في هذا الحوار يغوص الوزير السابق والسيناتور صالح قوجيل رفيق الشهيد مصطفى بن بولعيد، في فترة الأربعة أشهر التي فصلت بين تاريخ وقف إطلاق النار وإعلان الاستقلال، ويتحدث عن المناورات التي حاولت من خلالها فرنسا تمديد بقائها في مستعمرتها السابقة، ولو عبر وكلاء لها، كما عرض السباق من أجل استلام الحكم بين قيادة الأركان والحكومة المؤقتة، التي كان يقودها بن يوسف بن خدة. البعض يقول إن استقلال الجزائر الحقيقي كان في 19 مارس، لماذا تأخر إلى 5 جويلية 1962؟ قبل الكلام عن 19 مارس، ينبغي العودة قليلا إلى الوراء. 19 مارس يمثل يوم نهاية الحرب بين الجزائروفرنسا.. المفاوض الجزائري كان باسم جبهة التحرير وليس باسم الحكومة المؤقتة، لأن فرنسا يومها لم تكن تعترف بالحكومة المؤقتة. هذه النقطة تنطوي على أهمية كبيرة. الذين تفاوضوا في إيفيان الأولى، رجعوا لاجتماع المجلس الوطني للثورة (CNRA)، لتقديم الحصيلة، صحيح أن الوفد المفاوض الأول كان يضم أعضاء من قيادة الأركان، مثل قايد أحمد وعلي منجلي. في المرحلة الثانية لم يشارك ممثلون عن قيادة الأركان، بسبب خلافات حول بعض النقاط، فتغيرت تشكيلة الوفد المفاوض، حيث تم اللجوء إلى العقيد مصطفى بن عودة. لكن بن عودة لم يكن من قيادة الأركان؟ الجماعة اختارته لأنه كان لا بد من رجل عسكري ضمن الوفد الجزائري المفاوض، طالما أن الفريق الفرنسي يضم عسكريين. ولذلك تم الاستنجاد ببن عودة. وقيادة الأركان كانت موافقة على مشاركة بن عودة باسمها؟ لم يشارك بن عودة باسم قيادة الأركان لأنها ليست هي من اختارته. ولهذا يمكن القول إن قيادة الأركان لم تكن حاضرة في جولة إيفيان الثانية، فهي تحفظت على بعض الأمور خاصة المتعلقة بالجيش. لما انتهت المفاوضات وتم التوقيع على الاتفاقيات عاد الوفد المفاوض ليعرض الحصيلة في اجتماع المجلس الوطني للثورة الأخير، وكان موضوعه وضع مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي، وهو ما سمي مشروع طرابلس. تم ضبط 19 مارس لوقف إطلاق النار، و2 جويلية لإجراء استفتاء الاستقلال.. من حدّد هذين الموعدين؟ كل طرف كانت له حساباته وخلفياته.. لكن ما أتذكره هو أنه في كل ولاية تم استحداث لجنة لمراقبة وقف القتال وهيئة تنفيذية مؤقتة لتنظيم مرحلة الأربعة أشهر التي تفصل بين موعد 19 مارس وتاريخ إجراء الاستفتاء في 2 جويلية. كيف تم الاتفاق على تسيير مرحلة الأربعة أشهر؟ هذه الأمور تم ضبطها في اتفاقيات إيفيان، وقد جرى تسميتها الهيئة التنفيذية المؤقتة، وقد اختير لها "روشي نوار" ببومرداس مقرا، وقد تجنبوا العاصمة لأنها كانت تحت رحمة الاعتداءات الإرهابية لمنظمة الجيش السري (OAS) . وهل كانت "روشي نوار" تتوفر على الهياكل اللازمة لاستقبال المولود الجديد؟ نعم، كان المطلوب متوفرا. نعود للمفاوضات.. أتذكر أن هذه المنظمة الإرهابية (OAS) اغتالت رئيس بلدية إيفيان الفرنسية، لمجرد أن المفاوضات احتضنتها بلديته، وهذه إشارة إلى أن هذه المنظمة لم تكن هينة. ولكن دعني أوضح بعض النقاط التي جرت في اجتماع المجلس الوطني للثورة الأخير.. تفضل؟ قبل ثلاثة أيام من اجتماع المجلس الوطني للثورة، تكوّنت لجنة يترأسها بن بلة ومعه محمد الصديق بن يحيى، لأن الأخير كان أمين عام للحكومة المؤقتة ولمجلس الثورة في وقت عباس فرحات ومن بعده يوسف بن خدة. انعقد اجتماع اللجنة لتحضير اجتماع المجلس الوطني للثورة في طرابلس، وهو آخر اجتماع. وهذه اللجنة قامت بعملها في الحمامات بتونس، وجهزت البرنامج، ولما انعقد الاجتماع بطرابلس، تمت مناقشة المشروع، على أن ينعقد الاجتماع مباشرة بعد الاستقلال ويكون موسعا لكل الأطراف لمناقشة المشروع والمصادقة عليه، لكنه تأخر إلى العام 1964. أول نقطة، تمت الدعوة لعقد مؤتمر في الجزائر للمصادقة على برنامج ما بعد الاستقلال، البرنامج السياسي، الاقتصادي.. نوقش البرنامج وتمت الموافقة عليه. ومن بين ما فيه، إعادة هيكلة جيش التحرير، وتحويل جبهة التحرير الوطني إلى حزب جبهة التحرير، وقد تم الاتفاق على هذه النقطة من قبل الجميع، وفي النقطة المتعلقة بتحويل الجيش، هناك من يبقى في الجيش، وهناك من يتحول للحزب أو للإدارة أو للحكومة. وفي التوجه السياسي، أذكر أن عباس فرحات هو الوحيد الذي عارض التوجه الاشتراكي للدولة، مع العلم أن مفهوم الاشتراكية التي تم تبنيها عندنا هو العدالة الاجتماعية وليس بمفهومها الماركسي، لأن غداة الاستقلال، كان عدد الجزائريين يقدر بنحو ثمانية ملايين، منهم مليونان يعيشون بعيدا عن قراهم في المحتشدات التي تركها الاستعمار، ونحو 300 ألف لاجئ بين تونس والمغرب، 400 ألف سجين في الجزائروفرنسا.. لذلك أقول ما الفائدة من التعددية في ذلك الوقت، والاختيار كان صائبا، وإن كانت جبهة التحرير لم تكن يوما حزبا واحدا، بل كانت تضم حساسيات مختلفة. فرنسا كانت لها حساباتها، مثل الحفاظ على قاعدة المرسى الكبير، المناطق الجنوبية الغربية حيث توجد التجارب النووية والبترول، إضافة إلى المليون أوربي الذين يوجدون في الجزائر وضمان بقائهم. من جهتنا، الجزائر كانت مسيرة من طرف الفرنسيين، وكل المؤسسات الجزائرية كان يديرها فرنسيون، ولذلك كان الانشغال هو كيفية تعويض الإطارات الفرنسية، بالإضافة إلى إرهاب منظمة (OAS)، وهو ما كان وراء الحاجة لضمان الأمن، وهنا جاءت فكرة إنشاء "القوة المحلية". كيف تم تشكيل "القوة المحلية"؟ كان في كل ولاية "قوة محلية"، وقد اختار لرئاسة كل فرع من فروعها ضابط جزائري عمل في الجيش الفرنسي من قبل، ولكن من غير المتورطين في قتل الجزائريين، وشرعوا في التجنيد إلى أن وصل العدد إلى 100 في بعض الولايات، مثلا نحن في باتنة وصل العدد إلى 40. غير أن تصريحا صدر عن وزير الدفاع الفرنسي في ذلك الوقت، بيار مسمار، يقول فيه إن "القوة المحلية"، ستكون النواة الحقيقية لجيش الجزائر المستقلة. معنى هذا أن جيش التحرير انتهى. كما أن هناك خلفية ثانية وهي أن الفرنسيين قالوا إن جيش الحدود لا يمكنه الدخول إلا بعد الاستفتاء.. وكيف يدخل هل مسلح أم مجرّد من سلاحه؟ سيما وأن هذا الأسلوب سبق العمل به في كل من تونس والمغرب، حيث جرد المجاهدون من سلاحهم، وهو ما أزعجنا كثيرا. هناك نقطة أخرى لا تقل خطورة، وهي أن الرئيس التونسي الأسبق، الحبيب بورقيبة أقام مهرجانا برفقة بن يوسف بن خدة، وخلال ذلك النشاط أعلن بن خدة حل قيادة الأركان في خطابه. ما ذا تقصد بتوقيفهم؟ يعني أنه أقالهم من قيادة الأركان. هنا نفهم أن هناك خلفية، وهي أن إقالة القيادة تعني من بين ما تعنيه أن صاحب القرار يريد فعل ما يشاء بالجنود. هذه المعطيات نبهتنا إلى ضرورة نزع سلاح "القوة المحلية"، وهو القرار الذي تم على مستوى جميع الولايات. من كان صاحب القرار؟ بالنسبة إلينا في الولاية الأولى، الطاهر الزبيري هو من أعطى الأمر، وهكذا كان الحال في بقية الولايات. إذن اتصلنا بهم (القوة المحلية)، وأبلغناهم بوضع السلاح والبذلة، واشترينا لهم لباسا، وأعطيناهم 5000 فرنك للذهاب لبيوتهم. بهذه الطريقة انتهت "القوة المحلية". وبقي عبد الرحمن فارس في "روشي نوار" ببومرداس؟ لا، هو بقي في مكانه. الهيئة التنفيذية المؤقتة، لها مهمات أخرى مثل تنظيم الاستفتاء وتسيير الإدارة. ما ذا كان موقف فرنسا والقوة المحلية إزاء هذا القرار؟ لم يكن هناك رد. ما هي الخطوة التي أعقبت ذلك؟ دخول الجيش من الحدود. قبل موعد إجراء الاستفتاء؟ نعم.. لما دخل الجيش بقواته، كان المنظر مرعبا. وأذكر أن جيش الحدود الشرقية دخل عبر تبسة ثم خنشلة ثم باتنة، فالمسيلة ومن هناك إلى سطيف. ألم تعتبر فرنسا هذا خرقا لاتفاقيات إيفيان؟ لا. أبدا، نحن كنا نحضر أنفسنا. دعني أعود قليلا لاجتماع المجلس الوطني للثورة الأخير، كان يتعيّن الاتفاق على القيادة التي تحكم البلاد، وتكوين مكتب سياسي. الخلاف حال دون حدوث ذلك. في تلك الليلة، أعضاء الحكومة المؤقتة غادروا طرابلس باتجاه تونس، وهناك أنهى بن خدة مهام قيادة الأركان، وبدأت الحكومة المؤقتة توفد رجالها للداخل من أجل التحضير لاستلام الحكم. إذن الخلاف تم ترحيله للجزائر بدخول الفرقاء دون الاتفاق على قيادة موحدة. وكما هو معلوم، الولايتان الثانية والثالثة سارتا إلى جانب الحكومة المؤقتة، والولايات المتبقية الأولى والسادسة والخامسة مع قيادة الأركان، والولاية الرابعة كانت تقريبا على الحياد، وقد حاول العقيد حسان (الخطيب) التقريب بين الطرفين. وهنا أذكر أن الراحل بومدين عقد اجتماعا في بوسعادة وغير اسم "جيش التحرير" وأصبح "الجيش الوطني الشعبي"، النقطة الثانية هو محاولة إنشاء مكتب سياسي في تلمسان لجمع الشمل، حضره بن بلة، خيدر، بيطاط، بوضياف، آيت أحمد والعقيد سي ناصر (محمدي السعيد) من الولاية الثالثة، الذي كان على خلاف مع كريم بلقاسم، بالإضافة إلى بومدين، الذي كلف بالجيش وبوضياف بالعلاقات الخارجية، وخيدر وبيطاط كلفا بالحزب، طبقا لقرارات طرابلس. بعد 15 يوما انسحب بوضياف من المكتب السياسي رفقة آيت أحمد، لكن خيدر واصل عمله مع بيطاط، وتكوّنت أول قيادة مؤقتة للحزب، تتكون من 22 شخصا، وتم اختياري أنا رفقة يحياوي عن ولاية الأوراس. يعني من كل ولاية اثنين، وقيادة الأركان (02)، وهما بوتفليقة ومدغري، ومن فدرالية فرنسا (02) بينهم بومعزة، واثنين من المساجين، علما أن كل الولايات كانت حاضرة. ولما تشكلت الحكومة بعد الاستقلال مثل الحزب فيها كل من بوتفليقة، مدغري، بن تومي، وبيطاط الذي أصبح من بعد نائب رئيس الحكومة. بقي الخلاف قائما مع الولايتين 2 و3. وأتذكر أنني وبن بلة التقينا محند أولحاج بمنطقة عين عباسة بسطيف، من أجل الصلح وهو أول لقاء بين الرجلين من أجل الصلح، وقد حضرت هذا الاجتماع رفقة يوسف يعلاوي وهو اللقاء الذي لم يكتب عنه لحد الآن.. نعود للمرحلة الانتقالية. لاشك أن الفترة الفاصلة بين 19 مارس و5 جويلية 1962، واجهتها تحديات كبيرة، ومنها التعاطي مع قضية الحركى؟ في الحقيقة وقعت مزايدات كثيرة بخصوص هذه القضية. في المنطقة التي عشتها، أعطيت أوامر بأن كل الحركى الذين يقبض عليهم، يوضعون في سجن لامبيز بباتنة. وضعناهم جميعا هناك. لم نسمع يوما بدعوات لقتل الحركى، وإن تعرضوا للقتل حقيقة فليس بالعدد الذي يقدمه بعض المؤرخين الفرنسيين، مثل 150 أو 200 ألف حركي كما قيل. ربما أرادوا إعطاء انطباع بأن الجزائريين كانوا مع بقاء الجزائر فرنسية؟ ربما، ولكن هذا أمر غير صحيح تماما. لكن دعني أذكر حادثة عشتها شخصيا. كنت مارا بالسيارة بالقرب من مدينة بريكة، فلاحظت جمعا من الناس فتوقفت واتجهت نحوه، ولما استفسرت قيل لي إنه تم القبض على اثنين من الحركى، فسألت عن مكانهما، فدلوني على أحدهما، فلاحظت عجوزا وهي تقول دعني أراه (تقصد الحركي) وسمته بالاسم، فسمحنا لها، ولما وصلت إليه قامت بعضه من ذراعه وعادت لتوها، فسألناها، لماذا، فردت قائلة بأن هذا الحركي قتل اثنين من أبنائي.. لم نقتل هذا الحركي ولكن أعطيت أوامر بنقله للسجن لامبيز. وبعد مدة جاءت بعثة للصليب الأحمر من السويد، وطلبت لقاء الحركى في سجن لامبيز، وهناك سألتهم هذه البعثة إن كانوا يريدون الذهاب لفرنسا أو البقاء في الجزائر.. تقريبا كلهم طلبوا الذهاب لفرنسا وقد كان لهم ما أرادوا. ولم تعترضوا على ذهابهم لفرنسا؟ هناك اتفاقيات بهذا الخصوص. وماذا عن دفعة لاكوست التي يشاع أنها مناورة لاختراق الثورة بجزائريين موالين لفرنسا؟ فرنسا أرادت تدارك ما فات وحاولت ربح الجزائريين لإبعادهم عن الثورة. في وقت الاستعمار كانت جامعة في العاصمة، على عكس كل من تونس والمغرب.. وكان نحو 6000 طالب جامعي يدرس بها، بينهم 300 طالب جزائري فقط وربما من أبناء "القياد"، مقابل 8 ملايين جزائري، أما البقية فهم من المليون أوربي الذين يعيشون في الجزائر.. من هنا نعرف جرم الاستعمار. كان الصراع بيننا وبين فرنسا شديدا حول استمالة الجزائريين. لقد حاولت فرنسا خلق قوة ثالثة، وقامت بدفعة لاكوست، التي حاولت من خلالها إدخال الشباب الجزائري للإدارة ولكنها فشلت في الأخير، كما أطلق ديغول مشروع قسنطينة، ولكنها فشلت في الأخير. لم يحدث احتكاك بين الجزائريين والفرنسيين خلال فترة الأربعة أشهر؟ وقعت بعض الاحتكاكات، ولكن كانت هناك لجان تعمل بددت التشنج. ثم إن فرنسا اقتنعت بأن أمر وجودها في الجزائر بات غير ممكن، فضلا عن أن غالبية المليون أوروبي الذين كانت تراهن عليهم غادروا الجزائر، بفعل إرهاب منظمة الجيش السري (OAS)، وكذا لاقتناع الكثير منهم بعدم التعايش مع الجزائريين بسبب المواقف المتطرفة للكثير منهم أثناء الثورة. إلى ماذا كانت تهدف فرنسا من وراء دفاعها المستميت عن بقاء المعمرين في الجزائر؟ اتفاقيات إيفيان أكدت على احترام ملكيات المعمرين، لكن هناك الكثير منهم يملكون آلاف الهكتارات من الأراضي الفلاحية، ومن غير الممكن أن يبقى الحال كما هو بعد الاستقلال. والمعمرون فهموا الأمر. فأكبرهم وهو المعمر السيناتور "بورجو" الذي كان في بوشاوي غرب العاصمة، ترك أملاكه وغادر بعد الاستقلال، وغيرهم كثير.. بل إن الكثير منهم كانوا إرهابيين إلى جانب (OAS)، ولذلك فروا خوفا على حياتهم. كم عدد الجزائريين الذين صوّتوا ضد الاستقلال؟ الذين صوّتوا ب "لا" وصل عددهم إلى 16 ألفا. وهؤلاء جزائريون أم أقدام سوداء؟ ربما خليط من هؤلاء وأولئك. هل قام الأقدام السود بحملة ضد الاستقلال؟ لا.. الجميع غادر، ومن بقي كان متخفّيا.. من أعلن نتائج الاستفتاء؟ بالطبع أعلنها عبد الرحمن فارس، ولكن فرنسا أعلنتها أيضا على لسان ديغول. ومصير عبد الرحمن فارس رئيس الهيئة التنفيذية المؤقتة؟ لقد أصبح من بعد عضوا في المجلس التأسيسي، أعتقد في قائمة تيزي وزو أو بجاية.