كانت حفلات الزفاف ببلاد الزواوة (القبائل) متميزة بتنوع مظاهر الأفراح، من أغان وموسيقى ورقص وزغاريد وبارود، وتنافس في طرح الألغاز في قوالب شعرية خلال جلسات "بيع الحناء"( أزنزي الحني) المستوحاة من عادات أمازيغية عريقة، متميزة بعمق دلالاتها الروحية والاجتماعية والترفيهية. ولعل ما يلفت انتباه الباحث فيها، هو تغلغل العقيدة الإسلامية في أغوارها العميقة، الأمر الذي يؤكد التعايش بين العرف والشريعة الإسلامية إلى درجة التلاحم، وينم ذلك عن مرونة فقهاء بلاد الزواوة، الذين فضلوا اختراق فضاءات الأفراح المفعمة بمظاهر الترفيه والترويح عن النفس، بدل مجابهتها بالإلغاء والتحريم والرفض، آخذين في ذلك الواقع الاجتماعي المعيش بعين الاعتبار، وقد مكنهم أسلوب المعاملة بالحسنى هذا، من إضفاء الطابع الشرعي على فضاءات الأفراح والترفيه. الأهمية الثقافية والتاريخية لجلسات بيع الحناء ومما تجدر الإشارة إليه أن أهمية هذا التراث الثقافي الأمازيغي لا تنحصر فيما تحققه للقارئ من متعة نفسية وأدبية فقط، بل تفند أيضا إدعاءات المدرسة التاريخية الكولونيالية التي تدعي وجود تباعد بين الأعراف الزواوية والثقافة الإسلامية، كما تسقط بالحجة الدامغة زعمها في كون إسلام الزواوة سطحيا، يخفي المسيحية الراسخة في أعماق مجتمعهم. فقد تضمنت هذه المقاطع الشعرية الكثير من المؤشرات الدالة على تجذر الثقافة الإسلامية في المجتمع الزواوي، مبرزة العروة الوثقى التي تربطه بالمشرق العربي، وذلك من خلال ورود أسماء أعلام وأماكن مشرقية، تؤكد التواصل المستمر بين الطرفين، لعل أهمها شخصية الرسول (ص) الحاضرة في جميع المقاطع الشعرية بقوة، وابنته فاطمة الزهراء، والإشارة إلى الخلفاء الراشدين، مع ذكر اسمي أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، ثم التركيز على شخصية علي بن أبي طالب ( كرم الله وجهه)، الذي صار في الثقافة الشعبية الزواوية شخصية أسطورية عابرة للأزمنة، ترمز لقوة الإسلام وانتصاره على خصومه الكفرة عبر التاريخ. ولعل التفسير الراجح لسمو مكانة علي بن أبي طالب فيها، مرتبط بقيام الدولة الفاطمية في مطلع القرن العاشر الميلادي بسواعد الكتاميين الذين تربطهم أواصر القرابة مع أهل الزواوة، ولتواجد الأشراف المرابطين الذين انحدروا من آل البيت (دولة الأدارسة التي قامت بفاس في القرن الثامن الميلادي). وقد وردت في هذه الأشعار أيضا أسماء سيدنا آدم، وسيدنا ابراهم الخليل، وسيدنا يوسف، وجبريل عليهم السلام، بالإضافة إلى العالم الرباني عبد القادر الجيلاني. وبالنسبة للاماكن ذات الصلة بالعالم العربي (ثامورث العربان)، فقد تمثلت في مدينة تونس والكعبة الشريفة المذكورتين أكثر من مرة، ووادي النيل. وطفحت أيضا أشعار" بيع الحناء" بمعلومات تاريخية وجغرافية واجتماعية متنوعة، بعضها مرتبط بالمعالم الثقافية المحلية، كزوايا الجمعة نصهريج، واحمد إدريس، وثيفريت ناث أومالك، وبعض أولياء الله الصالحين (عبد الله بن جعفر بآزفون)، والمسجد كمؤسسة دينية وتربوية، والطلبة كفئة اجتماعية مرموقة، وبعض القرى المحلية، وذكرت أيضا