المشير الجسمي قائد القوات المصرية في حرب اكتوبر أنت وأنا .. جزائري كنت أم سوداني .. عراقي أم يمني .. حتى المصري والسوري .. كلنا أبناء جيل بأكمله رحنا ضحية خدعة كبرى نسجتها أجهزة استخبارية عالمية بمعية أنظمة عربية عميلة .. كذبوا علينا وضللونا .. وللأسف نجحت مؤامرتهم، فكل الأمم تتحول بعد نصرها إلى إمبراطوريات .. لكنهم حتى حرمونا من الفرح بنصرنا ولم يمنحونا فرصة للتعلم من أخطائنا .. ولأول مرة في التاريخ يجلب نصر عسكري على صاحبه سلسلة من الهزائم والانكسارات .. زادت فرقتنا وتشرذمنا .. وها هو حالنا بعد 35 عاما من حرب أكتوبر 1973 * إنها الحرب التي جمعنا الجهاد فيها تحت راية واحدة فكسرنا أكبر قوة على وجه الأرض ودحرنا المعتدين وكنا على وشك تحرير القدس والقضاء للأبد على الكيان الصهيوني .. لكن وكالعادة تقهقرنا بفعل التآمر والخيانة وغيرها من المصطلحات والعبارات التي تبارينا في إلصاقها ببعضنا البعض، فتباغضنا وتناطحنا وتقاتلنا وسفكنا دماءنا بأيدينا نيابة عن عدونا .. كل ذلك حدث لأننا لم نعرف الحقيقة وتركنا العنان لعدونا وللمتآمرين علينا من أبناء جلدتنا كي يخدعونا .. صدقنا الكذب ولم نكلف نفسنا عناء البحث عن الحقيقة .. فترى ماذا حدث في تلك الحرب .. ولماذا أنفق أعداؤنا الكثير وسخروا كل شيء من أجل طمس حقيقتها؟ * ومن هنا على ضفاف قناة السويسوسيناء والقنيطرة، حيث المواقع الحقيقة لتلك الحرب، تزيل الرياح شوائب الزمن وانحراف الذكريات، فالرمال تحفظ الأسرار أكثر من قلوب الرجال، من هنا نكشف في هذه السلسلة جزءا من الحقيقة الغائبة. * * أجهزة المخابرات وأولى بوادر الخيانة * * تاريخيا هي الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة، صهيونيا هي حرب يوم الغفران، سوريا هي حرب تشرين، ومصريا فهي حرب أكتوبر، أما عربيا فهي حرب العاشر من رمضان .. تسميات عديدة لمعركة واحدة، سجلها التاريخ كأول انتصار عربي ملموس على الكيان الصهيوني، لكنها كانت إحدى حلقات الصراع العربي الصهيوني، الذي بدأ عام 1948، ثم تطور عام 1956، ثم استفحل عام 1967، حينما احتل الكيان الصهيوني الجولان السورية والضفة الغربية لنهر الأردن ومدينة القدس وشبه جزيرة سيناء المصرية، ووصلت القوات الصهيونية إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، وكانت حرب 1973 نتيجة منطقية لحرب 67، وفي الوقت الذي كانت فيه مصر وسوريا وخلفهما العالم العربي يستعدون في صمت وسرية لمعركة أكتوبر، كانت "إسرائيل" قد أمضت السنوات الست التي تلت حرب جوان 67 في تحصين مراكزها في الجولان وسيناء، وأنفقت مبالغ ضخمة لدعم سلسلة من التحصينات على مواقعها من أجل الاحتفاظ بالأرض التي استولت عليها، فأصبحت الحرب على العرب دربا من دروب المستحيل، وركن العدو إلى غروره، غرور وطمأنينة ساهم العرب أنفسهم في تغذية القادة العسكريين والسياسيين الصهاينة، فيما