تلجأ عدة عائلات جزائرية إلى رهن مجوهراتها من أجل ضمان لقمة عيش أبنائها، وتعرف هذه الظاهرة اتساعا خلال شهر رمضان أو حتى مع الدخول المدرسي، حيث يجد الأولياء صعوبة كبيرة في اقتناء الأغراض المدرسية لأبنائهم أو حتى سد حاجياتهم الغذائية خلال رمضان. * فطومة وعويشة ومريم وأخريات هن نساء، تجدهن يتدافعن أمام مقرات مختلف البنوك من أجل رهن مجوهراتهن، مفضلات التضحية بزينتهن وحليهن وإسعاد الأبناء وأزواجهن الذين لا يقوون على دفع مزيد من التكاليف اليومية، في ظل غلاء المعيشة والارتفاع الفاحش للمواد الغذائية وكذا الأدوات المدرسية. * وقد عرفت ظاهرة رهن المجوهرات خاصة الذهب ارتفاعا محسوسا خلال السنوات الأخيرة، غير أنها ظاهرة قديمة كانت تلجأ إليها النساء أثناء الحاجة، خاصة المطلقات منهن، على حد تأكيد عديد من النساء اللواتي ألفن ممارسة هذه الحرفة، أما في أيامنا هذه، فإن المئات من النساء يلجأن إلى رهن مصوغاتهن لإعالة أفراد العائلة، ففطومة ذات 40 سنة، امرأة اعتادت رهن بعض مجوهراتها مثل "المحزمة" المصنوعة من اللآلئ والتي ورثتها عن أمها، مقابل حصولها على مبلغ ثلاثة ملايين سنتيم خلال كل دخول مدرسي، وتقول فطومة إنها تلجأ إلى هذا الأمر، حتى تمكن أبناءها من شراء كل اللوازم المدرسية، بما في ذلك الكتب، لأن الراتب الشهري لزوجها لا يكفي سوى لسد بعض الحاجيات كشراء الحليب والخبز وبعض الخضروات. * هذا الأمر تتقاسمه عويشة مع فطومة التي تقوم برهن ما يقارب 300 غرام من الذهب للتحصل على مبلغ 15 مليون سنتيم تمكنها من قضاء شهر رمضان في رخاء وحتى لا تحرم أبناءها من أكل اللحم وبعض الكماليات التي يحتاجها أبناؤها، أما مريم وهي امرأة مطلقة، فبالرغم من أنها موظفة وتتقاضى أجرا إلا أنها تلجأ إلى رهن بعض مصوغاتها، حتى لا تحرم أبناءها الخمسة من كل الضروريات ومستلزمات الحياة. * وتعرف مختلف الوكالات البنكية ازدحاما كبيرا خلال المواسم والأعياد، حيث يجد الموظفون صعوبة كبيرة في استيعاب الأعداد الكبيرة للنساء اللواتي يتزاحمن في طوابير طويلة، ويقدر رهن غرام واحد من الذهب ب 500 دينار بعدما كان في حدود 150 دينار للغرام، وهو تقييم صادر عن بنك الجزائر، راجع إلى ارتفاع سعر الذهب في السوق الدولية. * * البنوك لا تقبل الذهب الإيطالي ونسوة في حيرة من أمرهن * * في هذا الإطار أيضا، أكدت لنا سعيدة التي التقينا بها أمام باب بنك التنمية المحلية بالرويسو بالعاصمة، ومعها حليها الذهبي بغرض رهنه، والحصول في المقابل على مبلغ مالي تسدد به جزءا من مصاريف شراء لباس العيد لأبنائها الثلاثة، لكن يظهر أن سعيها للرهن كلّل بالفشل، حيث وجدناها في حيرة من أمرها، ذلك أن كل القطع الذهبية التي اصطحبتها معها قصد رهنها لا تحمل الطابع الجزائري، بل هي قطع ذهب إيطالي رفض المسؤول عن الرهن ببنك التنمية المحلية أخذه، لأنه ومنذ فترة عامين منعت القطع الذهبية التي لا تحمل الطابع الجزائري من