً لشخصيته الذاتية ومحيطه الأسري والمجتمعي وتحصيله العلمي وثقافته المنتقاة، مما يجعل تلك الثقافة جزء من شخصيته فيدافع عنها ويهتم بأمرها، والثقافة السياسية للفرد تتمحور حول مجموعة من الضوابط المعرفية والآراء السياسية والاتجاهات الفكرية والقيم الاجتماعية تتبلور في علاقة الفرد مع سلطة النظام الحاكم، وهذه الثقافة الذاتية تحكم تصرفات الفرد داخل النظام السياسي سواء أكان حاكما أم محكوما، كما تؤثر في سلوك الفرد السياسي داخل إطار المجتمع. 3- ثقافة المؤسسة السياسية: ثقافة المؤسسة السياسية من المكونات الرئيسية للتنشئة السياسية سواء تلك التي تتبناها الدولة "ثقافة النظام" أو الأحزاب السياسية، وهذه الثقافة لا تخرج عن الأطر الفكرية والفلسفية للأنظمة والأحزاب داخل السلطة وخارجها، ومن خلال تلك الثقافة تحاول الأحزاب والأنظمة الحاكمة أن تفرض قيمها وأيديولوجياتها سواء كانت ديمقراطية أو دكتاتورية، رأسمالية أم اشتراكية، وعلى الرغم من أن هناك فرق شاسع بين التنشئة السياسية في المجتمعات الديمقراطية والمجتمعات الدكتاتورية، إلا أن الهدف هو واحد من حيث المرجعية الثقافية للفرد في المجتمع باعتبارها احد مكونات التنشئة السياسية وثقافة التنشئة السياسية في الأنظمة الديمقراطية تحرص على تحديد الوظائف السياسية للفرد في المجتمع على أساس الإيمان بضرورة الولاء للوطن والتعلق به، لكون الإحساس بالانتماء للوطن من أهم المعتقدات السياسية للتنشئة السليمة، كما تحدد ثقافة التنشئة الأطر العامة للعمل السياسي وتغذية المواطن بمعلومات سياسية واجتماعية واقتصادية من واقع البيئة السياسية. دور المجتمع المدني في التنشئة المجتمع المدني يقوم على المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتنوعة وهي مؤسسات مستقلة في عملها عن الحكومة، وهي تنظيمات تطوعية حرة تقوم بدور الوسيط بين المواطن والدولة من أجل تحقيق مصالحه وفق معايير القيم الاجتماعية والتعددية الثقافية والفكرية. وتبتعد تلك المؤسسات عن دور السلطة في صناعة قراراتها وسن برامجها التثقيفية، ويتقدم دور المجتمع المدني على دور الدولة في مجال الوعي والتثقيف الاجتماعي والسياسي من خلال دورها الأساسي والفعال في نشر ثقافة التنشئة السياسية التي تساهم في رفع الوعي السياسي لأبناء المجتمع وجذبهم إلى ساحة العمل السياسي لكي لا تكون السياسة حكرا على الطبقات الحاكمة، ومؤسسات المجتمع المدني تمثل جوهر المجتمعات الديمقراطية المتحضرة وهي منظمات تقوم بعملية تثقيف وتفعيل مشاركة الناس في تقرير مصيرهم السياسي ومواجهة الأزمات والتحولات السياسية التي تؤثر في مستوى حياتهم ومعيشتهم باعتبارها من أهم قنوات المشاركة الجماهيرية، كما تقوم مؤسسات المجتمع المدني في تأهيل وتدريب قيادات سياسية جديدة من خلال غرس ثقافة التنشئة السياسية، ومن مكونات المجتمع المدني هي : "النقابات المهنية والعمالية"، "الجمعيات التعاونية الزراعية والحرفية"، "الغرف التجارية والصناعية"، "اتحادات رجال الأعمال"، "الحركات الاجتماعية"، "النوادي الرياضية والاجتماعية والبيئة" و"الهيئات التدريسية والاتحادات الطلابية والمراكز الشبابية والمنظمات غير الحكومية" مثل مراكز حقوق