يكشف مدير الإعلام سابقا برئاسة الجمهورية أن الرئيس هواري بومدين قد تدخل لدى نظيره جمال عبد الناصر عام 1966، لأجل تعطيل حكم الإعدام في حقّ القيادي الإخواني سيد قطب، موضّحا أنه أرسل لهذا الغرض، وزير الخارجية وقتها عبد العزيز بوتفليقة إلى القاهرة، بل يؤكد أنّ ردّ طلب الجزائر كاد أن يحدث "أزمة باردة" في علاقة البلدين. ومع ذلك، فقد سعت شخصيات، وصفها محيي الدين عميمور بالمتأسلمة، للوقيعة بين بومدين والإسلاميين عبر الوطن العربي، حيث اتهموه بالإلحاد والشيوعية، مع أنّ الرجل برأيه كان متأثرا بالفكر الإسلامي المستنير، وفي مقابل ذلك، يبرّر المتحدّث تعامل الرئيس مع بعض معارضي سياسته باسم الإسلام. وفي الجزء التاسع من حواره مع " الشروق"، ما زال مستشار بومدين للإعلام مدافعًا عن محاسن الثورة الزراعية، ويحمّل ضمنيّا تيار الفرنسة مسؤولية الإخفاقات التي لحقتها، مؤكدا أن المعرّبين كانوا بعيدين تماما عن إدارة القطاع الفلاحي في كافة المستويات. ماذا عن موقف نظام بومدين من التيار الإسلامي بشكل عام...؟ بالنسبة لموقف السلطة من التيار الإسلامي بشكل عام، فأتصور أن ذلك كان في معظمه، وباستبعاد أصحاب النوايا الطيبة الذين يتحدثون من دون خلفيات مَرَضية، كان موقفا سياسيا محددا، سواء ضد أتباع دعاة قامت بإعدادهم دول إسلامية تعتنق مذهبا غير مذهبنا المالكي الأشعري، وأهم من ذلك، تتناقض مع توجهنا السياسي والاقتصادي، وهو ما تأكد فيما بعد ودفعنا ثمنه غاليا، أو لمواجهة من يحرضهم بعض الذين لم يجدوا مكانا لهم في مواقع المسؤولية إثر استرجاع الاستقلال، ولم يعطهم الحزب الواحد فرصة تكوين تجمعات تخدم أهدافهم، وبعضها كان نبيلا، لكن يبدو أن التعامل معها كان على نهج "ما أسكر كثيره فقليله حرام". ومعروف أن التنافر مع نظام الحكم من قبل البعض أخذ حجما عدائيا إثر خطاب بومدين في لاهور، عندما استهجن بشكل ضمني مواقف بعض علماء السلطان ومرتزقة المترفين، ممن يطالبون الفقراء بتجاهل ما يعيشه الأثرياء من نعمة، بالقول أن الجنة للفقراء، وقامت القيامة على الرئيس عندما قال في خطابه: لن أدعو المسلمين إلى دخول الجنة ببطون خاوية. من تقصد بالجهات التي لم تجد لها مواقع مسؤولية إثر استرجاع الاستقلال، فعمدت إلى تحريض المعارضين الإسلاميين...؟ أنت تعتمد أكثر من اللازم على ذاكرتي، وتعاملني مشكورا وكأنني مؤرخ مرحلة الاستقلال، وهذه عمامة أكبر بكثير من رأسي المتواضع. من المسؤول عن التنافر برأيك... الرئيس أم التيارات الإسلامية ؟ الرئيس بومدين كان واضحا في مواقفه كمسؤول عن الدولة، وأتصور أن بعض القيادات الإسلامية لم يحسن التعامل مع الرئيس وحاول المزايدة عليه، وكانت هناك ألسنة سوء تحاول الإيقاع بينه وبين التيار الإسلامي في الوطن العربي، وخصوصا مع قيادات الإخوان المسلمين، الذين كانت تقلقهم العلاقة الوثيقة بينه وبين جمال عبد الناصر، وكانوا بالتالي يصنفونه في غير قائمة الأصدقاء، لكن لا بد هنا من التذكير بأن بومدين أرسل عبد العزيز بوتفليقة لعبد الناصر ليرجوه تخفيف الحكم على سيد قطب، وكادت عدم استجابة الرئيس المصري تؤدي إلى فتور في العلاقات بين البلدين. ووصل الأمر ببعض المتأسلمين الجزائريين إلى أن هناك من راح يندد بالاختيارات