أصدر الباحث ناصر جابي كتابا جديدا بعنوان "الجزائر: الدولة والنخب" عن منشورات الشهاب (2008)، يحتوي على تقديم بقلم الدكتور برهان غليون، ومقدمة وثمانية محاور. حلل فيه الباحث النشاط السياسي في الجزائر، منذ ظهوره خلال فترة الاحتلال الفرنسي، وصولا إلى الوقت الراهن، المتميز بالاحتقان، الذي أدى إلى المجابهة المسلحة بين الجزائريين. * وقد وفق الكاتب في إثارة شهية القارئ، إزاء الموضوع المعالج، بفضل طرح الإشكالية طرحا صائبا، شمل مختلف عناصر المعادلة حين قال: * "... لماذا حصل ما حصل بهذه الأشكال الحادة والجماعية، فالجزائر لم تكن أفقر المجتمعات في المنطقة، ولم تكن أكثر عرضة للتفاوت الاجتماعي، ولم تكن كنظام سياسي ودولة الأكثر قمعا أو سلبا للحريات، ولم تكن حتى للسنوات الأخيرة، الأفسد من حيث انتشار أشكال الرشوة والفساد، كما أنها ليست من الدول الأقل حظا من حيث توفر الثروات الطبيعية... الخ، ومع ذلك حصل ما حصل". * وحاول الكاتب باعتباره باحثا اجتماعيا الحفر في ماضي الجزائر الاستعماري، بحثا عن الأسباب الثقافية والاجتماعية العميقة كخلفية تاريخية لوضعنا السياسي الراهن المتميز بالتخلف السياسي العميق، الذي أهدر طاقات الموارد البشرية والاقتصادية، وأنجب المظالم والفساد. * دمر الاستعمار الفرنسي المجتمع الجزائري، وأنزل فئاته الاجتماعية المختلفة إلى عتبة الفقر، مفسحا المجال للعنصر الأوروبي، ليشكل قمة الهرم الاجتماعي، في كل المجالات. وتعد قضية ازدواجية لغة التعليم، من النتائج الخطيرة المترتبة عن ظاهرة الاستعمار. * * انقسامية النخبة وقطاعية الدولة * * قدم الكاتب في هذا الكتاب "مفهومين"بارزين كمفتاح لفهم واقعنا السياسي المزري، وهما: (1) انقسامية النخبة، (2) وقطاعية الدولة، وهي إشارة واضحة إلى قضية الازدواجية اللغوية المترتبة عن عهد الاستعمار الفرنسي التي قسمت المثقفين الجزائريين إلى معربين، ومتعلمين باللغة الفرنسية. ثم سرعان ما تجلت آثار هذا الوضع غير الطبيعي، على تسيير ثورة نوفمبر التحريرية (الجيش والحكومة المؤقتة)، لتنتقل تداعياتها إلى تسيير هياكل الدولة الجزائرية بعد استرجاع الاستقلال، بحيث احتكر المثقف المتعلم باللغة الفرنسية القطاعين الإداري والاقتصادي، في حين اكتفى المعرب بقطاعات الشؤون الدينية والعدالة، ثم التعليم والإعلام. * ولعل الخطورة في ذلك برأي الكاتب تكمن في سعي كل نخبة إلى تجديد نفسها والى تمركزها في مواقعها ثم السعي لتوسيعها، الأمر الذي حال دون التئام الجرح الهوياتي، بل زاده تورما بفعل اشتداد الصراع على المواقع، وانعكس ذلك سلبا على تماسك الدولة، حين صار منطق "القطاعية" يمنح لكل نخبة "... جزءاً من المواقع اعتمادا على اعتبارات ثقافية ولغوية وجهوية في بعض الأحيان." والأخطر من ذلك أن هذه السياسة قد أدت أحيانا إلى اشتعال حرب المواقع. * هذا وقد أبرز الباحث أن اللغة العربية قد صارت لغة الإيديولوجية ومخاطبة الجماهير، الأمر الذي جعل أصحابها يسيطرون على العملية الانتخابية، علما أن فئة المعلمين تحتل الصدارة في الاستحواذ على المجالس الشعبية البلدية(36٪)في حين حافظت الفرنسية على تموقعها في القطاعات الاقتصادية والإدارية المتحكمة في مفاصل الدولة. وبمرور السنين أدرك الجيل الجديد أن اللغة العربية التي يتعلمها في المدرسة، لا تضمن له العيش الكريم (الخبزة)، مقارنة باللغة الفرنسية التي لاتزال تعتبر لغة التسيير والاقتصاد بامتياز. * * نشوء الأحزاب السياسية * * ذكر