عندما عاد المرحوم بوضياف إلى الجزائر بُعيد توقيف المسار الانتخابي كان من أول ما هُمِس له به أن "المدرسة منكوبة" وبحاجة إلى إعادة نظر عميقة حتى لا تُخرج لنا جيلا أصوليا أو إرهابيا مثل الجيل الذي قام بتلك الاختيارات الانتخابية، ربما صدَّق المرحوم بعض ما سمع أو كل ما سمع، ولقد دندن حول ذلك، لكنه أبقى على الوزير السابق علي بن محمد على رأس التربية، هذا الأخير أسرّ لبوضياف بأنه يجد نفسه محاصرا. السيد بن محمد كان يُعِدّ لمجموعة من الإصلاحات العميقة، كان من أهمّها إدخال اللغة الانجليزية كلغة اختيارية ثانية (اختيارية كبديل للفرنسية)، وكذلك توجيه التلاميذ في المرحلة الثانوية بحسب إمكانياتهم ونتائجهم، إما توجيها مهنيا أو تعليميا. في شهر جوان تم تسريب أسئلة البكالوريا ليستقيل على إثرها وزير التربية وليتم وأد مشروعه إلى الأبد، في نفس الشهر تم اغتيال بوضياف ليخلفه السيد علي كافي ويكون أول قرار يضطر لأخذه هو تجميد قانون تعميم استعمال اللغة العربية. الغريب أن الأحداث الثلاثة وقعت تِباعا وفي شهر واحد، وهذا يوضّح عمق الصراع والأساليب البشعة وغير الأخلاقية التي اختارها أنصارُ إبقاء الفرنسية في الجزائر. وقد تكلفت لجنة بن زاغو بتجسيد مشروع إعادة النظر في منظومة صناعة الأجيال. التوجّه الإيديولوجي واللغوي لبن زاغو وللناطق الرسمي لهذه اللجنة خليدة تومي، وأغلب أعضائها من السيدة بن غبريط وزوجها رمعون إلى غيرهم، لا يُخفى عن أحد، فخياراتهم اللغوية والإيديولوجية واضحة، ولهم كامل الحرّية في ذلك طبعاً، ولكن المرفوض منطقا وعقلا أن تختطف أقلِّية فِكرية واجتماعية مشروع صناعة الأجيال وتوجِّهه حسب هواها وآرائها ورؤيتها، ضاربة عرض الحائط موقف ورأي بقية القوى الحية في المجتمع وأغلبية الشعب. المفارقة الأخرى أن لجنة بن زاغو انقسمت على نفسها بحسب مواقف كل طرف من قضية اللغة والهوية وقدّمت تقريرين إلى رئيس الجمهورية، ولكن في نهاية المطاف تمّ تبني تقرير المجموعة التي يتزعمها بن زاغو وبن غبريط وخليدة تومي وغيرهم لقوّتهم ونفوذهم وقربهم من أصحاب القرار، وضعف الطرف الآخر وقلة حيلته أيضا، والذي يبدو أن وجوده في اللجنة كان من باب ذر الرماد في العيون. المفارقة الثالثة أنه على الرغم من مرور ما يقرب من 15 سنة، لا أحد يعرف إلى حد اليوم محتوى التوصيات؛ أي أننا بصدد تطبيق إصلاحات سريّة لا نرى إلا نتائجها من خلال التشوّهات الخلقية التي أخرجتها لنا مدرسة بن بوزيد، والواضح أن الوزيرة الحالية تتبع نفس المنهج، وهو العمل داخل الغرف المغلقة وعدم مواجهة الرأي العام وفتح حوار مجتمعي حقيقي. لجنة بن زاغو انقسمت على نفسها بحسب مواقف كل طرف من قضية اللغة والهوية وقدّمت تقريرين إلى رئيس الجمهورية، ولكن في نهاية المطاف تمّ تبني تقرير المجموعة التي يتزعمها بن زاغو وبن غبريط وخليدة تومي وغيرهم لقوّتهم ونفوذهم وقربهم من أصحاب القرار، وضعف الطرف الآخر وقلة حيلته أيضا، والذي يبدو أن وجوده في