ليس للغرب بعد أحداث مومباي من خيار غير الاعتراف بفشل حربه العالمية على ما يسمى بالإرهاب والتطرف الإسلامي، أو القبول بالفرضية الجادة التي تتهمه بالوقوف خلف هذه العمليات الدموية التي تنسب للمسلمين كحالة من ملء الفراغ أمام استحالة إدارة حروب كبرى كتلك التي دارت بين القوى الإمبريالية في القرن العشرين. * وفي الحالتين، فإننا أمام فشل كبير ينسف ما تدّعيه الحكومات الغربية من حكم راشد، وأنها صارت مثل حكومات دولنا عاجزة عن تصور وصياغة حلول تحقق قدرا من الاستقرار والتوافق والوئام مع الشعوب، وأنها لم تعد تمتلك من سياسات سوى السياسة الأمنية التي تعني مزيدا من عنف الدولة يولد بالضرورة عنفا مضادا، في حرب لا نهاية لها، تنتزع فيها الحكومات ما بقي من الحقوق المكتسبة تحت متطلبات الأمن. * العنف الذي تعرضت له مومباي الهندية، ومقتل قرابة 200 شخص، يضعنا مجددا أمام إشكالية معقدة، تتداخل فيها القيم الأخلاقية البشرية التي تتعاطف في الحد الأدنى مع الضحايا، وترفض العنف من حيث المبدأ؛ تتداخل وتتجاذب مع طموح المثقف إلى البحث عن الأسباب والدوافع، والنظر إلى مجمل ظواهر العنف التي يتعرض لها الناس على قدم المساواة، سواء كانت من فعل أفراد أو جماعات، أو حكومات. فالعنف هو العنف، فالإسرائيليون الثمانية، والأمريكيون الخمسة، والغربيون العشرون، والهنود وغير الهنود من الضحايا وعددهم 173 ومعهم الستة عشر من منفذي العملية، هم في نهاية المطاف بشر مثلنا، لهم عوائل، وأزواج وأطفال. فقد فقدوا الأب والزوجة والولد والقريب، لكنهم في نهاية المطاف، ليسوا ضحايا فوق العادة، في موتهم ما يميّزهم عن المليون العراقي الذي أبادته الآلة العسكرية لدولة عظمى، في ذمتها مئات الملايين من الضحايا في حروبها الإمبريالية والاستعمارية، أو يختلفون عن أطفال ونساء وشيوخ غزة الذين يقتلون يوميا، بأكثر من أسلوب إرهابي، بطائرات الدرون، والقصف المباشر على الأحياء السكنية، والقتل بالحصار والتجويع، وذلك القتل اليومي للأفغان على يد عصابات حلف الناتو، أو يختلفون عن الملايين من الأطفال الذين يقتلهم الجوع والمرض، في الوقت الذي تأمر الحكومات الغربية بإتلاف ملايين الأطنان من المواد الغذائية، حفاظا على الأسعار وهوامش الربح، أو تحول ملايين الأطنان من الحبوب إلى وقود لتشغيل السيارات. * * حتى يبقى الإرهاب ماركة غير مسجلة * كل هذا إرهاب، ولا ينبغي لعقل منصف أن يقبل بتصنيف أحدات 11 سبتمبر، أو أحدات لندن ومدريد وبالي ومومباي، وما يجري في كثير من الدول من أحداث عنف، تصنيفه في خانة الإرهاب إلا إذا كان على استعداد لإدانة ما ذكرنا ببعض الأمثلة عنه، كإرهاب ينفذ بدم بارد، ووسط لامبالاة عالمية، وما لم نتوصل إلى مفهوم مشترك للإرهاب، يتعاطى مع جميع أنواع القتل والإبادة التي ترتكبها الدول خارج سنن الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس، ومع الجرائم التي ترتكبها بصورة مباشرة أو غير مباشرة في حق الملايين من الفقراء والمعدمين، ما لم نتوصل إلى مثل هذا الإنصاف، فإن إدانة أعمال العنف التي يرتكبها أفراد أو جماعات تكون نوعا من الانحياز الآثم، والموالاة الفاضحة التي تتكتم عن جرائم الدول والمؤسسات. * وفي كل الأحوال، فإن إدانة العنف الذي ترتكبه الجماعات الموصوفة بالإرهاب ليست منتجة، ولن تقود إلى تطويق هذا النوع