ضجيج مُرحّب به تعيشه "البليدة"، فنفحات الشهر الكريم غطت سماء زقاق ودروب المدينة العتيقة، وجعلت كل من وطئت قدماه "البلدة" الأندلسية ينصهر في عادات وتقاليد اختارها البليديون نهجا لهم. تحس في كل خطوة في اتجاه "بلاصة العرب والنصارى" و"زنقة الخضارة" أنك تتخلص تدريجيا من زخم المدينة ليأخذ الحنين الأسر إلى طقوس الزمن الجميل والحياة البسيطة. فهنا تسعد العين بما تراه، بهارات وتوابل تلون واجهات محلات لا تزال محتفظة بهيبتها وطرازها الأندلسي، ووسط زحمة الناس يتنافس الباعة لاقتناص الزبائن بطريقة لا تخلو من الحيلة المغلفة بكلمات الترحيب ودفق عبارات المدح. أما ربات البيوت فتجدهن على قدم وساق. فالمناسبة غالية والضيف "عزيز". التحضيرات قد انطلقت بين حملات التنظيف وصناعة شربة المقطفة يدويا وهريسة الفلفل "الحلو" و"الحار" وحلوى "الصامصة" بزخرفة أندلسية. ومع حلول أول يوم صيام حتى تعبق روائح أكلة البطاطا بنبتة "الفليّو البري". فالطبق لا يزال تقليدا عريقا وعلامة "بليدية" بامتياز، وشربات "ميخي تروي ظمأ العطشان، فشراب الليمون وماء الزهر المقطر بمحل متواضع لتاجر يُكنّى "ميخي" أصبح منذ سبعينيات القرن الماضي جزءا من تراث سكان المنطقة. وما إن تدُق ساعة الإفطار حتى يتحلق أفراد الأسرة حول مائدة تفننت النسوة في إعدادها. وكما أن رمضان شهر "اللمة" العائلية بامتياز فهو فرصة ثمينة للعبادة، ولحظات فقط، حتى تدُب الحياة من جديد في الشوارع، نساء وفتيات لم يُثنهن تعب الصيام، ينتظمن في مجموعات قاصدات بيوت الله. أما الرجال فقد ضبطوا "رزنامة" صلاة التراويح واختاروا خلف أي إمام سيقفون. وينافس مسجد الإمام "بن جلول"، أو كما يسميه السكان المحليون "بن بولعيد"، أكبر وأقدم مساجد البليدة، فشهرته تجاوزت الحدود، ولا يكاد المرء يجد مكانا ليجلس فيه ويقف بين يدي ربه، فالآلاف يقصدونه، حيث تصدح أصوات ندية لمقرئين شباب، تحرك القلوب وتجعلك تسبح في عوالم أخرى، وتستوقفك أفواج المصلين وهم ركع سجود تصل صفوفهم إلى الشوارع المحاذية بعدما ضاقت بهم باحات المسجد في صورة تبعث على الخشوع وتزيد المؤمنين إيمانا.