اللجنة كان من باب ذر الرماد في العيون. على الرغم من تصدي عددٍ من الأقلام والنخب الشريفة والوطنية وتحذيرهم، منذ سنوات عديدة، من المسار الكارثي الذي تسير إليه المدرسة والجامعة الجزائرية، إلا أن لا أحد حرك ساكنا، بل سمعنا حججا من قبيل أن هذه الإصلاحات لم تؤت ثمارها بعد، وها نحن اليوم نسمع أن هذه الإصلاحات لم يتمّ تطبقيها بشكل جيّد، ودعنا نصلح الإصلاحات تحت مسمى الجيل الثاني! لقد أصبح مَثَلُ هؤلاء الذين لم يخترهم الشعب كمَثَلِ ذلك الجرّاح الذي يَعِدُ كل مرة أهل مريضٍ بين يديه بأنه سيتعافى بمجرد إجراء عملية جراحية أخرى، بينما حالة المريض تتزايد تعقيدا... بل إن الجراح يصرّ الآن على بتر بعض أعضاء المريض ويأبى تسليمه لأهله إلا ميِّتًا. منذ وصول بن غبريط إلى وزارة التربية، وضعت من أولوياتها الرئيسة مسألة اللغة العربية والفرنسية، واستدعت خبراء فرنسيين ومكاتب دراسات بلجيكية لتقيّم لنا الإصلاحات وتقدّم التوجيهات. كانت الخطوة الأولى هي تقديم حجج واهية ومتناقضة عن ضرورة التدريس باللهجات العامية بحجة أن التلاميذ لا يتكلمون الفصحى في بيوتهم، ولهذا فهي ليست لغتهم الأم، وهو ما يعرقل بالتالي استيعابهم للعلوم والرياضيات التي تُدرَّس بالفصحى، ولكن المفارقة العجيبة أن نفس اللجنة ونفس الوزيرة يطالبان بإعادة بعث الفرنسية والاهتمام بها واستعمالها في تدريس العلوم والرياضيات، وهنا تحوّلت اللغة الفرنسية فجأة إلى لغة أمّ، واللغة التي يتكلم بها أهلُ بشار وأهل تندوف والجزائر العميقة في بيوتهم! هذا التوجّه والمنطق المتضارب لدى من اختطفوا اليوم التربية والتعليم في الجزائر يوضّح مقصدهم وهدفهم الذي لا زالوا يستحون قليلا من الجهر به، ولكن تكشفه خطواتهم المتسارعة نحو إعادة فرض الفرنسية وإدخال الجزائر في صراع لغوي هامشي بين العربية والأمازيغية، مهملين تماما أن لغة العلوم والتكنولوجيا والتواصل العلمي هي الإنجليزية؛ فالفرنسية لا تختلف كثيرا عن العربية عندما يتعلق الأمر بالبحث العلمي والتعليم العالي، إذ أنها لغة تعاني اليوم في عقر دارها، بل هناك انقسامٌ بين النخب في الجامعات الفرنسية حول التدريس باللغة الانجليزية في مرحلة الماستر والدكتوراه، كما أصبحت رسائل الدكتوراه في الجامعات والمعاهد الفرنسية تُكتب بالانجليزية، بينما تصرّ جامعة باب الزوار على أن لا تُكتَب رسائل التخرّج إلا بالفرنسية! فإذا كان لأبنائنا وهذا الوطن منفعة علمية في تعلّم العلوم بلغة أخرى غير لغتهم، فالأفضل منطقا وعقلا أن يتعلّموها بالانجليزية، لأنهم سيضطرّون لتعلّمها في مرحلةٍ ما أو سيجدون أنفسهم خارج مجال التغطية العلمية والتكنولوجية ومجرّد تبّع لما تجود به القنوات العلمية الفرنسية. وللأسف، نحن جميعا نلاحظ الوضع الكارثي الذي وصل إليه مستوى الأساتذة والتلاميذ، والاكتظاظ في المدارس، وتفشي العنف المدرسي، وانتشار الدروس الخصوصية، وعبثية محتوى المناهج الدراسية وتناقضها، وسوء إعدادها، وعدم مراعاتها