عرف بخطة الخداع الاستراتيجي، التي قادتها أجهزة المخابرات العربية بحنكة وكفاءة بالغتين، فانخدع العدو واتكأ مزهوا على خط بارليف يتشفى في المنهزمين على الجانب الآخر من القناة. * ومن الأشياء الهامة التي لم يركز عليها المؤرخون، أن خطة حرب أكتوبر اعتمدت بشكل أساسي على مجهود المخابرات العامة المصرية والمخابرات السورية وعدد من أجهزة المخابرات العربية، بما فيها الجزائرية، فتكاتفت الجهود من أجل التخطيط للحرب وخداع أجهزة الأمن والاستخبارات الصهيونية والأمريكية والغربية عموما، ومفاجأة تل أبيب بهجوم عبر الجبهتين المصرية والسورية. * وبالعودة لمذكرات المشير الجمسي قائد الجيش المصري في تلك الفترة، نجد أن الرجل كشف عن الدور الفعال الذي لعبته المخابرات العربية، والتي حققت سلسلة من الانتصارات على الكيان الصهيوني وعدد من أجهزة الاستخبارات العالمية قبيل وخلال الحرب، حتى أنها نجحت في استغلال الخيانات العربية لصالحها، وذكر الجمسي واقعة قال فيها أن العاهل الأردني الراحل الملك الحسين بن طلال علم بخطة الهجوم وحاول إحباطها لاعتبارها ضد المصالح الأردنية، وفي 25 سبتمبر 1973 قام بزيارة سرية لتل أبيب وأبلغ القادة الصهاينة عن الحرب المتوقعة، غير أن القيادة العسكرية الصهيونية شككت في تقرير الملك الحسين، واستهزأ منه موشيه ديان في حضرة رئيسة الوزراء الصهيونية غولدا مائير قائلا: "جيوش الأرض كلها لا تستطيع عبور قناة السويس أو تقترب من خط بارليف، دع العرب يجربون وسترى بنفسك يا جلالة الملك نهايتهم للأبد". * ويذكر الجمسي أن تلك الواقعة كانت إحدى أهم الأوراق التي استخدمتها المخابرات المصرية لتضليل العدو، فقد كشف عن حقيقة هذا اللقاء العميل المصري "رأفت الهجان"، ومن خلال خطة فائقة الذكاء نجحت الاستخبارات المصرية والسورية في إيصال رسائل مضللة للكيان الصهيوني عبر الملك الأردني، كان لها دور بارز في التعتيم على موعد الحرب. * * أقمار أمريكا ومكر الله * * وبالحديث عن نظرية السرية والتعتيم تلك، نجد إنها كانت مهمة للجيوش العربية، فقد كانت قوة وجهوزية الجيش الصهيوني تعادل 05 أضعاف الجيوش العربية مجتمعة، إضافة إلى وجود عدة موانع طبيعية وصناعية وعسكرية تجعل من وصول القوات العربية للاشتباك مع الجيش الصهيوني أمرا مستحيلا، فلم يكن هناك من سبيل أمام العرب سوى المباغتة من أجل إحداث الارتباك داخل صفوف العدو وإتمام بقية بنود الهجوم والاشتباك. * وبالفعل نجحت الخطة، وفي مذكرات المشير أحمد إسماعيل، أحد أهم قادة أكتوبر، يقول الرجل: "علمنا عبر عملائنا أن تل أبيب تلقت المعلومات الأولى عن الهجوم المقرر يوم الخامس من أكتوبر عبر الولاياتالمتحدة التي رصدت أقمارها التجسسية تحركات الجيش المصري من ثكناته تجاه القناة، لكننا لم نغفل حركة هذه الأقمار وعمدنا قبيل الحرب بشهور لتحريك القوات عدة مرات بنفس الطريقة، لإقناع العدو