حتى لانعيد المشهد العجيب في مقهى الطنطنفيل، كان عليّ أن أختار مكانا منزويا بعض الشيء، حتى نتمكن من التفرغ للحوارات العميقة، ولئلا نكون موضوع الحديث والتعليقات. فاخترت غابة الأقواس في رياض الفتح... * انتحيت بالحمار جانبا، وباتفاق مع صاحب المقهى، حجز لنا ركنا تقل فيه الحركة، ونتمكن من الاستمتاع بالمناظر الخلابة لجانب من مدينة الجزائر وهي تحضن جزءا من البحر يسمى:La Baie d'ALGER . التي يعتبرها الجغرافيون والطبيعيون الثانية جمالا في العالم بعد ريو دو جانيرو بالبرازيل. * أخذنا مكاننا المنزوي في المقهى... وراح يمتع الحمار نظره بالجزائر تحتضن جزءا من البحر بين جنبيها... ورحت أشرح له مناطق العاصمة بدءا من الدارالبيضاء حيث الطائرات في هبوط وإقلاع... وهذه أمامك هضبة العناصر، وهؤلاء العمال الصينيون كالنمل يبنون وزارة الخارجية إلى جوار وزارة الثقافة... وهذا، تحت قدميك، حي العناصر وبلوزداد ثم ساحة أول ماي... وهناك التقينا منذ أيام في ساحة موريتانيا ومنها عبرنا أمام المديرية العامة لأمن العاصمة حيث ارتفع عندك الضغط قليلا... ثم البريد المركزي وهنالك جلسنا في المقهى في ساحة بورسعيد. وفي السفح انظر ذاك البناء العالي إنه فندق الأوراسي الذي بدأ بناءه المهندسون المصريون... وإذا ارتفعت قليلا للأعلى سترى نفسك ترعى في هضبة "Céleste" في أعالي بوزريعة حيث الجزائر العاصمة، بكل أحيائها، تشعر وكأنها تحت قدميك، ولو زلقت لاسمح الله - لتدحرجت مباشرة إلى باب الوادي أو بولوغين... فاحذر الانزلاق... * نظرت الحمار وقد غفا قليلا على شرحي للأحياء الظاهرة من مدينة الجزائر وهي تغسل قديها في مياه المتوسط... تركته في غفوته ورحت أتصفح بعض الجرائد الوطنية القديمة التي تصدرت صفحاتها الأولى أخبار شيخ مقهى الطنطنفيل مع حماره، ويتحادثان كما يتحادث بنو البشر... لكن أطرف ما في هذه الصحافة وبمناسبة اقتراب شهر رمضان، وبدء استعداد الناس له، والتخوف من ارتفاع أسعار الخضر والفواكه، وخاصة اللحم، صورة لمجموعة من الحمير ينظر إليها إسكافي وهو يؤكد أن لحمها خير من اللحم المستورد... طويت الصحف حتى لايراها فيتغير مجرى الحديث بيننا... وأيقظته قائلا: لسنا في مكان للنوم... فاستيقظ وقال: لقد سحرني جمال الجزاير... بلدكم حلوة... حلوة... بشكل... قلت له: مازال... الجمال الحقيقي للجزائر لم تره بعد... دعنا من هذا... وحدثني عما وعدتني به البارحة.... أولا، لماذا تركت مصر؟؟؟ وثانيا، لماذا اخترت الجزائر بالذات؟؟ وثالثا، ما هو البرنامج الذي تفكر في تحقيقه بالجزائر؟ * قال الحمار وقد تبدلت أسارير وجهه، وكشر قليلا وقال: ياراجل حرام عليك... تاخدني ملجمال ده... وملحلاوة ديه ... لمآسي مصر ومشاكل مصر... مش حرام عليك ياراجل؟؟؟ قلت: لقد وعدتني... ووعد الحمير دَيْن... أليس كذلك؟؟؟ قال نعم... وأطرق رأسه يسترجع ذاكرته وقال: وهو مشمئز... حزين... إذن حنكمل الحديث بكرة إن شاء الله.