الباحث أن الأحزاب السياسية قد ظهرت، كنوع جديد للمقاومة في المدن، بعد فشل المقاومة المسلحة في الريف. لكن محدودية النتائج، جعل الجماهير تنظر بعين السخط إلى الممارسة السياسية كأسلوب للكفاح، فتحمست للعنف الثوري كوسيلة ناجعة للتحرر السياسي. وعندما اندلعت ثورة نوفمبر تحت قيادة جبهة موحدة، صارت فكرة التعددية الحزبية منبوذة لدى الرأي العام. لذلك كان من الصعب أن تعود إلى الواجهة السياسية بعد استرجاع السيادة الوطنية، خاصة بعد تكريس النظام السياسي الأحادي، وعليه فقد جاء ظهور الأحزاب في تلك الفترة في إطار السرية، ومنطق المجابهة مع النظام القائم (الحزب الثوري الاشتراكي بقيادة محمد بوضياف، وجبهة القوى الاشتراكية بقيادة أيت أحمد، والحزب الشيوعي). لكن الغلبة كانت لصالح النظام الأحادي خاصة في عهد الرئيس هواري بومدين الذي لم يتوان عن استعمال جميع الوسائل للقضاء على المعارضة داخل الوطن وخارجه، وأدى ذلك إلى ضمور نشاطها، فاختزل وجودها في بعض الشخصيات التاريخية، التي استقرت في الخارج. * وكان لابد من انتظار انتفاضة أكتوبر ليحدث انفتاح سياسي، تمخض عن ظهور دستور 1989م الذي فتح المجال السياسي أمام السياسيين ولو باحتشام. لكن ميلاد الأحزاب السياسية لم يكن طبيعيا، إذ عرفت انحرافا منذ البداية، حين تم تأسيسها على أسس عرقية ودينية وتاريخية وفئوية. الأمر الذي جعل الجزائر تدخل في دوامة العنف التي كادت تعصف بالدولة الجزائرية الناشئة. * * علاقة الأحزاب السياسية بالحركات الاجتماعية الاحتجاجية * * لاحظ الدكتور ناصر جابي أن معظم الأحزاب قد فشلت في ربط الصلة مع الحركات الاجتماعية الاحتجاجية، باستثناء الجبهة الإسلامية للإنقاذ، التي نجحت في استقطاب الجماهير المتذمرة من النظام الشمولي المتميز بالفساد والمظالم (الحقرة). * ومن جهة أخرى أبرز الباحث الدور الإيجابي للحركات الاحتجاجية لمنطقة القبائل التي ارتبطت بالأهداف الديمقراطية وبالمطلب الثقافي الأمازيغي (الحركة الثقافية البربرية، ثم حركة العروش)، وفسّر فاعلية نشاطها بوجود النخبة المثقفة على رأسها، وبالعوامل التاريخية التي جعلت المنطقة تستفيد من ظاهرة الهجرة بقسميها الداخلي، والخارجي نحو فرنسا، ومن سياسة التعليم التي طبقتها فرنسا فيها لأهداف استعمارية. ثم أشار الكاتب إلى نجاح الأحزاب المتجذرة في منطقة القبائل (الأفافاس والارسيدي) في تمتين العلاقة مع هذه الحركة الاجتماعية المشهود لها بدورها الرائد في ممارسة السلطة المضادة. * هذا ولم يفوّت الدكتور ناصر جابي هذه الفرصة للحديث عن تميز منطقة القبائل بدورها البارز في الحراك السياسي والاجتماعي والنقابي عبر التاريخ: "... بالفعل فقد أنتجت المنطقة، رغم طابعها الريفي والجبلي، نخبا متنوعة سياسية، نقابية وعلمية، وحتى صناعية لاحقا، كنتيجة منطقية لاستفادتها وأبنائها من المدرسة الفرنسية مبكرا، حتى بالمقارنة مع بعض المدن في الجزائر". * * "الفيس" وتشبيب شيوخ البلديات بالجامعيين * * استخلص الباحث ناصر جابي من خلال دراسة وتحليل نتائج الانتخابات المحلية التي جرت في التسعينيات من القرن الماضي، أنه خلافا للصورة النمطية المروجة ضد الفيس (حزب ظلامي)، فإن المرشحين في قوائمه الانتخابية، كانوا من ذوي المستوى التعليمي الجامعي بنسبة (61٪ )، كما نصّب (532) شابا، كرؤساء للمجالس الشعبية البلدية (مواليد ما بعد ثورة 1954). أما التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، فقد قدر الباحث