بأنها حركات روتينية وتدريبية، حتى إذا حانت ساعة الصفر يكون التحرك في مأمن من ضربة جوية صهيونية استباقية، وفي الوقت نفسه كان التحرك قبيل المعركة بساعات، وهي مدة غير كافية لاستدعاء وتعبئة الاحتياط الذي يمثل غالبية القوات الصهيونية، وكان معظم الجنود والضباط قد تركوا وحداتهم وعادوا لمنازلهم للاحتفال بعيد كيبود اليهودي، أو ما يعرف في العقيدة اليهودية بعيد الغفران، ورغم ذلك دعت غولدا مائير بعض وزرائها لجلسة طارئة في تل أبيب عشية العيد، ولكن غرور القادة الصهاينة دفعهم لتكذيب تلك المعلومات، وأقسم موشي ديان بأن أي هجوم عربي عبر القناة والجولان سيفتح بوابات الجحيم على العرب، وسيخضع الأقطار العربية كلها من المحيط إلى الخليج تحت السيطرة الإسرائيلية بعد ابادة الجيوش العربية في مياه قناة السويس، حسب توهمه، فمالت العجوز الصهيونية لقائد جيشها "القوي"، وقضت ليلتها تحلم برؤية الجيوش العربية وهي تحترق عن بكرة أبيها بالنابالم في القناة"، ويختم إسماعيل هذه الفقرة بالآية القرآنية "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين". * * الصلاة والرقص قبيل الزحف للموت * * خلال أربعة شهور قرأت عشرات الكتب والشهادات التاريخية والوثائق عن حرب أكتوبر، لكنني في هذه الفقرة وجدت نفسي رغما عني أتذكر عددا من الشهادات التي أدلى بها أبي لي في الصغر، فقد كان رحمه الله أحد الذين شاركوا في هذه الحرب، ومن قبلها حروب الاستنزاف و67 وكذلك حرب اليمن. كان لا يترك مناسبة دون الحديث عما رآه وعما سجلته ذاكرته، أما جسده فقد حفرت الشظايا بدورها جزءا من الذكريات عليه. أبي لم يكن قائدا أو صانعا لقرار، لم ير المعركة عبر المنظار والخرائط، وإنما عايشها كجندي ينفذ ما يؤمر به، ولم تر عيناه سوى البقعة الضيقة من الأرض التي كلف للتحرك بها، ورغم ذلك كانت معلوماته المحدودة لا تقل أهمية عن معلومات وشهادات المؤرخين والقادة، بالطبع لم يكن يدرك ذلك، لكن كان جل همه زرع الروح القتالية في نفوس أبنائه، وتربيتهم على حب الجهاد ضد عدو طالما وصفه بالغدّار والمجرم، وفي زمن كان يصمه دوما بزمن المنهزمين والخونة. وجدت نفسي مجبرا على نقل شهادة والدي الذي تقاضى ثمن زهرة شبابه خنجرا عسكريا كان يعتبره أغلى من كنوز الأرض، الرجل رحمه الله ارتدى بذلة الجهاد 09 سنوات، قاتل فيها على جبهات عدة، وبمنطق وصفه كل المحيطين به بالغريب والشاذ رفض أن يتقاضى درهما ولا دينارا ولا حتى تكريما حتى لا يضيع جهاده في سبيل الله، فقد كان دوما يقول لنا "جاهدت وتمنيت الشهادة طمعا في الجنة، ولن أستبدلها أبدا بما هو أدنى حتى وان متم بالجوع، نعم لم أقدم لكم مالا ولا جاها، ولكن تركت لكم رضى الله، وصنعت منكم رجالا أشداء".. هذه العبارات والمواقف وغيرها جعلتني مقتنعا أن شهادات أبي أصدق وأهم من شهادات أصحاب المآرب والأبطال الوهميين، تذكرت كيف كان قاسيا معي وإخوتي