جميع الجزائريين بلا استثناء يعرفون مقهى الفيشاوي المصري، ولا يوجد جزائري واحد يحط الرحال بمصر إلا ويهرع لزيارة المكان الذي يعتبرونه أشهر وأهم ما في مصر، ولأن الفيشاوي ارتبط إسمه بالحركة الثقافية والأسماء اللامعة من المبدعين العرب، فقد تخلد إسمه في ذاكرة الجزائريين والجزائريات، هنا في مقهى الفيشاوي قضينا سهرة رمضانية ننقل لكم تفاصيلها . على الرغم من نشأته منذ مئات السنين إلا أن مقهى الفيشاوي مازال مقصدا لأبناء القاهرة والسياح العرب والأجانب .. حيث يصنع لوحة خلابة تزداد معالمها في رمضان، حتى أنه صار أحد أهم معالم رمضان مصر، فهو قادر على صنع السهرات الرمضانية الرائعة. ويعتبر مقهى الفيشاوي من أشهر الأماكن المميزة لمنطقة خان الخليلي والقاهرة ومصر كلها .. حيث يتوافد إليه المصريون والأجانب من كل بقاع الأرض لقضاء وقت جميل والاستمتاع بالليالي الحسينية خاصة في شهر رمضان، فزائر المقهى يشعر وكأنه في عالم آخر يحيط به عبق التاريخ وأصالة الماضي وإشراقة المستقبل، ومقهى الفيشاوي ليس مقهى عاد، ولكن له طابع خاص سواء من حيث الديكور أو الاستخدام فلم يكن مجرد مكان لتناول الشاي والقهوة فقط مثل بقية المقاهي ولكنه لعب دورا سياسيا واجتماعيا بارزا. ومقهى الفيشاوي مقهى تراثي يمتاز بمذاق خاص، ويقع المقهى الشهير بالقرب من جامع الحسين رضي الله عنه، أما عن العمر الحقيقي للمقهى فهو 244 سنة، وأسسه الحاج فهمي الفيشاوي في القرن الثامن عشر وتحديدا في عام 1760 م ولهذا يعد من أقدم المقاهي في تاريخ مصر، والمقهى حينما تأسس كان حجمه أربعة أضعاف حجمه الحالي، وحينما قامت الحكومة بتوسيع حي الحسين وإظهار جامع الحسين قامت بحجب جزء كبير منه، وللمقهى حاليا فروعا في جسر السويس بمنطقة مصر الجديدة وحي المعادي وشرم الشيخ . فمنذ بداية إنشائه في القرن الثامن عشر كان المقهى مقصدا لطلاب العلم لاستذكار دروسهم، كما كان ملتقى للحركات الطلابية بهدف الإعداد للمظاهرات ضد جيش الاحتلال الإنجليزي، وبالتأكيد هذه اللقاءات كانت سرية وتحت ستار تناول الشاي الأخضر الذي تميز المقهى بتقديمه كما اشتهر بلعبة "الدومينو" وكان الفيشاوي مكانا لتجمع باعة الكتب الذين اشتهرت بهم منطقة الحسين في بداية القرن الماضي، وكثيرا ما لجأ إليه محبو السهر للاستمتاع بليل القاهرة بعيدا عن قلق وإزعاج الغارات في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، فكانت أبواب المقهى تغلق وفي الداخل يمارس اللعب حتى صلاة الفجر. ولعل زيارة رؤساء وزعماء الدول المختلفة لمقهى الفيشاوي أضفت عليه شهرة عالمية، ومن هؤلاء "أوجيني" إمبراطورة فرنسا التي زارت الخديوي إسماعيل للمشاركة في احتفال افتتاح قناة السويس و"نابليون بونابرت" قائد الحملة الفرنسية 1798، كما جلس عليه كثيرا الرئيسان المصريان الراحلان جمال عبد الناصر وأنور السادات، والمقهى كان له حق الامتياز في إقامة ركن الشاي والشيشة لحفلات الملك فاروق . ويحتفظ المقهى بسجل زيارات عليه توقيعات كبار الشخصيات السياسية والفنية والثقافية العربية ومن هؤلاء الرئيس اليمني السابق علي ناصر محمد والشيخ عبد الله الأحمر رئيس البرلمان اليمني الحالي ووزير الإعلام الأردني السابق خالد الكركي وملك إسبانيا وعدد من مسؤولي البلدان الأوربية. اعتاد عدد كبير من الفنانين والأدباء والشخصيات العامة زيارة مقهى الفيشاوي، مثل الداعية الكبير الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وعبد الله النديم وسعد زغلول وأم كلثوم، ولا ننسي الأديب العالمي نجيب محفوظ الذي ارتبط بالمقهى لفترة طويلة وكان مصدر إلهامه في الكثير من أعماله الأدبية، لدرجة أنه أطلق على أحد أركان المقهى اسم نجيب محفوظ، والذي اتخذه مقرا للندوات واللقاءات الثقافية. لذا فقد لعب المقهى دورا كبيرا في التاريخ المصري، خاصة في الحركة الأدبية والثقافية، ويكفي أن نجيب محفوظ كتب معظم أعماله في هذا المقهى، وكذلك إحسان عبد القدوس ويوسف إدريس، ومن الشخصيات الكبيرة التي كانت