اسمه حمُّودة منصورية، ويُدعى "حمو"، من مواليد 20 أوت 1949 بالقيقبة ولاية باتنة، من عائلةٍ ثورية؛ فأبوه الصدّيق منصورية مجاهد، وأمه "خَرْفية" مجاهدة، وزوجة أبيه "حفيظ الزهرة" مجاهدة بدورها. أخذه أبوه معه عام 1952 وهو في الثالثة من العمر، إلى الجزائر العاصمة ليعيش معه، واعتنى بتربيته، وحرص على تعليمه التركيز وحفظ بيوت أصحابه وأماكن معيّنة لحاجةٍ في نفسه، وكان يرسل معه رسائل وأشياء أخرى لأصدقائه، فيقوم بما أوكل إليه على أكمل وجه، وكان يطالبه بالسرية التامة، والدقة في تنفيذ أوامره، وبحفظ الأمانات وتبليغها لأصحابها كاملة غير منقوصة، وكان بذلك يُعِدّه لمرحلةٍ لاحقة بالغة الأهمية. مساعدة فعّالة للفدائيين في عام 1957، التحق الأب الصدِّيق منصورية بالثورة، فارتأى أن يستعين بابنه الصغير الذي درّبه من قبل على مهام معينة، فكان يرسله إلى مجاهدين آخرين لتنفيذ مهامّ محددة، ومنها جمع الاشتراكات الدورية وتبليغ الرسائل الثورية، وجلب الأعلام الوطنية من بلكور بعد أن يقوم "الشيخ الطاهر الخياط" بخياطتها في ورشته، كما كان أبوه يتخذه وسيطاً دائماً بينه وبين "حمو ابن الشيخ الطاهر سنوسي" ابن الخياط والفدائي الكبير، للتنسيق بينهما وكذا مساعدته على تنفيذ العمليات ضد العدو، فكان الطفل حمّودة يساعد الفدائي حمو سنوسي على اجتياز حواجز جنود الاحتلال بحمل سلاحه عنه، وبعدها يستلم حمو السلاح منه ويقوم بعملية ضد الاحتلال ويعيده للطفل حمّودة وينسحب بسرعة، ليقوم الطفل بإعادة السلاح إلى البيت دون أن يثير شكوك العدوّ في الحواجز. وفضلاً عن مساعدة أبيه والمجاهدين في مختلف أحياء الجزائر العاصمة، وخاصة المدنية وضواحيها، كان حمّودة منصورية يقوم بنقل الأسلحة والذخائر والملابس والأحذية والأدوية وخيوط الجراحة والرسائل وأغراض أخرى للمجاهدين بمسقط رأسه، أي دشرة "عين التين" بالقيقبة ولاية باتنة، في شاحناتٍ قديمة كان أصحابُها يملؤونها بالدقيق والبيض للتمويه، بعد أن يجلبها أبوه الصدِّيق من قبل ويُخفيها في مخبأ (كازما) بجوف فناءِ بيت المجاهد المختار لقرع بالمَدنية، ثم ينطلق الطفل حمّودة رفقة خاله المختار منصورية بشاحنته إلى القيقبة بباتنة بعد أن يدسّها وسط أكياس الدقيق، وذلك ثلاث مرات شهرياً، ويحمل "المجاهد الصغير" معه أيضاً تقاريرَ مفصلة من السيدة زهور ونيسي، إلى مسؤوليها بالقيقبة. وبهذا الصدد، يؤكد حمودة ل"الشروق اليومي"، أن أباه الصدِّيق قد "كوّن ونيسي تكوينا نضاليا يمتاز بالسّرية والكتمان والعمل الجاد" وكان يسمّيها "الشاطرة الفاطنة"، ويرسل ابنه حمودة إليها باستمرار محمِّلا إياه رسائل إليها، ويوصيه ب"أخته الكبرى" خيراً (زهور ونيسي من مواليد 1936)، فكان الصغير حمودة يعتقد أنها أخته الكبرى فعلاً، وكان يزورها ويبلّغ لها رسائل أبيه، سواء في مدرسة "الصديقية" للبنات بالمدنية حيث تعمل مدرّسة لهن، أو في بيتها، وكانت تبلغه بالردّ فينصرف به إلى أبيه فوراً. إضرابٌ وبطولات ويخصّص "المجاهد الصغير" حمودة منصورية جانباً من مذكراته لإضراب الثمانية أيام (28 جانفي- 4 فيفري 1957)؛ إذ ساهم رفقة الكثير من المجاهدين في جمع مختلف المواد الغذائية الجافة والأدوية طيلة أسبوعين وكدّسوها بالمنازل استعدادا للإضراب، ثم قاموا بتوزيعها على عائلات الشهداء والمجاهدين، وقد جنّدت زهور ونيسي طالباتٍ من مدرسة "الصديقية" للمساهمة في عملية التوزيع حتى لا يُثِرن ريبة العدوّ، وأعدّت تقريرا عن العملية وأرسلته إلى مسؤوليها ب"عين التين" بالقيقبة، ومنهم محمد الشريف عباس (الوزير السابق للمجاهدين) وحسن بوزراعة، وغيرهم من المجاهدين الذين كان الصدّيق منصورية يخفيهم ببيته هناك إلى غاية الاستقلال، كما كانت ترسل إليهم تقاريرَ عن كل عملية فدائية، أو تجنيد شباب، أو تبرّعات، أو إرسال ذخيرة للمنطقة عن طريق الطفل حمودة وخاله المختار منصورية صاحب الشاحنة. كما يروي حمودة أحداث 11 ديسمبر 1960، وكيف حاصر جيشُ الاحتلال المتظاهرين ببلكور: "صعدتُ على منبر "لا بلاسيت" وأنشدتُ "من جبالنا طلع صوت الأحرار" بمكبِّر صوت، فشجّع ذلك على اجتماع عدد كبير من الجزائريين وبدأوا يهللون ويكبرون، ثم اتجهنا إلى بلكور لفك الحصار عن إخواننا المتظاهرين، لكن جيش الاحتلال قطع الطريق علينا ب"الكونفور" وحصلت مواجهاتٌ عنيفة بيننا وبينهم سقط إثرها الشهيد لعلى عبد الرحمان، لكن الشعب لم يتراجع حتى وصل إلى ما يُسمى الآن ساحة 11 ديسمبر. ثم اشتدت المظاهرات وحاول الاستعمار قمعها بوحشية وسقط عدة شهداء وجرحى، إلا أنها دامت أياماً عديدة. وقد كتبت زهور ونيسي تقريرا مفصلا عن الأحداث كعادتها وأرسلته معي إلى مسؤوليها بالقيقبة". تصفية الخونة ويروي لنا حمّودة وقائعَ ثورية أخرى متفرّقة كمشاركته في تصفية أحد الخونة قرب ديار الباهية في 1959، رفقة شابّ في العشرين من العمر، وكان حمودة يُخفي المسدس الذي استعمله هذا الشاب في العملية، وكذا مشاركته في عملية أخرى نفذها شابان ضد "حرْكي" آخر؛ إذ رافقهما خلال تصفيته ثم سلّماه مسدسيهما واختفيا بسرعة، فعاد بالمسدسين وسلمهما لأبيه الصدِّيق. اعتقال الأب بعد سلسلة من العمليات الناجحة التي ساهم فيها المجاهد الصغير حمودة منصورية بتأمين التغطية للمجاهدين ودعمهم لوجيستيكياً، حدث ما أربك حياته ونغّص عيشه؛ فقد قام جيش الاحتلال فجأة بمداهمة بيتهم بالمدنية في إطار عملية تمشيط مُفاجِئة، وعثر الجنود على كيس "خيشة" مملوءٍ بأدوية وملابس لجنود جيش التحرير فاعتقل الأب الصدّيق في ديسمبر 1960 وزجّ به في سجن برباروس، وعذبه ثلاثة أشهر متواصلة لانتزاع اعترافات خاصة بالثورة، فلم يفلح، فحكم عليه بالإعدام، لكن الحكم لم يُنفذ، وأطلق سراحه بعد وقف إطلاق النار في مارس 1962. وقد أطلقت ونيسي وصف "المجاهد الصغير" على حمودة، وذكرته في كتابها "عبر الزهور والأشواك" الصادر عام 2012، وكذا في حوار مع القناة الإذاعية الأولى من تسع حلقات "حوار في الذاكرة".