أعلنت الحكومة عن مراجعة شاملة لقواعد التعامل مع رأس المال الأجنبي، كما أكدت أنها ستتدخل في شؤون عديدة، صغيرة وكبيرة، تشمل كل الميادين وكل القضايا. وأعطت الحكومة انطباعا أنها ستضع استراتيجية جديدة ترتكز على موقف سياسي وتحليل اقتصادي، من أجل الخروج من مرحلة تميزت بالركود، ودخول مرحلة قد تكون أكثر حيوية. * وجاءت الحكومة بخطاب جديد يتمشى مع هذا الطموح المعلن، خطاب يدافع عن الوطنية الاقتصادية والوجود القوي للدولة في المؤسسات الاقتصادية. إنه خطاب يدعي أن الدولة لن تتسامح في المستقبل، ولن تقبل التلاعب بأموال الشعب، ولن تبقى مكتوفة الأيدي أمام التصرف اللامسؤول للمؤسسات الاقتصادية الكبرى. ويقول المسئولون إن اقتصاد السوق لا يعني لا مسئولية الدولة، بل أن تدخلها يبقى ضروريا للحفاظ على التوازنات الكبرى والمصالح الحيوية للبلاد، كما يذكرون أن السلطات الأمريكية منعت مؤسسة خليجية من شراء شركة تسيير الموانئ، وأن الحكومة الفرنسية قررت منع شركات أجنبية من الاستيلاء على شركة »سويز« Suez. * * هذا الخطاب الشعبوي جميل. إنه الخطاب الذي يحب الشعب أن يسمعه، لأنه يدفعه إلى الاعتقاد أن الدولة موجودة بقوة، وأنها تسهر على حماية مصالح المواطن. إنه خطاب يتوجه إلى »العامة«، كما يقول الأستاذ الطاهر بن عائشة، أي أنه يتوجه نحو فئات شعبية لها قناعة بسيطة، وهي تبحث عن القادة الذين يطمئنونها حتى لا تفقد الأمل... * * لكن هذا الخطاب، رغم أنه جميل يعجب الآذان، إلا أنه لا ينفع، ولا يكفي، ولا يقنع. إنه لا ينفع لأن الوطنية الاقتصادية تتطلب أن يكون هناك اقتصاد قائم بقواعده ومؤسساته، وأن هناك قادة يتبنون موقفا سياسيا وطنيا، وأن كل أعمالهم وتصرفاتهم ومبادراتهم مبنية على تلك المواقف. لكن الواقع يقول إن الخطاب الحالي جاء وكأنه يعبّر عن ندم تجاه الانحلال الاقتصادي الذي ساد البلاد منذ عشرية، مع العلم أن نفس الأشخاص والوزراء والمسئولين الذين دافعوا عن خيارات الماضي جاؤوا اليوم ليدافعوا عن الخيارات الجديدة. وإذا كان القوم قد أخطأوا في الماضي، فما الذي يضمن أنهم يصيبون اليوم؟ * * إن الخطاب لا يكفي لأنه مجرد كلام، لا توجد وراءه آليات وميكانيزمات تضمن تطبيقه. أكثر من ذلك، فإن قرار الحكومة قد يحول فشل اليوم إلى فشل متضاعف غدا، إذا اختارت الحكومة أن تفرض شروطا جديدة لمواجهة الاستثمار الأجنبي وقررت أن تفرض وجودها في كل المشاريع الاستثمارية الكبرى. وإذا كانت شركة طويوطا مثلا تنوي استثمار أموال في الجزائر، فلا شك أنها ستتردد إذا فرضت عليها الحكومة مشاركة جزائرية في المشروع... كما أن التلاعب بالعقار، وتغيير قواعد الحصول عليه كل سنة، لا يشجع الاستثمار الأجنبي بل يشكل عائقا أمامه.وفي الأخير، فإن خطاب الحكومة لا يكفي لأنه جاء متأخرا جدا. * لقد جاء هذا الخطاب لا ليضع سياسة أو نظرة جديدة للتعامل مع الاستثمار الأجنبي، بل جاء ليساند خطاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي تأسف لسلوك الشركات الأجنبية في الجزائر. وفعلا، فإن سلوك تلك الشركات مؤسف، فقد استطاعت شركة أوراسكوم Orascom مثلا أن تحصل على تسهيلات كبرى للاستثمار في الجزائر، وحققت أرباحا خيالية، ثم باعت مصانع الإسمنت لشركة »لافارج« Lafarge الفرنسية. لكن هل يجب أن نلوم شركة »لافارج« التي اشترت، أم شركة »أوراسكوم« التي حققت أرباحا، أم الهياكل الجزائرية التي سمحت بهذا التلاعب الاقتصادي؟ وهل يجب أن نعلن للشركة التي تريد الاستثمار في ميدان السيارات مثلا أن عليها غدا أن تبيع مصانعها لصالح شركة »الرويبة« إذا قررت أن تنسحب من الجزائر لسبب أو آخر؟ * * إن ما يتم تغييره من قواعد اقتصادية يشكل خطوة جديدة نحو منع الاقتصاد الجزائري من التحرك. إنه كلام يحمل تهديدا للاستثمار الأجنبي، لكنه لا ينفي إطلاقا لأنه لن يكون له أثر سوى ترسيخ الركود الاقتصادي الذي تعيشه البلاد. وما يتطلبه الاقتصاد الجزائري اليوم هو تحديد قواعد تدوم عشرات السنين، تكون شفافة واضحة، يعرفها الجميع، ويحترمها الجميع، ويستطيع من خلالها المستثمر أن يعرف ماذا سيربح، ومتى سيربح، ومع من سيتعامل هذه السنة والسنة القادمة والتي بعدها. إن الاقتصاد يتطلب الشفافية والاستقرار. أما ما يتعلق بالمناورات السياسية، فإنها مجرد كلام لا ينفع الاقتصاد لكنه يمكن أن يضره.