مدينة الجزائر. وهناك إشارات واضحة إلى العهد العثماني تتجلى في مصطلحات "القرصان" و"الباي" و"المخزن". وبالنسبة للدول الأوروبية فقد ذكر منها فرنسا وسويسرا في سياقين مختلفين. كما ذكر البحر بأهواله وأسراره وأمواجه وأسماكه ومرجانه، وكذا بعض الوحوش كالغول (أواغزن) والأسد واللبوءة والخنزير والأفعى والغزال، والطيور كالنسر والخطيفة والحجل. وقد تضمن شعر الحناء صورا جميلة عن شجاعة الرجال المرصعة بأنواع عديدة من الأسلحة اليدوية والنارية، بالإضافة إلى توصيف جمال النسوة المزين بأنواع الحلي المحلية كالإبزيم والأساور والخلخال والحرير والعطور. ومما زاد من أهمية هذا اللون الأدبي المرتبط بالأفراح، تضمنه لفكرة الجهاد ومقاومة الاحتلال الفرنسي، الواردة في قالب التورية أحيانا: »أذعاغكين سصحابا إركولي، ذعلي يدفن إمغظاس« (رجوتك يا رسول الله بجاه الصحابة، وعلي قاهر النصارى) وبصريح العبارة أحيانا أخرى: »أذازنغ ثاربعث أڤرڤازن أذروحن أرصحرا أذناغن ذي رومين« (سأرسل فرقة رجال إلى الصحراء لمقاومة الفرنسيين). خصائص جلسات بيع الحناء ومما يؤكد أهمية عادة "بيع الحناء" قديما، في حفلات الأفراح (الزفاف والختان) ببلاد الزواوة، تصدرها للمقام الأول في العرس الذي يدوم ثلاثة أيام. فاليوم الأول هو يوم الحناء (آس ألحني) تقام فيه الأفراح، ويسمى اليوم الثاني (ثاموغرى) أي يوم العرس تنقل فيه العروس إلى بيت العريس، في حين يخصص اليوم الثالث للضيوف (آس أوعاواذ إينفكاون). وتبدأ جلسة بيع الحناء في اليوم الأول، في بيت العريس بعد منتصف الليل، بعد أن ينظم فيها الجلوس بكيفية يتم بموجبها فصل الرجال عن النساء، ويجلس العريس بمعية مرافقين شابين، وسط الحلقة. أما الشخصية المحورية فيها فيشكّلها شخص يدعى (بو الحنّي) أي صاحب الحناء، لإدارة الحفل، مشهود له بالدراية والخبرة في طرح الألغاز وامتلاك ناصية الشعر، وتوضع تحت تصرفه لوازم إعداد حناء العريس، كطاس ماء زلال، وصحن مملوء بالقمح والبيض، وما تيسّر من مجوهرات فضية، ومثرد يحتوي على الحناء المجفف، فضلا عن بعض التوابل الضرورية لتخصيب الحناء. وعلى اثر ذلك تقوم أم العريس بفرش منديل يضع فيه الضيوف الهدايا التي جاءوا بها وتسمى محليا ( الخير)، ويتخلل ذلك زغاريد النسوة وطلقات البارود وعزف الموسيقى ( إظبالن) أي الطبابلة. وبعد الانتهاء من عملية جمع الهدايا يشرع في عملية بيع الحناء، التي تعني تنافس كل من يحسن طرح الألغاز في قوالب شعرية جميلة، من أجل الفوز بصحن البيض وما تبقى من حناء العريس. ويفتح الرئيس( بوالحنّي) الجلسة بمقطع شعري يمدح فيه الرسول (ص)، الأمر الذي يؤكد، خلافا لما روّجته الكتابات الكولونيالي، تجذر العقيدة الإسلامية في بلاد الزواوة. أذصليغ فلاك أنبي ألهاشم أرسول بوثخوثام أحنين سي نومن أنحلل ربي ذنبي آور غي حشّم المثرد ذيزم، الحني ذازرم أفوس أراد يميزذم، آذي تسوڤزم وين أرى دينطقن، أذيڤوڤم سلفضل أربي ذنبي أوسيدنا آدم (عليك الصلاة يا نبي الهاشمي/ رسول ذو الأختام الذي آمنا به/ رجاؤنا لله ونبيه ألاّ يفضحنا/ المثرد أسد، والحناء أفعى/ اليد الممدودة إليه ستقطع/ من تحدى و نطق سيصاب بالبكم / بفضل الله ونبيه وسيدنا آدم.) مرحلة غلق الحناء ثم يشرع رئيس الجلسة في مرحلة "حبس الحناء" ( أحباس الحنّي) التي تهدف في دلالتها الأساسية، إلى إبعاد الأرواح الشريرة عن حفل الزواج الذي يعتبر مرحلة حاسمة في حياة الفرد، بحيث يتخطى العزوبة لينتقل إلى الحياة الزوجية السعيدة المتميزة بالخصوبة، وإلى غلق كل السبل بالترهيب والتخويف (إن كان الخصم غولا، فأنا أفعى ذات اللسعات السبع: مايلا أنتسا ذلغول، نك ذازرم بوث سبعى أثسوقاس)، أمام المتحذلقين والمتطاولين على هذه "الشعيرة"، لما لها من قدسية ودلالات عميقة في المجتمع، من أجل إبعاد كل ما من شأنه أن يعكّر صفو الحياة الزوجية، أو يصيب الطفل بأذى إن كان الحفل خاص بالختان وكذا من أجل إبعاد المتحذلقين، وحصر المنافسة الثقافية بين الحاذقين المالكين لمهارة حل الألغاز: حبسغ ألحني لحباس أورومي وين أيحذقن أيصلي أف أنبي وين يلان ذشاطر يازد أرذا غوري وين يطفن كرا تكقناو إيسرحاسيد أديغلي (سجنت الحناء كالسجن الفرنسي / وعلى الحاذق أن يصلّي على النبي / وعلى النّبيه أن يتقدم إليّ / ومن ظن أنه للسماء ممسك، فليدعها تسقط). بيع وشراء الحناء ثم تليها مرحلة بيع الحناء، التي يفتحها رئيس الحفل، بمدح الحناء بمقطع شعري ذي مسحة دينية، ذكر فيه الصوفي عبد القادر الجيلاني، تليه مقاطع أخرى ذات ألغاز يتنافس المتنافسون على حلها: أذزنزغ الحني أزاليس أربع يقر ذق صندوق سومسمار يضبع ثيسورا غابنت يموث أصانع (أنا للحناء بائع، قيمته ربع/ أخفيته في صندوق، مدكوك بالمسمار/ ضاعت المفاتيح، والصانع ميت.) ثم تختتم الجلسة بشراء الحناء، في أجواء من الفرح والترفيه اخترنا منها المقطع التالي: أذصليغ فلاك أنبي، أكرا أيفرزن إيض أذواس أدعاغكين سسصحابا إيركولي، ذاعلي يدفن إيمغضاس فميورارن ألحني نوكني أذاسنكس لحباس. ( عليك الصلاة أيها النبي، والسلام على الاخيار،المميّزين بين الليل والنهار/ دعوتك بالصحابة أجمعين، وعليّ مؤدب المغطسين( النصارى) / أن ارحم اللاعبين، فها نحن نحرر الحناء.) هذا غيض من فيض مما يمكن أن يقال عن هذا الموضوع، وأود في الأخير أن أشير إلى أهمية هذا اللون الأدبي الشفوي الأمازيغي، الغني بدلالاته التاريخية والاجتماعية والدينية، لذا فهو جدير بالدراسة. ورغم ضموره في الأعراس، فانه لا يزال يصارع من اجل البقاء في إطار فضاءات النشاطات الثقافية. وعلى من أراد التوسع في هذا الموضوع، أن يعود إلى كتاب Le Fichier Périodique العدد 128، سنة 1975م، الذي أعدّه محند مزين، وترجمه إلى الفرنسية عبد الرحمن عنون، ونشره P . Reesink بالجزائر. كما تناول الكاتب "بلقاسم بن سديرة" موضوع شعر الحناء في أعراس القبائل، في كتابه الموسوم Cours De Langue Kabyle الصادر عن مؤسسة Adolphe Jourdan للنشر والطبع بالجزائر، سنة 1887م. وهو كتاب جدير بالتقديم، لما يتضمنه من معلومات تاريخية عن استحداث شهادة علمية في اللسان القبائلي. ومعارف هامة عن القوانين العرفية والحكايات والأشعار والألغاز الشعبية، في بلاد الزواوة.