من العنف، بل تزيد من توزيع الهوة بين النخب وهذه الجماعة التي دفعها الظلم والتهميش إلى العنف، أو في الحد الأدنى منحها الذريعة. * * الكيل الإعلامي بمكيالين * الإعلام الغربي، بل الإعلام العالمي انصرف طوال ستين ساعة لنقل وقائع الهجوم الذي تعرضت له بعض الفنادق الراقية في مومباي، ليس لأن حصيلة الهجوم كانت كبيرة، ولكن لكون الهجوم استهدف رموزا من رموز العولمة: فنادق تتردد عليها العِلْيَة من تجار العولمة ومترفي الطفرة التنموية الهندية، ولكونه استهدف غربيين أمريكيين وبريطانيين وإسرائيليين، دولهم متورطة في جرائم فظيعة ضد شعوب العالم الإسلامي. * قبل تنفيذ هذا الهجوم، كانت مدن هندية قد تعرضت لأعمال عنف أخطر من هذه، لم تجلب اهتمام الإعلام الغربي والعالمي، وكانت المذابح التي ارتكبتها جماعات هندوسية متطرفة في حق الأقلية المسلمة قد مر عليها الأعلام العالمي مر الكرام، ولا تكاد مأساة الشعب الكشميري المحتل تجد طريقها إلى الإعلام. * هذا النوع الآخر من الكيل بمكيالين، هو الذي سوف يشجع مستقبلا ويوجه نشاط الجماعات المسلحة نحو ترشيد عملياتها، بتفضيل الأهداف التي لها صلة بالعولمة والغربيين، لكونها تؤمّن مساحة واسعة من التغطية الإعلامية العالمية، وتنجح في إيصال رسائل الجماعات المسلحة. * لنتذكر كيف تعايش العالم مع مقتل مليوني إنسان في الحرب الأهلية في رواندا والبحيرات الكبرى، وكيف يتعايش مع العنف في الكونغو، وكيف أن عمليات القتل الجماعي اليومي للعراقيين والأفغان والفلسطينيين كانت تذكر عرضا، يتجاهلها حتى الإعلام العربي والإسلامي. * * الظاهرة التي تفضح الحكم الراشد * إلى يومنا هذا، ترفض الدول والحكومات التعامل مع ظاهرة العنف بوصفها محصلة لفشل الحكومات والدول الحديثة في إقامة حكم راشد أو يقترب من الرشاد، وكنتيجة طبيعية، وردة فعل لعنف أصلي يكون قد تعرض له المتهمون اليوم بالإرهاب، أو كنتيجة لحالات الإقصاء والتهميش. ذلك أن العنف البشري على مدار تاريخ البشرية كان على الدوام متصلا بالصراع الأبدي على مكونات الأنا البشرية، من ملكية، وسلطة، وهوية، وعرض، أو ما أجملته الفلسفة وعلم السياسة بعبارة الفضاء الحيوي. * مئات الكتب والدراسات تعرضت في العقد الماضي لظاهرة ما يسمى بالإرهاب، عالجتها من زوايا كثيرة، باستثناء تسليط الضوء على الدافع الأساسي الذي قاد هذه المجموعات إلى الدخول في صراع مفتوح وغير متكافئ، حتى لا نقول يائسا، مع الحكومات، وما بين أيديها من مؤسسات قمع وردع. في أحسن الأحوال نقف عند تحليلات تفسر العنف، المنسوب للجماعات المنضوية تحت لواء القاعدة، على أنه حالة من التطرف والعنف الديني، داخل عالم إسلامي لم يعد يحتمل الاستضعاف والتهميش، وما يلحق بعقيدة المسلمين من إهانات، تتعاطى معها الدول والنخب الإسلامية بكثير من الاستسلام والخنوع. * قد يكون في هذه المقاربة شيء من الحقيقة، على الأقل فيما يتصل بالبرنامج المعلن للكثير من الجماعات الجهادية التي وضعت على رأس مطالبها تحرير الدول العربية والإسلامية من الوجود العسكري والنفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي الغربي. * * ظاهرة عابرة أم فشل إدارة مستديم * فشل التعامل الدولي مع ظاهرة العنف المتصل بالجماعات الإسلامية هو فشل مزدوج. فهو في المقام الأول، فشل الحكومات العربية والإسلامية في التعاطي