ناصر جابي نسبة الجامعيين في قوائمه المرشحة للانتخابات المحلية في مطلع التسعينيات ب(59.46) * * نهب الأملاك الشاغرة وشروخ المجتمع * * حاول الباحث ناصر جابي تفسير "أزمة الثقة" في الدولة الجزائرية، بما وقع من فوضى في مطلع استرجاع السيادة الوطنية سنة 1962م، والمتمثلة في ظاهرة نهب الأملاك الشاغرة، التي تركها المستوطنون الفرنسيون، رغم نداءات القيادة الفتية الداعية إلى ضبط النفس والتزام الهدوء واحترام أملاك الغير. لكن هذه النداءات ذهبت أدراج الرياح، أمام الفوضى العارمة التي سادت وعمت، وقد أدى ذلك إلى ظهور فئة استفادت من الأوضاع المضطربة، بما حصلت عليه من فيلات وسكنات ومحلات تجارية، ومناصب في الإدارة، ساعدتها على تشكيل نواة لطبقة الأثرياء الجدد (ما بعد الاستقلال)، دون بذل أي جهد يذكر. * وظلت قضية "مغانم 1962م" غير الطبيعية، عالقة في أذهان أجيال ما بعد الاستقلال، التي لم تنفتح أمامها سبل النجاح، فتحولت موجة السخط والتذمر على الأوضاع المزرية إلى إسقاطات سياسية، اتهمت بموجبها الدولة بالتقصير، بل وصارت في أعين الكثير من الشباب فاقدة للشرعية، مادامت الانطلاقة قد بنيت على خطإ وبالتوازي مع تفاقم الأوضاع الاجتماعية، بدأت فكرة "تكسير" الوضع القائم، لإعادة البناء على أسس جديدة، تزداد حجما يوما بعد آخر، إلى أن تشكلت ظاهرة العنف التي تلقفها التيار السياسي الديني المتطرف، محاولا إضفاء الشرعية عليها لتحقيق مآربه. * هذا وقد تساءل الباحث عما يخبئه لنا المستقبل، بالنظر إلى استفادة الإرهابيين الذين اكتسبوا مغانم كثيرة طيلة سنوات الفتنة بطرق غير قانونية من سياسة اللاعقاب، أفلا يمكن أن يشكل ذلك نموذجا لأجيال أخرى؟"... فما هي الضمانات في ألا ينظر شباب بداية الألفية الجديدة إلى النجاح " الذي حققه" الإرهابي التائب عندما نزل من الجبل دون عقاب، ليجد في بعض الأحيان الكثير من الأموال والمدخرات في انتظاره. أموال جمعت في مرحلة من العمل الإرهابي، عن طريق السطو على الأموال العمومية وحتى الخاصة". * * استغلال مفهوم "المجتمع المدني"لتبييض النظام السياسي * * مما لا يختلف فيه إثنان أن مفهوم "المجتمع المدني" يعد أحد مظاهر الديمقراطية، المعبر عن قيم المساواة وحقوق الإنسان والمواطنة، كما يؤدي دور السلطة المضادة (الرقابة) من أجل تحقيق توازن الدولة، وهي المهمة التي تقتضي الاستقلالية التامة عن السلطة السياسية. وبالنظر إلى الارتباط العضوي بين مفهوم المجتمع المدني والديمقراطية، فإن التيار السياسي الديني يضيف الباحث لم يؤمن يوما بقيم المجتمع المدني بصفة عامة. * أما نظام الحكم الأحادي، فقد أخرج هذا المفهوم عن سياقه الصحيح، وحوّله إلى مطية بحكم هبوب رياح الديمقراطية للمغالطة، ولإيهام الرأي العام أنه طلّق النظام السياسي القديم، ببعده الشمولي وسياسة الاقتصاد الموجه، ليعتنق الديمقراطية وفلسفة اقتصاد السوق. هذا وقد ذكر الباحث أن الفضل في انتشار مفهوم "المجتمع المدني" يعود إلى الإعلام المفرنس الذي روّج للمبادئ الديمقراطية المتنوعة. أما الجمعيات الأولى التي استطاعت برأي الباحث أن تشق طريقها نحو الوجود الرسمي هي: جمعية حقوق الإنسان، وتنظيم أبناء الشهداء. * تلكم هي الخطوط العريضة لهذا الكتاب الذي أثرى المكتبة السياسية عندنا، ومن نافلة القول التذكير بأنه جدير بالقراءة، لطابعه العلمي، ولثراء معلوماته وتنوع تحليلاته القيمة، التي لا يستغني عنها ممارس للسياسة، أو باحث في المجال السياسي. * *