أجمع الباحثون والمختصون في مجال التاريخ، المشاركون في الملتقى الدولي حول "الأجيال الملتزمة في الحركات الوطنية المغاربية"، المنظم بوهران، على أنّ إسهامات المؤرّخ الجزائري الراحل، محفوظ قداش، "أسّست لتوجّه علمي وموضوعي في كتابة تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية". ويرى المختص في علم الأنثربولوجيا، البروفيسور حداب مصطفى، من جامعة الجزائر العاصمة، أنّ محفوظ قداش الذي تنظّم هذه التظاهرة العلمية تخليدا لذكراه "قد وضع لبنات أساسية لبداية عهد جديد في التعاطي علميا مع معطيات تاريخية تحمل الكثير من الأبعاد". وأضاف أنّ الراحل كرّس حياته "إلى غاية آخر أيامه في سبيل الوصول إلى الإجابات التي طرحتها أبحاثه المتواصلة في مجال تاريخ الجزائر والمعاصر منه على وجه الخصوص". مبرزا عمله التاريخي الذي وضع أسسا لمناهج قراءة الأرشيف التاريخي والتحليل العلمي للشواهد التاريخية المادية "التي يبني عليها حاليا الكثير من الباحثين المعاصرين قواعد أعمالهم الأكاديمية ذات المستويات العالية".
رمز الشجاعة التاريخية والابتعاد عن المؤثّرات وذكر بأنّ قداش "وفق وإلى حدّ علمي بعيد، في إدماج الأبعاد السوسيولوجية والأنثربولوجية ومعطيات اجتماعية خاصة بكلّ مرحلة من تاريخ الجزائر المعاصر، في كتاباته وتحليلاته وحتى في قراءاته النقدية، خاصة بالنسبة لتأسيس الحركة الوطنية بالجزائر ومراحل تطورها". ويعتقد المؤرخ الفرنسي بينجامين ستورا، أنّ المسيرة العلمية للراحل محفوظ قداش "تستحق بجدارة لقب رمز الشجاعة التاريخية، بحكم نضاله المستميت من أجل إبعاد التاريخ عن جميع المؤثراث واستقلالية كتابته، في مرحلة اتّسمت برهانات وتحديات كبيرة في ظلّ اتّخاذ بعض الأطروحات حول تاريخ الحركة الوطنية اتجاهات مختلفة". وأشار ستورا إلى الدور الكبير الذي أدّاه الراحل في تحقيقه لمكاسب علمية كبيرة في مجال تاريخ الجزائر والمنطقة المغاربية، وذلك باعتبار ستورا مؤرّخا يختصّ في هذا المجال واحتك لمدة طويلة بقداش وشارل روبار أجرين. ويعتبر المتحدث المؤرّخ الراحل، الوحيد الذي حلّل بعمق شخصية مصالي الحاج وبعدها في الحركة الوطنية و"من المؤرخين الأوائل الذين خاضوا منهج المقارنة وتوسيع الشهادات وتمحيص محتوياتها قبل سردها في المؤلفات، وهو الشخص الذي استطاع الولوج بعمق داخل رفوف المركز الفرنسي الذي يحتوي على مواد هامة للأرشيف الجزائري الخاص بفترة ما قبل الاستقلال". وقال "كان قدّاش جدّ مهتم بالمصطلحات وبأبسط الشواهد وشغوفا بالاطلاع على الوثائق وأبسط الشواهد.. مستندا في بحثه العلمي المحض على مناهج المقارنة وتحليل المضامين بالطرق العلمية التي كانت رائدة في المجال الأكاديمي الدولي، سعيا منه لبلوغ تأليف وتأريخ موضوعي للأحداث وأهمّ مراحل تطوّر المجتمع الجزائري". وأوضح ستورا أنّ المؤرّخ الراحل قداش "كان له نفس العمل وبذل نفس الجهود والمثابرة من أجل إبراز شخصية الأمير خالد، وكان أيضا السباق في التعريف بنشأة المؤسسات التي صنعت الحركة الوطنية من حزب الشعب وحركة انتصار الحريات الديمقراطية ومؤسّسيها الذين كان بجانبهم بصفة دائمة ومقرّبة".