في كل شيء يتعلق بالكرامة والكبرياء والأمانة، ولم يطلب منا يوما أن نسجل ما يقوله للزمن أو ما شابه، فقد كان أشد ما يكره الفخر و"الزّوخ"، حتى وأنا أكتب هذه الأسرار عنه أشعر بالخوف من الإتيان بأمر يغضبه ويعكر عليه صفو راحته الأبدية، لكنني وجدت أن دواعي وأساسيات العمل تفرض علي هذا الشيء، المهم أن أبي كان أحد أفراد القوات الخاصة المعروفة باسم "صاعقة 777"، وهي من أشرس وأقوى الفرق الخاصة بشهادة كثير من المحللين والخبراء العسكريين، فأفرادها يتدربون بأساليب هي الأقسى والأعنف لخلق مقاتل قادر على التصدي لمختلف الأسلحة بجسده وسلاحه الخفيف وفي أحلك وأخطر الظروف. وبدون الإطالة في وصف قدرات مقاتلي هذه الفرقة، فإنها تحملت عبئا كبيرا رفقة بقية أفراد القوات الخاصة في حرب أكتوبر، وأوكلت إليها مهام تعتبر مستحيلة في القواميس العسكرية، إلا أنها أدتها بنجاح. * قال لي العريف "قطب عرفات" رحمه الله: "قبيل حرب أكتوبر نفذت عدة عمليات فدائية في عمق سيناء أثناء حرب الاستنزاف، وفي كل عملية قتلت عددا من الصهاينة بين ضباط وجنود، كانت الأوامر تطلب منا إيقاع أكبر عدد ممكن من الخسائر البشرية والمعدات في صفوف العدو، وكان الأمر في غاية السهولة، فما أجبن الصهيوني حينما تنفتح عليه حصونه وحينما ينكشف عنه درعه، إنه لا يجيد الاشتباك ولا القتال عن قرب، وما أسهل وصول الخنجر إلى صدره أو كسر عنقه بمجرد سقوط سلاحه، لكن تلك العمليات السريعة والخاطفة لم تكن أبدا لترضيني أنا وزملائي الذين كتبت عليهم الهزيمة في حرب حرموا حتى من خوضها، كنا نتعطش لحرب حقيقية نقاتل فيها عدوا صنع نصرا زائفا بضربة غادرة متبوعة بقرارات عسكرية طائشة وغبية كشفت ظهرنا وأوقعتنا في شَرَكِه"، ويواصل محدثي قائلا: "طوال 06 سنوات تدربنا بقساوة من أجل هذا اليوم، وفي فجر يوم السادس من أكتوبر، طلبت منا القيادة نزع الملابس العسكرية وارتداء الملابس الرياضية أو ما شابه والقيام بأفعال توهم العدو أننا في حالة استرخاء، فكان بعض الزملاء يلهون ويتقاذفون الكرة، أما أنا فتيممت وأخذت أصلي وأنا أشعر أنني على موعد مع الثأر أو مع الموت .. لا يهم، المهم أنني بمجرد أن انتهيت من الصلاة عدت لخندقي وارتديت لباسي العسكري من جديد، وأخذت أعد سلاحي وذخيرتي وخنجري، وعندما رآني قائدي المباشر سألني عن سبب تركي لفترة الراحة، فقلت له أجهز نفسي للقاء هام شرق القناة، فضحك القائد قائلا: "لا أعتقد أن هناك عملية هذه الليلة، حتى النقيب عبد الباري نفسه لم يكن يعلم ميعاد الحرب ولا أي أحد سوى القادة في غرفة العمليات الرئيسية بالقاهرة، ولكنه إحساس مقاتل يناديه الموت من بعيد". * * يتبع * * * تقرأون في الحلقة القادمة * * أيام القتال في معركة الكرامة العربية * صيحة "الله أكبر" تزلزل "إسرائيل" * كيف انهارت أسطورة الجيش الذي لا يقهر في ساعات؟ * "جيش الرب" يصرخ ويهرب في الصحراء