تجلس على المقهى أيضا العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ ومحمد فوزي وليلى مراد وعبد المطلب والشاعر كامل الشناوي، والشاعر محمد ديب، والكاتب الكبير عباس محمود العقاد، والفنان نجيب الريحاني، والفنان زكي طليمات. كما أن هناك فنانين تشكيليين عالميين كانوا يجلسون على المقهى ويرسمون لوحاتهم المستوحاة من حي الحسين وخان الخليلي، كما أن علماء الأزهر كانوا يجلسون عقب صلاة الجمعة أسبوعيا في قاعة خاصة بهم إسمها "البيسفور" ليتناقشون في أمور الدين . وإذا انتقلنا إلى ديكور وتصميم وموقع مقهى الفيشاوي فكل منها له طابعه الخاص، وهناك مدخلان يوصلان إلى المقهى، الأول من ساحة الحسين والآخر من خان الخليلي .. دخلنا من أحد الممرات الجانبية لساحة مسجد الحسين حيث تقع محلات بيع منتجات خان الخليلي والإكسسوارات ذي الأشكال الإسلامية والفرعونية ومحلات بيع ورق البردي والتحف والإشارات والأيقونات والعطور، فضلا عن محلات بدل الرقص والتي تعتبر سلعة رائجة في منطقة الحسين وتشهد إقبالا من بعض السيدات المصريات والأجانب بشكل خاص . ويبدو المقهى من الخارج تحفة جميلة يلتف حوله المصريون والأجانب من مختلف الأعمار، وهو يضم 04 أبواب، اثنان قريبان من إحدى ساحات منطقة الحسين، والإثنان الآخران يطلان على أحد أروقة خان الخليلي مما يزيد المقهى جمالا وسحرا، وعلى الباب الرئيسي للمقهى هناك مرآة كبيرة بيضاوية الشكل تضفي على المكان جمالا واتساعا، وعلى جانبي المرآة مجموعة من القناديل والمصابيح الزيتية متعددة الألوان يعود تاريخها إلى بداية تأسيس المقهى ولكنها مازالت محتفظة برونقها، وعلى حوائط المقهى الداخلية يوجد الكثير من بقايا العصر القديم مثل اللوحات الإسلامية والقرآنية والأواني الخزفية والقوارير المتراصة في تناسق مما يشكل صورة خاصة للمقهى، فضلا عن السيوف المعلقة على بقية الجدران، ومن أهم مقتنيات المقهى والتي مازالت موجودة حتى الآن، دولاب صغير تتخلله زوايا صغيرة من العاج وهو الآن يقع في أحد أركان المقهى الداخلية وأمامه صورة كبيرة للحاج "فهمي الفيشاوي" أحد ورثة المقهى، وهو يرتدي الجلباب المصري والطربوش ومدون علي الصورة تاريخ وفاته في 1940، وكأي مقهى آخر توجد العديد من الموائد المتراصة بجوار بعضها ويحيط بها المقاعد أو الدكك الخشبية وأغلبها مصنوع ومزين بالأرابيسك . ووسط هذه المكانة التاريخية الكبيرة التي يتمتع بها مقهى الفيشاوي، حظي المقهى باهتمام الكثير من الأقلام الصحفية والمؤلفين ومن هؤلاء محمد عبد الواحد حيث أصدر كتابا بعنوان "حرائق الكلام في مقاهي القاهرة"، ويشير إلى أن الاسم الأصلي للمقهى هو "البسفور" وهو اسم تركي اختاره صاحب المقهى المعلم الفيشاوي الكبير ثم تغير الاسم بعد ذلك إلى الفيشاوي تخليدا لذكري صاحبه، وقد كان لهذا المقهى وضع خاص في قلوب أصحابه، حتى أن اشهر ورثته الحاج مصطفي الفيشاوي مات هو وحصانه حزنا علي قرار هدم ثلث المقهى عام 1968. ويوضح الكتاب أنه من أهم الشخصيات التي ارتبطت بالمقهى بعيدا عن أهل الفن والأدب شخصية "علي نيابة" الذي كان من أهم الشخصيات في حي الحسين في منتصف القرن الماضي، حتى أنه أطلق عليه خديوي حي الحسين. ولان دوام الحال من المحال .. فقد تبدلت الأحوال وازدحم المكان وتحول من ملتقي للندوات الثقافية والأدبية إلى ملتقي للأحبة والأصدقاء للاستمتاع بجو منطقة الحسين خاصة في شهر رمضان، وبالتالي تقلص رواد المقهى من أهل الفن والأدب بسبب الزحام الشديد الذي أصبح أحد السمات البارزة للمكان. وفي لقاء مع حسين سيد المسئول عن المقهى، سألته عن مدي التغيير الذي لحق بالمقهى خلال السنوات الماضية .. قال: كل شيء تغير خاصة الزبائن فقد كان الزبون هادئا ومريحا بينما الآن يريد كل شيء بسرعة.. كما أن نوعية المشروبات اختلفت فكانت تقتصر علي الشاي والقهوة والحلبة.. والآن نقدم حمص الشام وتمر هندي وعصائر طازجة.. وفي شهر رمضان يختلف الوضع حيث نقدم مشروبات رمضانية عقب الإفطار وحتى آذان الفجر .