كسبت الجزائر واحدة من أعقد القضايا المرفوعة ضدها، من قبل الأقدام السوداء، الذين يطالبون بما يقولون إنها ممتلكات تركوها بعد مغادرتهم للجزائر، عقب الاستقلال. وتكتسي هذه القضية أهميتها، من حيث أن الجهة القضائية التي أصدرت الحكم، محايدة، ممثلة في لجنة حقوق الإنسان المنبثقة عن المحافظة السامية لحقوق الإنسان لدى هيئة الأممالمتحدة، الأمر الذي يعتبر اجتهادا قضائيا يرسم معالم الأحكام التي ستنتهي إليها ال 600 قضية المرفوعة ضد الجزائر، والموجودة على مستوى هذه المحكمة الأممية.وتعود جذور هذه القضية إلى سنة 1962، حيث أن المدعو "أرمون انتون"، المولود في 18 نوفمبر 1909 بوهران، المنتمي لجالية الأقدام السوداء، والذي غادر الجزائر بتاريخ 14 جويلية 1962 غداة الاستقلال، تاركا وراءه ممتلكاته المتمثلة في عقارات ومنقولات، ثم لجأ إلى السلطات الفرنسية لتحصّل له من الجزائر على تعويضات بقيمتها.وبعد ما عجز عن تحقيق مطلبه على مستوى فرنسا، لجأ إلى التحكيم الدولي، حيث تقدم المعني بتاريخ 24 نوفمبر 2004، إلى لجنة حقوق الإنسان الأممية دون مباشرة طرق الطعن الداخلية، لإدعائه بعدم جدواها، بالرغم من أن هذه الأخيرة تشكل أحد الإجراءات التي تسبق اللجوء إلى هذه اللجنة، وذلك، وفقا لما تنص عليه أحكام البروتوكول الاختياري الأول المتعلق بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.ويقول "أرمون انتون"، في عريضة الشكوى التي رفعها لدى المحكمة الدولية بتاريخ 24 نوفمبر 2004، إنه ولد وعاش في الجزائر، كرعية فرنسي (باعتبار أن الجزائر كانت محتلة من فرنسا إلى غاية 1962)، ويضيف بأنه أنشأ شركتين، "مؤسسة باستوس أنتون"، و"مؤسسة أرمون أنتون"، المختصتين في تجارة قطع غيار السيارات والجرارات، والآلات الصناعية، قبل أن يتحول في سنة 1956 إلى وكيل عقاري، يملك العديد من العقارات بمدينة وهران.ومن بين التهم التي تضمنتها عريضة شكوى الرعية الفرنسي "أرمون أنتون"، الممثل من طرف المحامي آلان غاراي، ستة اتهامات ضد الحكومة الجزائرية، أولها، سلب حقوق وممتلكات الأقلية الفرنسية التي كانت تقيم بالجزائر، وسلب حرية الإقامة في الجزائر، في إشارة إلى المرسوم الرئاسي الذي شرّع بإلحاق أي عقار بأملاك الدولة الجزائرية، تركه شاغله لمدة لا تتعدى ثلاثة أشهر من دون مبرر، بعد سنة 1962، وانتهاك حرمة الممتلكات، والتعدي على ممتلكات أشخاص وعدم مراعاة خصوصيتي الأقلية والثقافة، والمساس بالحقوق وفق إجراءات وتدابير تمييزية، وفي الأخير عدم احترام الالتزامات الدولية فيما يتعلق بالملكية في حال انتقال السيادة من دولة إلى أخرى. وبعد إحالة لجنة حقوق الإنسان الأممية، ملف الشكوى إلى السلطات الجزائرية المختصة قصد الرد عليها، قامت وزارة العدل بالتنسيق مع وزارة الشؤون الخارجية، بإعداد، ثم إرسال مذكرة جوابية حول الإدعاءات المثارة من طرف الرعية الفرنسية، التي أسسها على إدعاء مفاده أن الجزائر خرقت أحكام العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صادقت عليه بتاريخ 16 ماي 1989، لا سيما مواده 1، 12، 17، 27، 2 ، الفقرة 1 و26 منه.وبعد مداولة أعضاء اللجنة حول محتوى ملفي أطراف الخصومة، قضت اللجنة الأممية بتاريخ الفاتح من نوفمبر 2006، بعدم قبول الشكوى، التي تحمل الرقم 1424/2005، المقدمة من طرف الفرنسي "أرمون أنتون" ضد الجمهورية الجزائرية، بتاريخ أول نوفمبر 2006، بأغلبية 14 صوتا من مجموع 15، مستندين على كل من مذكرة السلطات الجزائرية الجوابية، وكذا أحكام المادتين 1 و93 الفقرة 3 من النظام الداخلي للجنة، التي قضت بأن الأفعال المنسوبة للجمهورية الجزائرية، القائلة بالاستيلاء على ممتلكات المدعي، قد وقعت سنة 1962 أي قبل إنضام الجزائر للعهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية سنة 1989. وبينت التحقيقات التي أجريت في هذا الصدد، وكشفت عنها لجنة حقوق الإنسان الأممية في مداولاتها، أن الرعية الفرنسي قد تحصل على تعويضات من طرف السلطات الفرنسية، في سنوات 1977 و1980 و1988، طبقا للقانون الفرنسي رقم 87 / 549 الصادر في جويلية 1987، الخاص بتسوية ملفات الممتلكات المفقودة فيما وراء البحر. كما سجل بعض أعضاء اللجنة الأممية، ومنهم السيدة غليزابيت بالم، والسير نايجل رودلي، والسيد نيزوكي أندو، بعض الملاحظات، حول هذه القضية، من بينها ما وصفته بالتعسف في استعمال الحق، في إشارة إلى حق التقاضي، وهو ما اعتبر يتنافى مع المادة الثالثة من أحكام البروتوكول المتعلق بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. ومن شأن هذا الحكم، الذي يعتبر الأول من نوعه في هذا الإطار، أن يشكل خارطة طريق للحسم في ما تبقى من القضايا الشبيهة، التي رفعها الأقدام السوداء لدى هذه الهيئة الأممية، ضد الجمهورية الجزائرية، والتي وصلت حسب تصريح لعضو في اللجنة الأممية، 600 قضية، كلها تسعى إلى إرغام الجزائر على التعويض، كون هذا الحكم يعتبر اجتهادا قضائيا، في غياب أي قانون دولي خاص بمثل هذه القضايا الخاصة.وحسب ما جاء في نص الحكم الذي تحصلت "الشروق اليومي" على نسخة منه، فإن هذه الوثيقة النادرة متوفرة في الوقت الراهن بعدة لغات، منها الإنجليزية، باعتبارها اللغة الأصلية للوثيقة، إضافة إلى الاسبانية والفرنسية، في حين ينتظر أن تصدر الوثيقة باللغات العربية والصينية والروسية قريبا، بحيث ينتظر أن تدرج في التقرير السنوي للجنة حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة، كما جاء في نص الحكم. أسماء القضاة المشكلين لهيئة المحكمة التي فصلت في القضية نيكوزي أندو، بارا فولا شاندرا ناتوارلال بهاغواتي، ألفريدو كاستيليرو هويوس، موريس غليلي أهان هانزو، فالتر كيلين، أحمد توفيق خليل، راج سومر لالاه، إليزابيت بالم، رفائيل ريفاس بوزادا، نايغل رودلي، عبد الفتاح عمر، إيفان شيرر، هيبوليتو صولاري ييريغوين، روث فيدغوود، رومان فييروسزوفسكي.