الرهن، وذلك بموجب قرار إداري. وعليه، قررت سعيدة مرغمة بيع قطعتين من مصوغاتها بالقرب من مقر الوكالة البنكية حتى تتمكن من شراء لوازم العيد لأبنائها. * من جهتها، أكدت إحدى بائعات الذهب بحي وادي كنيس بالرويسو أنه منذ تطبيق قرار منع رهن المصوغات الذهبية التي لا تحمل الطابع الجزائري تتلقى وغيرها من ''الدلالات'' يوميا عروضا لبيع المصوغات فيما يسمى بسوق "الدلالة". * لكن معاناة هؤلاء النساء تبدأ عندما يتقدمن للوكالات البنكية من أجل استرجاع مصوغاتهن وتسديد القروض التي منحت لهن مقابل الرهن، حيث تعجز عشرات منهن على تسديد المبالغ المالية المستحقة، ما يدفع بالبنوك إلى حجزها وزيادة مبلغ إضافي كضريبة جراء التأخر في التسديد، وتوجد عشرات من النساء اللواتي فقدن مصوغاتهن بعد انقضاء آجال التسديد. * * بدعة يهودية غيرت نمط عيش الجزائريين * * لا توجد صور أكثر بؤس من طابور نسائي أمام بنوك (الرهن) كل واحدة من المصطفات تحمل حليها الذهبية لرهنها مقابل دراهم معدودات تسد بها الرمق وتجتاز بها حاجيات شهر رمضان أو عيد الفطر المبارك، وللأسف فإن اللجوء إلى وكالات القرض والرهن يصادف دائما المواسم الدينية ومنها بالخصوص رمضان وعيدي الفطر والأضحى، إضافة إلى مواسم الدخول المدرسي الذي تزامن هذا العام مع شهر الصيام وأيضا لأجل مناسبات الزواج والختان خلال الصيف، ومع أن الجميع متفق ومقتنع بأن عملية الرهن هي سقوط في الحرام، فإن الحاجة جعلتهم يمارسون هذا "الشر الذي لابد منه". * * الرهن بدعة يهودية * * إذا كانت فوائد صندوق التوفير والاحتياط فيها بعض الفتاوى التي تبيحه، فإن عملية رهن الذهب عليها إجماع بحُرمتها وحتى المفتين وأئمة وزارة الشؤون الدينية لا يجدون حرجا في تحريمها، وقد اتصلنا بعدد من الأئمة ولم يترددوا جميعا على التأكيد أن العملية حرام لا تستدعي المجادلة، مستندين على قوله صلى الله عليه وسلم: "كل قرض جرّ نفعا فهو ربا" والحرام ينطبق على الذي يأخذ وعلى الذي يعطي والأصل في الشهر الكريم رمضان أن لا يسرف الصائم في الملبس والطعام ولا يغالي، فالصيام يدعو المسلم لأن يقلل في المصاريف وليس أن يضاعفها حتى يروّض نفسه على الأيام العسيرة ويحس باحتياج الفقراء، ونصح رجال الدين نساءنا في حالة الحاجة بيع حليهن دون اللجوء للرهن، لأنه يؤدي إلى الربا. * وقد انقرضت في مختلف دول العالم بنوك الرهن، رغم أنه في أوربا وأمريكا توجد بنوك رهن العقارات والأراضي، خاصة في فرنسا، حيث تصل نسبة السلفة إلى 15٪ Prêtlypothécaire. أما عن بنوك رهن الذهب، فهي لم تعد عموما موجودة في الدول العربية والاسلامية لأجل ذلك بلغت الجزائر مع بداية الألفية الجديدة منصب نائب رئاسة المنظمة الدولية لبنوك الرهن. * وبدأت بنوك الرهن الجزائرية في العهد الإستعماري وقام اليهود بتفعيله، حتى أنها تقع في حارات يهودية مثل بنك التنمية المحلية بقسنطينة المتواجد في شارع طاطاش الذي كان زنقة اليهود