السياسية الجزائرية في بعض مساجد الخليج، ويجترّ أسطوانة المبادئ المستوردة، وهناك من سرّب للسعوديين ادعاءات بأن بومدين شيوعي ملحد، وهو ما اكتشف الملك فيصل خطأه في أول زيارة له إلى الجزائر بداية السبعينيات، فقد وجد أمامه قائدا مسلما واعيا لا يخاف في الله لومة لائم، قدْوته، بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، عمر بن الخطاب، ومرجعيته النضالية أبو ذر الغفاري، وكانت ثقافته الإسلامية العميقة محل تقدير العاهل السعودي، الذي أسعده حرص بومدين على أن يُبنى المسجد في قلب القرى النموذجية ليكون مركز الإشعاع فيها، ولفت نظر العاهل السعودي رفضُ بومدين للخرافات التي ميزت عهود الانحطاط في الدولة الإسلامية، وحرصه على أن يعود للإسلام مجده الأول بفضل الإيمان الذي يُصدقه العمل. القارئ سيلاحظ أنك ترمي بالاتهامات جزافا عندما تتحدث عن دور "المتأسلمين الجزائريين" دون تحديدهم...؟ من حق القارئ أن يلاحظ ما يريد ملاحظته، ومن حقي أن أقول ما أعرفه في حدود الالتزام بالحقائق كما أراها، ودائما مع احترام الآراء المخالفة والمختلفة، وأنا لست هنا لأشهر بأحد، وأعتقد أن ما عشناه في العشرية الدموية يجيب وحده عن تساؤلك، وهو للأمانة تساؤل مشروع، وهناك من أذكر اسمه اليوم لأنه ما زال على قيد الحياة وقادر على تكذيبي وهو من كان يسمى الشيخ أبو بكر الجزائري، الذي كان يهاجم النظام الجزائري في مساجد السعودية ويتهمنا بالشيوعية، ولم يكن وحده في ذلك. وماذا عن موقف بومدين من دعاة الأمازيغية...؟ أجبت على هذا السؤال من قبل. وأكرر باختصار شديد أن بومدين كان يؤمن بالتكامل بين العمق التاريخي الأمازيغي والانتماء الحضاري العربي الإسلامي، وكان يرفض أن تجسد ثلة أو فرد أو تيار في نفسه أحد المكونات الأساسية للشخصية الجزائرية، سواء كانت العروبة أو الإسلام أو الأمازيغية، كما كان يرفض أن يتاجر أحد بالتاريخ أو بالديمقراطية لمجرد التموقع أو لتصفية حسابات من أي نوع. هل صحيح أن فرنسا تعاونت مع نظام بومدين على قمع مؤسسي "الأكاديمية البربرية" في وقت زعم أنها من صنع باريس...؟ يمكنك أن تعود لكتاب الدكتور أحمد بن نعمان، وهو إطار سامٍ من منطقة القبائل، وهو يؤكد دور المخابرات الفرنسية في إنشاء الأكاديمية البربرية في 1967، بعد تأميم بومدين للمناجم في 1966 وتوجهه نحو إلغاء الوجود الفرنسي في المرسى الكبير مخالفا لوثيقة "إيفيان" وإعطائه الأولوية للغة العربية، وستجد في الكتاب وربما أيضا في وثائق "الأنترنت" تقرير "ألان بيرفيت" وزير العدل الفرنسي، الذي أكد فيه حرفيا "أهمية الظاهرة البربرية والمنفعة التي تستطيع بلادنا (فرنسا) أن تستخرجها إذا عرفت كيف تلعب بالخصوصية البربرية"، وأعيد "كيف تلعب بالخصوصية البربرية". وستجد في نفس الكتاب وفي غيره أدلة على ارتباط المؤسسين للأكاديمية بالمصالح الفرنسية، ومعظمهم كانوا يحملون الجنسية الفرنسية، وبالتالي فأمر عجيب أن يقال بأن فرنسا تعاونت مع نظام بومدين لقمع مؤسسي الأكاديمية البربرية، وليس الأمازيغية. ويمكنك أن تعود لكتابات الفرنسيين خلال مرحلة الاحتلال، والتي حاولت دائما خلق العداوة بين العرب والبربر، والقبائل على وجه التحديد، اعتمادا على ادعاءات تاريخية مشوّهة تزعم أن البربر أقلية مضطهدة من قبل الأغلبية العربية، وأنهم أكثر ذكاء وأعمق أصالة. ولقد ذكرت بالمقولة الرائعة للرئيس الشاذلي بن جديد: كلنا أمازيغ عربنا الإسلام. أسألك في موضوع آخر بصفتكم واحدا من ثمرات الحركة الطلابية الوطنية، ألم يكن برأيك حلّ بومدين للاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين عام 1971 خطأ...؟ في 1971، وابتداء من جوان على وجه التحديد، كنت أقطع خطواتي الأولى في المسؤولية السياسية، وأتصور أن منطق السبعينيات كان توحيد الشبيبة كرافد رئيسي من روافد الحزب الواحد، على أساس أن قاعدة الحزب الطلائعي هي المنظمات الجماهيرية، لكنني أتصور أيضا أن ذلك ارتبط بحجم من الأخطاء لا أستطيع أن أنفي عن بعضها حسن النية ولا عن بعضها الآخر النزعة المضادة للعربية، وأعتقد مخلصا أن القرارات المتخذة في ذلك الشأن وغيره يجب أن يطبق عليها منطق التعامل مع الاجتهاد. لا حرج في الإقرار بالخطأ أو على الأقلّ تحميل كل طرف مسؤوليته، لذا أريدك أن تفصّل أكثر في الإجابة، علما أن إتحاد الشبيبة لم يظهر إلا في 1975...؟ قلت لك ما أعرفه وما أتذكره بعد كل تلك السنين، وأي تفصيل في هذا الأمر هو مجرد ادعاء بالعلم أرفض أن أقوم به، أو ممارسة للحكمة بأثر رجعي، وهو أمر أبتعد عنه. عندما نتحدث عن سياسة بومدين الاقتصادية، ألم يكن خيار الصناعات الثقيلة في غياب التكنولوجيا والتبعية للغرب، ألم يكن عبئا على الخزينة، وعلى حساب الزراعة...؟ إذا كان لا بد من الاعتراف بأن أهم فشل أصاب الاقتصاد الجزائري هو فشل الزراعة، فإنني أنتهز الفرصة هنا لأقول لمن يتهمون التعريب بأنه وراء انهيارنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بل والفني بأن ميدان الزراعة لم يعرف مسؤولا واحدا معربا، سواء كوزير أو حتى كمدير بل وحتى كرئيس تعاونية، وكان كل شيء تقريبا يُدار بالفرنسية، حتى دروس محو الأمية. ولعلي أضيف إلى ذلك أن كثيرا من طلبة الأقسام المعربة هُمّشوا في عمليات التطوع التي كانت من أبرز عناصر الثورة الزراعية، ولم يكن هناك، في حدود ما أعرفه، أي اهتمام بإرسال بعثات تعليمية لدراسة الزراعة في الوطن العربي، في حين أن هناك بلدانا عربية اشتهرت منذ التاريخ القديم بالزراعة، مثل العراق ومصر، وكان يمكن أن نستفيد من خبراتها، لكننا كنا ننظر دائما نحو الشمال، ولا نثق إلا بمن يتعاملون بلغته. ومأساة الزراعة في الجزائر كانت تعالي معظم الفلاحين عن الفلاحة، وتسابق الكثير منهم للالتحاق بأي منصب عمل مضمون المرتب الشهري والعطلات السنوية والمنح العائلية، وربما كانت الثورة الزراعية محاولة للالتفاف حول التسيير الذاتي، الذي اعتمد في ظروف خاصة معروفة. وسأحاول أن أفسر الأمر طبقا لفهمي المتواضع، علما بأنني لم أستفد من الثورة الزراعية لا من قريب ولا من بعيد، ولدرجة أن الفرصة لم تتحْ لي حتى لأسلم وثيقة استفادة أو مفتاح سكن للفلاحين تحت عدسات الكاميرات، ربما لأنني كنت مشغولا بما رأيته أهم من ذلك، وكنتُ أفضل أن يتصدى للأمر بعض من ارتبطوا بها بشكل مباشر، وفي مقدمتهم الأخ أحمد حوحات، المستشار الزراعي للرئيس لأكثر من عشر سنوات، والذي كنا نراه المخطط الرئيس للثورة الزراعية، ومن بينهم أيضا الأخ نور الدين