ما أصعب الأمر وأشقّ على مثلي، إذ يتصدى لكتابة كلمة عن كتاب عن عالم كبير، صاغه عقل أستاذ قدير، ودبّجه قلم باحث خبير. فأما العالم فهو عبد الرحمن الثعالبي، الذي لم ينل كبير اهتمام من الدارسين والباحثين، بالرغم من معارفه الواسعة، وتآليفه العديدة، وشهرته الذائعة، ولا ذنب له إلا أن شمسه مطلعها الغرب كما يقول الإمام ابن حزم الأندلسي، إذ لو قدر لهذا العالم أن يكون من غير هذا الصقع من العالم لأُلِّفت عنه مؤلفات * وأعدت عنه بحوث، وكتبت عنه دراسات، وأسّست باسمه مؤسسات، تجمع آثاره، وتنشر آراءه، وتذيع أفكاره، ولكن حظه الأوكس جعله من نصيب العوام الذين دَرْوَشُوه، واتخذوا من ضريحه مطافا، يدورون حوله جيئة وذهابا، لايعرفون عنه إلا أنه وليّ صالح، فحلفوا باسمه، وأوقدوا الشموع عند رأسه، وبخّروا البخور عند رَمْسِه، ونذروا له النذور، وتشفّعوا به، وسألوه قضاء الحاجات بعد أن نسبوا له كثيرا من الكرامات. * وأما الأستاذ، فهو الصديق عبد الرزاق ڤسوم، وهو جدير أن يكتب عن الثعالبي وأمثاله، فهو أستاذ جامعي، وباحث أكاديمي، تعامل مع المدارس الفلسفية، وخاض لُجج التيارات الفكرية، وعالج القضايا الثقافية، فعرف عذْبها وأُجاجها، وسائغها ومَمْجوجها، وطارفها وتليدها، حتى صار له فيها فكر مستقل، ورأي أصيل غير مقلِّد فيه أحدا. * سيتساءل الذين يعرفون ظاهرا من الأمور وهم عن الحقيقة غافلون: ماهي صلة عبد الرزاق ڤسوم، أستاذ الفلسفة والفكر، بالتصوف حتى يخوض في الحديث عنه، ويدلي بدلوه في جبه، ويجري يراعه في يمّه، ويكتب عن أحد أعلامه؟ * إنهم يقولون هذا لما يعرفونه عن ڤسوم من أنه ابن الإصلاح؛ نشأ في أحضانه، ودرس في معهده، وتتلمذ على أشياخه، فاقتنع به عقله، واطمأنَّ به قلبه، فجادل عنه، ودعا إليه؛ ولما يعرفونه من أنه أحد المهتمين بالفلسفة العقلية؛ ممثلة في أحد أبرز رموزها، وهو الفيلسوف ابن رشد. * والحقيقة هي أن عبد الرزاق ڤسوم حسب معرفتي به، التي دامت أكثر من ثلث قرن هو أولى الناس بالكتابة عن التصوف، والبحث في أعلامه، والتعامل مع مباحثه، فهو رجل عقلاني وجداني، يعطي ما للعقل للعقل، وما للقلب للقلب. * والتصوف كما أفهمه هو مزيج من العقل المتأمل والقلب المتأوه، وليس تهويمات فكرية، ورسوما شكلية، ولهذا أستطيع أن أجزم استنادا إلى معرفتي أن الأستاذ عبد الرزاق ڤسوم صوفيّ، ولكنه لا يتمظهر بتلك المظاهر "الصوفية"، ولا يرائي بتلك الرسوم الشكلية، التي يتشبث بها "الصوفيون الشكليون"، ولو اتبع الهوى، وانسلك في طريقة من الطرق لتدرج في مدارج السالكين الرسومية إلى أعلاها. * وإذا كان للصوفيين أذكارهم وأورادهم؛ فإن ذكر عبد الرزاق ڤسوم الدائم، وورده المستمر، هو هذا القرآن الكريم، يتلوه آناء الليل، وأطراف النار، يستفتح به نهاره ويختتمه به، وهو معه في ظَعْنِه وإقامته. * وإذا كان بعض الأذكار والأوراد جميل المبنى، جليل المعنى؛ فإنه لايمكن أن يقارن بالقرآن الأجمل والأجل، ولهذا لم يستبدل عبد الرزاق الذي هو أدنى بالذين هو خير، ولم يستبدل أقوال البشر بقول خالق البشر، ولم يُعْرِض عن النبع ويرد المجرى. * لقد نفض عبد الرزاق ڤسوم الغبار عن هذا العالم، وما أعلم أحدا فعل ذلك قبله، فأخرجه مما وضع فيه إلى المكان الذي يجب أن يكون فيه، فاستخصله من أمشاج الخرافات والتصوف البدعي، كما يستخلص اللَّبَنُ السائغُ من بين فَرْثٍ ودَمٍ، ولهذا فعبد الرزاق ڤسوم "لم يَخْلُق مالم يُخْلَق" كما يقول زكي مبارك ولكنه اكتشف عبد الرحمن الثعالبي، وعرف قيمته، فأبرزه للناس عن حقيقته، وأنزله المنزلة اللائقة به بين أنداده من العلماء. * لقد أحسن الأستاذ عبد الرزاق صنعا، فبذل جهدا، وأضنى فكرا فكان كتابه عن عبد الرحمن الثعالبي فردا في بابه، عدلا في أحكامه. ولقد وضع بذلك اللبنة الأولى في الدراسات الثعالبية؛ لأن الشيخ عبد الرحمن الثعالبي كان مفسرا، وكان محدثا، وكان فقيها، وكان متكلما، وكل ذلك في حاجة إلى دراسة علمية مثل هذه الدراسة، ومثل الدراسة التي انجزها مؤخرا الدكتور محمد الشريف قاهر عن السيرة النبوية الشريفة التي كتبها الشيخ عبد الرحمن الثعالبي تحت عنوان "الأنوار في آيات النبي المختار".