في العهد الاستعماري، وكان الرهن يخص كثيرا من المعادن والأواني مثل النحاس والدراجات والسيارات والأجهزة الكهرومنزلية والفضة، ومنذ 1984، تمّ اختصار العملية على معدن الذهب فقط والبنوك عموما لا تسأل الراهن عن مصدر الحلي التي يصطحبها معه للحصول على المال ولا يطلب حتى فاتورة الشراء ويكتفي بطلب بطاقة التعريف وحدث في عدّة بنوك اكتشاف ذهبا مزوّرا وتقوم عادة بإرجاعه لصاحبه وبصفة عامة لصاحبته من دون أي إجراءات قانونية، لأن معظم الراهنات نساء بائسات وأحيانا عجائز بلغن من الكبر عتيا وأثقل الإملاق ممشاهن تصدمن بكون تحويشة عمرهن مزوّرة، فيصعب على البنك متابعتهن بالاحتيال!! * * * وتفوق نسبة النساء في الرهن ال95٪ مقارنة بالرجال * * ويقارب عدد الراهنين في كل بنك المئة ألف، مما يرشّح رقم الراهنين من بلوغ المليون خلال العام الواحد، وقد لمسنا في بنوك الرهن المتواجدة في الجزائر التركيز على الجانب الإنساني، إذ يمنحون متسعا من الوقت للراهنين قبل بيع حليهن الغالية، إذ توجد بعض المصوغات قارب سن رهنها العشرين سنة. ومازال البنك ينتظر رفع ثمنها (المضاعف) كما حاولت (يائسة) معظم بنوك الرهن القضاء على طوابير "الذل" أمام أبوابها التي تبدأ في بعض المواسم الدينية منذ صلاة الفجر.. * ولكم تصوّر امرأة تقف أمام الناس في طابور صباحي والكل يعلم أنها جاءت لرهن حليها بفعل فقرها، ومازال الزبائن يحلمون بسرية لجوئهم لرهن حليهم.. ولكن وكثيرات جدّا ترهن ذهبهن، دون علم ولي أمرهن وأزواجهن بالخصوص. * ولم يعد الرهن مقتصرا على الفقيرات ومتوسطات الحال فقط، بل طال الآن الأغنياء ولكن من أجل إكمال مشاريعهن من شراء محلات أو إكمال بناء فيلات وهم لا يتخلفون عن موعد دفع مستحقاتهم واسترجاع الحلي والمجوهرات وهو ما جعل الوكالات البنكية المختصة في "الرهن" تفكر في إدخال العقارات والأراضي في عملية الرهن والتي ستضمن لهذه الوكالات زبائن من العيار الثقيل ومداخيل منتفخة، وكانت البلديات إلى غاية بداية السبعينيات هي التي تتكفل بعملية رهن ذهب الزبائن، وبعد ظهور بنك التنمية المحلية BDL منحت الدولة صلاحية رهن الذهب لهذه البنوك وظلت لعدّة سنوات العملية مقتصرة على ثلاث بنوك تتموقع في العواصمالجزائرية الثلاث وهي العاصمة وقسنطينة ووهران لتظهر بعد ذلك عدّة فروع في مدن صغيرة مثل الشلف وعين البيضاء بولاية أم البواقي وتمنح البنوك عموما 250دج لكل 1غ من الذهب لمدة ستة أشهر، وعندما يريد الراهن استرجاع حليه عليه أن يرجع المال الذي منحه البنك مع نسبة 8٪ من المبلغ، وعموما يتم بيع ذهب الزبون بعد ثلاث سنوات في حالة عدم تمكن الراهن من دفع المستحقات مع الفوائد.. وكانت نسبة الزيادة 14٪ إلى 7٪ وتناقص الفوائد زاد من شغف الراهنين وجعل بنك التنمية المحلية يفكر في فروع كثيرة جنوبا وشمالا وغربا وشرقا.. وكلها دليل على أن الفقر ينتشر بسرعة، كما أن الناس يكلفون أنفسهم ما لا طاقة لهم به.