مع ظاهرة الإسلام السياسي، الذي جاء ليملأ الفراغ الذي تركته القوى الوطنية والقومية المهزومة، والنظر إليها كظاهرة عابرة يمكن استئصالها بأدوات القمع والمنع، وتجفيف منابعها الفكرية ومصادر تمويلها، أو عبر عمليات اختراق مخابراتي، ينحرف بها نحو مزيد من العنف الأعمى، بما يكفل فصلها عن حواضنها الشعبية. وهو في المقام الثاني فشل للحكومات الغربية، التي لم تتخلص من الموروث الصليبي في التعامل مع كل ما له صلة بالعالم الإسلامي. فقد رأينا كيف سارع الرئيس الأمريكي إلى توصيف الحرب على القاعدة بعبارة الحرب الصليبية، ولم تكن منه فلتة لسان، بالنظر إلى طبيعة الحرب المفتوحة على عموم المسلمين، وتمرير حرب استعمارية صرفة انتهت باحتلال دولتين إسلاميتين، استفزت السواد الأعظم من العرب والمسلمين، ومنحت الجماعات المسلحة، والقوى المؤمنة بحق الشعوب في الدفاع عن النفس، ومواجهة العنف بالعنف، منحتها مساحة واسعة من التأييد الشعبي. * * خمسة قرون من الإرهاب الغربي * حتى مع التسليم جدلا للحكومات بما تدّعيه من واجب ومسؤولية لحفظ الأمن وتأمين الناس في أنفسهم وأموالهم، وهي مسؤولية لا ينكرها عاقل، فإن إدارة الحكومات لهذه المواجهة تحت عنوان الحرب على الإرهاب يضعها أمام مساءلة مشروعة: ماذا حققته هذه الحرب؟ وهل استطاعت إضعاف الجماعات المسلحة؟ وهل أدارت هذه الحرب بكفاءة، وبكلفة بشرية ومادية معقولة؟ وهل كانت أمامها خيارات أخرى أنجع وأقل كلفة؟ وهل لديها ضمانات على أن إلحاق الهزيمة بهذه الجماعات كما ادّعى الرئيس الأمريكي بوش هو إنهاء لظاهرة العنف وما يسمى بالإرهاب؟ * العملية الكبرى التي تعرضت لها مدينة مومباي، رغم ما يحيطها من ملابسات، والتي وصفها المحللون الغربيون بأحداث 11 سبتمبر جديدة، تأتي في نهاية السنوات الثمانية من رئاسة بوش، لتؤكد فشل الحرب على ما يسمى بالإرهاب على جميع المستويات، ليس لأن حكومات العالم قد تقاعست عن دعم الولاياتالمتحدة، أو أن الولاياتالمتحدة لم تجند، هي وحلفاؤها الغربيون والعرب والمسلمون، إمكانات غير مسبوقة، فاقت على مستوى الإنفاق الأمني والتنسيق بين الأجهزة الأمنية العالمية ما لم يتوفر لها في الحرب الباردة، بل كان مآلها الفشل، وسوف تفشل حتى لو كتب لها أن تقضي على جميع أفراد الجماعات فردا فردا، مادامت الدوافع الحقيقية قائمة، بل سوف تتعاظم الظاهرة وتتوسع، وتتنوع أساليب العنف مع ما نستشرفه من تداعيات خطيرة للأزمة الاقتصادية العالمية، من حالات جديدة من الإقصاء والتهميش حتى داخل الدول الغربية، ومع ما تكتشفه الشعوب من تسفل غير مسبوق عند النخب الحاكمة، وانهيار سلم القيم، وافتضاح عجز الحكومات في مواجهة التحديات الكبرى التي تواجهها البشرية، وغياب البدائل، أو بالأحرى مكابرة قادة النظام العالمي حيال فشل الحضارة الغربية المهيمنة في قيادة العالم بقدر من العدل، وما عليها من واجب احترام حضارات الآخر وثقافاته ومعتقداته. فليس ثمة عنف إرهابي أكبر من العنف الذي مارسته هذه الحضارة في بحر خمسة قرون، كانت هي الأعنف في تاريخ البشر، وليس ثمة فكر متطرف أحادي مثل الفكر الغربي، الذي لم يخرج أبدا عن مسلمات جذوره اليونانية الرومانية المرتوية بالدماء، ازدادت تطرفا مع سيطرة الفكر التلمودي اليهودي الذي يتعهد البشرية بمحرقة هارماغيدون التي لا تبقي ولا تذر من شعوب الغويم.