للواقع، والإصرار على تطبيق مناهج وأساليب تعليمية لم يتم إعداد الأرضية لها ولا تكوين الأستاذ الكفء ليطبِّقها... ومع ذلك فالقائمون على شأن التعليم اليوم تركوا كل هذه القضايا ووجّهوا كل سهامهم وحربهم على اللغة العربية، وأرجعوا كل مشاكل التعليم إلى ضعف التلاميذ في الفرنسية متناسين مستوى الحاصلين على البكالوريا ونوعية الأجيال التي تخرّجت في نهاية الثمانينيات وحتى بداية التسعينيات والتي درست بالعربية، بل تم تحميل التعريب والدين أزمة الجزائر برمّتها وتراجعها في كل الميادين، على الرغم من أن اللغة العربية لا يكاد يتكلّمها أي مسئول أو مدير تنفيذي سام جزائري. أعتقد أنه على السيدة الوزيرة وفريقها إدراك أنهم لا يملكون الشرعية الكافية التي تخولهم تحديد مصير أبنائنا كما يشاؤون، وأن إصلاح التعليم والتربية أكبر من مقام وزير، وأن الخيارات اللغوية الكبرى مسألة لا يمكن أن ينفرد فيها بالقرار شخصٌ أو جماعة، بل هي شأن الشعب أولاً وهو الأولى بالاستشارة والعودة إليه. وعلى هؤلاء أن يتذكروا أنهم أخذوا فرصتهم كاملة لمدة عقدين أو يزيد، وأنفقوا من الأموال ما لم ينفق في تاريخ الجزائر، ولكنهم لم ينتجوا بها إلا خرابا وكارثة تفوق في أثرها العشرية الحمراء بإرهابها، فلقد قتلوا أجيالا. ولو أنهم أخرجوا لنا جيلا بصفات أوروبية حداثية وبمستوى علمي راق لألزمونا الحجّة، ولكن مُخرجهم مسخٌ تربوي وعلمي. على هؤلاء أن يتذكروا أنهم أخذوا فرصتهم كاملة لمدة عقدين أو يزيد، وأنفقوا من الأموال ما لم ينفق في تاريخ الجزائر، ولكنهم لم ينتجوا بها إلا خرابا وكارثة تفوق في أثرها العشرية الحمراء بإرهابها، فلقد قتلوا أجيالا. ولو أنهم أخرجوا لنا جيلا بصفات أوروبية حداثية وبمستوى علمي راق لألزمونا الحجّة، ولكن مُخرجهم مسخٌ تربوي وعلمي. إن الوضع الذي وصلنا إليه لم يعد من السّهل إصلاحه، وربما عمق الأزمة يفوق تصوّر أكثر المتشائمين ويحتاج إلى تضحيات وحوار مجتمعي ومجلس أعلى للتربية وليس لوزير(مهما كان مقامه)، لأن الأزمة استحكمت وعلى ارتباط وثيق بأزمة التعليم العالي، بل إن كثيرا من المعلّمين والأساتذة سيقفون عائقا أمام أي إصلاحات حقيقية على مستوى التربية أو التعليم العالي، نظرا للذهنيات التي أصبحت سائدة في تلك الأوساط، ونظرا لمستويات عدد معتبر من هؤلاء المدرّسين. أخيرا، أعتقد أن على قوى الشعب الحيّة، ومن بقيت لهم ضمائر من سلك التربية والتعليم، وكذلك أولياء التلاميذ، التحرّك واتِّخاذ موقف من أجل هذا الوطن ومستقبل أبنائنا، فإذا كان إصلاح التربية والتعليم اليوم صعبا ومكلِّفا جدا، فإنه قد يصبح غدا مستحيلا، إن البديل عن النفط ليس الاستثمار الاقتصادي أو الفلاحة، كما يُصوِّر لنا البعض، بل إن البديل الحقيقي والدائم هو الاستثمار في البشر، فلا يمكن لاقتصادٍ أو فلاحة أو تكنولوجيا أن تقوم من دون تربيةٍ وتعليم، وكما قال الكاتب والروائي جورج ويلز "لقد أصبح التاريخ أكثر فأكثر سباقًا بين التعليم والكارثة".