قصة "زهور الأمل" للصحفية والقاصة الناشئة وهيبة سليماني، الفائزة في مسابقة ضاد ل2015 بمصر، حيث شارك أكثر من 700كاتب من دول عربية، وجاءت قصة "زهور الأمل" في الترتيب ال12 من ضمن 150 قصة ناجحة. دار ضاد للنشر والتوزيع كرمت كتاب القصص الناجحة في حفل كبير في القاهرة، خلال شهر أوت الماضي، وقدمت دروعا وشهادات تقديرية كاعتراف بالجهود والمواهب الشابة. وصدر كتاب يحمل مجموعة قصصية تضم 80 قصة، حيث توجه مداخيله لأطفال السرطان بمصر. ويحمل الكتاب عنوان "حينما يسكت زوربا" وهي القصة الفائزة بالمرتبة الأولى وهي للقاص العراقي الكبير علي عبد الرحمان الحديثي المعروف بمجموعته القصصية الشهيرة "المعبث". زهور الأمل اضمحلت ابتسامتها وهي شابة في الثالثة والعشرين، فجلست على مقعد الوقت الضائع بأحلامها الموؤودة وباتت الحياة الرتيبة تقتل إحساسها.. تسلمها إلى الضجر والهموم. جميلة بملامحها.. لكن غراب الحزن احتل مكانا في وجهها.. أصبحت هي والفراغ يقطنان زوايا البيت بعد أن توارت أمانيها وتحوّلت خفة روحها إلى سكينة عميقة.. قتل الحزن شفتيها ونفد منها عطر الحياة، فعانقت مجبرة أحضان هذا الفراغ. تفوقت في سنوات دراستها الأولى فحملت في كفتي يديها آمالها وأحلامها، لكن منذ خيّبها النجاح وطعنها الحبيب، توارت أمانيها وانزوت في سجن اليأس.. المستقبل بالنسبة لها متشحٌ بضباب وظلمة الفشل. عندما لم تجد اسمها ضمن قائمة الناجحين في البكالوريا، بكت بكاء مرا وشعرت بالهزيمة، وبدا اليأس يدب في قلبها ويزعزع كيانها فرمت بنفسها كمتاع في أركان البيت. رأته ذات جمعة وهي تقضي سحابة يومها صوب النافذة، تتفحص الرائحين والغادين.. هناك بوجهه النحيف لفحته أشعة الشمس وغطاه غبار الشوارع.. يعلو صوته بين الأزقة والأحياء مناديا: معروف.. معروف.. يا أهل الخير صدقة تمنع عنكم البلاء! يسير الهوينى.. يلتفت إلى النوافذ والأبواب ماسكا بيمناه عصا غليظة وسبحة بيضاء تلمع في رقبته كشعاع أمل، وإذا لمح إحدى المُطِلات همس لها: هل لديك مشكلة؟.. تريدين معرفة شيء عن حظك؟! لقد كان يملأ القلوب أملا.. يبشر اليائسات أن الخير لا يزال قائما، فيطلب منهن فقط عشرين دينارا!. انحبس وجهها وراء نقاب من التأمل والتفكير وهي تتطلع إليه.. كان قلبا حيا يضيء تحت عباءة الفقر والحاجة، فقد ذاع صيته في المدينة.. النساء والفتيات ينتظرنه بشغف، يحاولن أن يضئن في ظلام أيامهن شعلة بكلمة أمل منه.. رأت الحي خالياً من المارة، فنادته بتلويحة يدها من النافذة وسارعت إلى الباب حيث أعطته كرسيا خشبيا فجلس عليه في هدوء نفسي تام وراح يفرك سبحته حبة حبة بين أصابعه النحيفة، المغبرة.. حملق في وجهها ثم سألها: متزوجة أم لا؟. افترت شفتاها عن ابتسامة غلب عليها الحزن ثم أطْلعته على سرّها كأن أوجاع قلبها هي التي تكلمت: أعوامي التي انقضت صرفتها في اليأس.. لا زوج ولا عمل. دقق فيها ثم رفع عمامته عن جبينه قليلا، وحوّل نظره إلى سبحته، وراح يحرّك خرزة منها بين أصابعها كأنه يفركها ليخرج منها عصيرا حلوا أو دواء ليأسها.. ثم قال: برجك برج الشمس.. سيصبح اسمك كنجمة ساطعة في السماء. أعطاها حقنة في كيان روحها فقد كان طبيبا يداوي أورام اليائسين.. عيناه البنيتان تلوح فيهما نظرة لامعة تنمّ عن ذكاء حاد