الإنسان ومنظمات المرأة وكذلك المؤسسات الصحافية المستقلة وأجهزة الإعلام والنشر غير الحكومية ومراكز البحوث والدراسات والهيئات والمراكز الثقافية والفنية، لذا فالدور الأساسي الذي تضطلع به مؤسسات المجتمع المدني هو التنشئة السياسية , وهذا يأتي من خلال الإيمان المطلق لتلك المؤسسات بالتجربة الديمقراطية وتعميق مفهومها وممارستها والتأكيد على قيمها الأساسية، لكي تكون بمثابة البنية الأساسية لتلك المؤسسات، والبناء الديمقراطي لا يأتي إلا من خلال التنشئة السياسية السليمة التي تعتمد قيم الديمقراطية مرتكز أساسي لها، وعلى مؤسسات المجتمع المدني تأهيل وتدريب كوادرها على التنشئة السياسية ومن ثم تنطلق للمجتمع لتمنح فرصة كبيرة لتربية وتنشئة الشعب سياسياً وثقافياً. أثر التنشئة السياسية على المجتمع إن وجود ثقافة سياسية ناضجة في المجتمع تحافظ على شكل الشكل الدولة ونظامها السياسي، وفي الأنظمة الدكتاتورية تتمحور عناصر الثقافة السياسية في الخوف والإرهاب من السلطة، وهنا يكون المجتمع ضعيف الميل إلى المشاركة في صنع القرار، وذلك يعود إلى فقدان الثقة بشخصية وذاتية الإنسان، وأن شراسة تلك الأنظمة لا تتيح الفرصة لظهور المعارضة داخل إطار الدولة، فقد تظهر المعارضة خارج إطار الدولة كإفراز للسطوة والتسلط الدكتاتوري، أما في الأنظمة الديمقراطية فيكون واضح أثر الثقافة السياسية والتنشئة السليمة التي تؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان وهي تؤمن بضرورة بكرامة الإنسان وحمايته من مظاهر الخطر حتى لو كان السلطة الحاكمة نفسها، وهي حريصة على بناء الثقة بين الحاكم والمحكوم في مناخ سياسي ديمقراطي مبني على أساس فكرة قبول الآخر بغض النظر عن توجهاته، وتؤمن تلك الأنظمة الديمقراطية بوجود معارضة سياسية تعمل داخل أطار الدولة ضمن قواعد وأطر سياسية موضوعية تقوم بمهمة الرقابة على سلوك السلطة الحاكمة في المجتمع، وتساهم الثقافة السياسية في المجتمع بتحديد عناصر القيادات السياسية في السلطة من خلال الانتخابات البرلمانية والمحلية بعد أن كانت القيادة السياسية حكرا على حزب واحد وعائلة معينة أو طائفة معينة، وتؤثر التنشئة السياسية على علاقة المواطن بالعملية السياسية وتفاعله معها، فهناك مجتمعات تتميز بقوة الولاء والانتماء للوطن على أساس المواطنة، مما يدفع الفرد إلى المشاركة في الحياة السياسية العامة، ويساهم في النهوض والتنمية للمجتمع، وفي بعض المجتمعات يساهم الأفراد في الاغتراب عن وجه الوطن وعدم شعورهم بالولاء والانتماء وينظر الأفراد للنظام السياسي الحاكم بأنه نظام تسلطي يمارس الوصايا على الفرد ويجرده من كل رغباته وميوله وحقوقه الشخصية، ويشكك الفرد بهذا النظام الذي يعتبره مجرد أداة لتحقيق أغراض أيدلوجية لمصلحة النظام وتقوية سلطته. والتنشئة السياسية السليمة تؤسس للاستقرار السياسي في المجتمع, والتوافق في الثقافة السياسية بين الجماهير والنخب السياسية يساهم في تقريب وجهات النظر ويعزز من حالة الاستقرار السياسي في المجتمع، وفي حالة الاختلاف وعدم التوافق بين ثقافة الجماهير وثقافة النخب يجعل وجهات النظر بين مفترق كبير وإهمال جانب التنشئة يهدد أمن واستقرار المجتمع.