بوكلي، الأمين العام لوزارة الفلاحة في عهد الطيبي العربي، والأخ محمد الميلي، عضو اللجنة الوطنية والمتحدث باسمها، وكثيرون آخرون من بينهم ولاة ومحافظون حزبيون ورؤساء دوائر وبلديات وصحفيين، لم نسمع لهم صوتا منذ رحيل الرئيس بومدين. وأتوقف بداية عند تسمية "الثورة الزراعية"، فالقضية لم تكن عملية تنموية عادية مجالها المحدود هو زراعة الأرض وتسويق المنتجات الفلاحية بقدر ما كانت جزءا رئيسيا من مشروع مجتمع بعيد المدى واسع الاهتمامات، هدفه الأول خلق حيوية سياسية لتجنيد الشعب وتأطيره، أي أنها كانت مشروعا قوميا قصد منه تجنيد كل فئات الشعب بما يدعم الوحدة الوطنية، وقد يكون مثيلا لسياسة العهد الجديد (The New Deal) التي خرج بها الرئيس فرانكلان روزفلت في أمريكا للنهوض بالبلاد بعد الكساد الكبير الذي عرفته في العشرينيات، أو لمشروع السد العالي للرئيس جمال عبد الناصر، الذي جسّد إرادة النهضة الحديثة في مصر. وهذه كانت نقطة اختلاف رئيسية مع قايد أحمد رحمه الله...؟ نعم، من هنا كان الخلاف مع قايد أحمد رحمه الله، الذي كان يريد خلق حيوية شعبية محلية عبر لجان الأحياء أو شيء من هذا القبيل، وهي فكرة جيدة لكنها كانت أقل بكثير مما كان يهدف له بومدين. ماذا حققت "الثورة الزراعية" عمليّا...؟ بداية، يجب أن نتذكر كل ما لحق بالثورة الزراعية منذ وفاة الرئيس بومدين، وما تحدثت عنه طويلا، ومن الناحية الزراعية المحضة، أعتقد أن نسبة الأراضي التي مستها الثورة الزراعية، وفي حدود معلوماتي والتي أرحب بمن يفندها أو يؤكدها، كانت نحو ستة في المائة من مجموع الأراضي المعنية بالزراعة، وكانت في معظمها أراضي عروش أو أراضي تابعة للبلديات أو أراضي أوقاف. وقبل أن تصبح قضايا البيئة والحماية من آثار التلوث المناخي أنشودة القوى الكبرى ومن يتعلقون بأهدابها وكان آخر تظاهراتها الصاخبة مؤتمر باريس، كان من أهداف الثورة الزراعية منذ أكثر من أربعين سنة إنشاء السد الأخضر لوقف التصحر والتأثير على المناخ بما تحدثه الأشجار من تغيير في رطوبة الهواء وإضافة للأوكسجين، بجانب ما تعطيه من أخشاب وثمار وظل ممدود، وهناك قبل كل هذا تحقيق اللامركزية السكانية، بحيث يتوزع السكان على كل التراب الوطني ولا يتجمعون في محتشدات قصديرية حول المدن الكبرى وداخلها، ومن هنا كان مضمون الثورة الزراعية الرئيسي بناء قرى نموذجية توقف النزوح الريفي، وتحول دون نشوء أكواخ متهالكة تخنق المدن الكبرى، وقد تلوث المجتمع وتمتص طاقة الأمن بكل ما ينشأ عنها من انحرافات نتيجة نقص المرافق العامة وإمكانيات الحياة الكريمة. وكان رأي بومدين أن سبب النزوح الريفي هو أولا وقبل كل شيء البحث عن الرزق، ثم ضمان العلاج عند المرض والتعليم بالنسبة للأبناء، وبالتالي يجب أن يجد الفلاح العمل حيث يعيش، ويجب أن يجد المسكن اللائق والعلاج الضروري ومختلف مراحل التعليم الأولي بالنسبة للأبناء، وهنا تأتي قضية القرى النموذجية وآمال الألف قرية. وأعتقد أنه كان هناك أمل كبير في خلق نوع من التنافس بين تعاونيات الثورة الزراعية وتلك التابعة للتسيير الذاتي، ووجود التنافس في حد ذاته دافع للتطور وضمان للتنمية، لأن الهدف في نهاية الأمر هو إحياء الريف الجزائري وبناء وتحديث العالم الزراعي.