وتجربة ورثها من قسوة الحياة وتشرده في الشوارع.. يعلم جيدا أن المستقبل للذين يحلمون بجمال أحلاهم وأن كلمة تفاؤل واحدة تستطيع أن تكون الحلم في أذهانهم وأن تزرعه في قلوبهم. منذ ذلك اليوم، أصبحت تقضي الليل تناجي النجوم وتقبع مع نفسها تحاورها في حزن وصبر: الأحلام الصغيرة لا تملك قوة لدفعي إلى النجاح.. لدي أحلامٌ كثيرة سأسعى لتحقيقها بمشقة وعمل. وبعد أن كان أملها يتجدد مع طلوع كل يوم ثم ما يلبث أن يتبخر كضباب الصباح، بدا عقلها الباطن يسمع ذبذبات داخلية من وحي النجاح والسعادة فأحسّت فجأة أن رياح التفاؤل قادمة من تلك الحياة السوداء.. كانت تبحث عن الحب دون أن تحب نفسها وتبحث عمن يفعل لها شيئا ولا تفعل هي شيئا. نسجت حول روحها خيوط البسمة وملأتها حياة في حياة، فانطلقت مشرقة الصدر مبتهجة الفؤاد وجعلت من حالة الانكسار بداية حلم جديد. طارت بأحلامها في الأفق كعصفور غادر قفصا وُضع فيه دون رضاه، غاصت في بحر الكتب والعلوم وراحت تصطاد الشهادات الواحدة تلوى الأخرى إلى أن أصبحت قاضية. هناك وسط الحضور في المحكمة، التزمت بالنزاهة المطلقة والمبادئ القوية فسطعت كنجمة أنارت العدالة حقا وإنصافا للمظلومين. ناد المنادي عن اسم المتهم.. كان شيخا انحنى ظهره قليلا يتوكأ على عصا غليظة، متثاقل المشية يجمع بقايا قوة.. تنهيداتُ الأسى تغلبت عليه وهي تخرج من أعماق صدره، تقدّم بكل ثبات إلى منصة الاتهام. قالت: ارفع يدك اليمنى واقسمْ.. ففعل. تفحصته بعين تبحث عن التركيز: أنت متابع بتهمة الإخلال بالنظام العام ومحاولة النصب على فتاة! قال بعفوية: سيدتي القاضية لم ارتكب أي ذنب.. أنا لم أخدع أحدا ركزت فيه بنظرة عميقة.. لاذت بصمت تمثال لثوان وهي تضع كفها على خدها وهمست: نفس الجلباب المهترئ.. نفس العصا ونفس السبحة.. لا زال حيا! واعتلاها جِدّ وحزم: إذن أنت تنفي ما قيل عنك؟!. أطلق العنان لطوفان الكلمات: سيدتي القاضية أنا شيخٌ بائس أهيم على وجه الأرض ولا يعلو صوتي إلا حين يبكي بطني من الجوع.. فأين الإخلال بالنظام العام؟!. بقيت نظرتها محبوسة بعيون لامعة.. ردت: اعرف. وواصل: هل الأصوات الأخرى لم تزعجهم ليزعجهم صوتي الهزيل؟!.. ثم كيف احتال على الفتيات وأنا الذي اجعلهن ينتصرن على اليأس ولصوص الأحلام بكلمة تفاؤل وأعلم أن المستقبل لا يعلمه إلا الله؟!. ساد القاعة صمتٌ مطبق، فقد كان لهذه الكلمة وقع على الحاضرين. قالت: كيف؟! وهي تعرف حقيقته. سال عرق على وجهه النحيف الذي لفحته الشمس والريح: لقد منحني الله قلبا مبتسما فصرت شمعة تحرق نفسها لتنير الآخرين.. رغم قسوة واقعي كنت أهدي زهرة التفاؤل لليائسات وأريهن جانبا منيرا في حياتهن بعشرين دينارا فقط، هل هذا احتيال؟!. قالت: أعرف.. وأردفت: أشخاص كثيرون ساروا بخطى ثابتة نحو النجاح بتأثير كلمة واحدة. أضاءت ابتسامة وجهه شيئا فشيئا وقال: أين الضحايا يا سيدتي؟ لماذا لم يأتوا؟! وبعد أن التمست النيابة تطبيق القانون، نطقت بالبراءة فانفرجت أساريره بالرضى. سرحت في فضاء الخيال فتسابقت روحها إلى مسارح الأحلام وهي تشيعه بعينيها حتى غادر القاعة.
وقبل أن يعود اهتمامها إلى القضايا التي كانت بين يديها، تخيّلت نفسها في مرتبة أعلى.. همست بنشوة الانتصارات العظيمة: وزيرة عدل.. لِمَ لا؟