مبتكر الموضوعية في المناهج الحديثة ومن جهته، وصف مدير المعهد الأورو - متوسطي والعالم المغاربي بجامعة باريس 8، الدكتور عيسى قادري، الراحل قداش، ب"مبتكر الموضوعية" في المناهج الحديثة لكتابة التاريخ، واعتبره من أبرز الملمين بالمعطيات التاريخية الرئيسية في تطوّر الجزائر، ومن أوائل المؤرّخين المهتمين بكتابة تاريخ البلاد منذ العصور الأولى وإلى غاية فترة ما بعد الاستقلال". وأشار إلى مساهمات الرجل الثرية في المكتبات التاريخية الجزائرية، خاصة من جانب نتائج مقابلاته العلمية التي أدارها مع صانعي تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية واعتماده على قراءة نقدية للأرشيف. وأضاف أنّ قداش ترك للمؤرخين الشباب وللجيل الجديد من المثقفين، موروثا علميا ورصيدا فكريا يستحق الاهتمام والاستغلال لمواصلة درب كتابة التاريخ. مبينا أن ذلك يمثل أكبر عرفان وتخليد لنضالات وأعمال المرحوم. وقال المؤرخ الفرنسي جيل مونسيرون، أنّ أعمال المؤرّخ قّداش "تعدّ في حقل علم التاريخ ومناهجه، بصمات نادرة تتطلّب مواصلة التدقيق فيها والعمل على البحث في إمداداتها التي سلّطت الضوء كذلك على الذاكرة الجماعية التي تربط شعوب المنطقة المغاربية". وذكر مونسيرون أنّ قداش يعتبر "قدوة حسنة بالنسبة للباحثين المعاصرين" في علم التاريخ ومناهج كتابته و"نموذجا كبيرا في تحدي العوائق التي توضع أمام الباحثين، والتي لا تتناسب وتوجّهات أصحاب النزعات غير الموضوعية". وأبرز المؤرخ الفرنسي خاصية الشخصية الإنسانية للراحل قداش، والتي كانت بمثابة القاعدة الصلبة لبنائه لذلك الحسّ العلمي الراقي في تناول التاريخ كمادة حية بكلّ حساسياتها وأبعادها. وأشار إلى أنّ المرحوم كان واعيا بمدى تأثير كتابة التاريخ والبحث فيه على تطوّر المجتمعات، وأشدّ الحريصين على تأكيد الحقائق بكل الوسائل ببذل جميع المجهودات.
المساهمة في البحث وكتابة التاريخ الفكري وتميّزت أشغال اليوم الأول من الملتقى بتقديم عدّة مداخلات حول شخصية ومسار المؤرّخ الراحل، محفوظ قداش، وفي هذا الصدد، تناول المؤرخ فؤاد سوفي في مداخلته، مساهمة محفوظ قداش في مجال البحث وكتابة التاريخ الفكري للجزائر. مشيرا إلى أهمية كتابه "الجزائر للجزائريين"، الذي تمّ التطرق إليه من قبل العديد من المحاضرين ردّا على المقاربة المقلّلة للجغرافية التاريخية التي كانت تعتبر الجزائر مجرد قطعة جغرافية. وللإشارة، فإنّ هذا الملتقى الذي نظّمه قسم مشروع البحث والمسارات التاريخية وشبكات العلاقات، الذي يشرف عليه "كراسك" وهران، بالتنسيق مع القسم المتوسطي - المغاربي بجامعة باريس، من 25 إلى 27 أفريل الجاري، بعنوان "الأجيال الملتزمة في الحركات الوطنية المغاربية"، جاء تكريما لروح المؤرخ محفوظ قداش، وذلك بحضور خبراء ومختصين في التاريخ وعلم الاجتماع، تطرّقوا إلى دور النخبة والمناضلين الملتزمين في الحركات الوطنية، إضافة إلى طرح إشكاليات خاصة بالموضوع. ويعدّ الراحل محفوظ قداش من أهمّ المؤرّخين في الجزائر، ولد سنة 1921 بالعاصمة، استطاع رغم فقره وتحمله لمسؤولية عائلته وهو صغير، التفوّق دراسيا وعلميا، ليدخل الجامعة من أوسع أبوابها ويتحصّل على الدكتوراه في التاريخ سنة 1953، بعدها ترأس عدة جمعيات إسلامية جزائرية، إضافة إلى انّه كان عضوا فاعلا في النشاط السياسي الوطني برفقة مصالي الحاج، الذي كتب عنه محفوظ قداش مقالا في جريدة فرنسية، مما جعل السلطات الاستعمارية تكنّ له العداء، وهو نفس العداء الذي تولّد عند الجنرال ديغول. وبعد الاستقلال تولى الراحل منصب "بروفيسور" في التاريخ بجامعة الجزائر ومفتش عام بمديرية التربية الوطنية، وأصدر الراحل 14 كتابا، أهمها "جزائر الجزائريين"، حيث سجّل فيه كلّ الأحداث التاريخية في الجزائر حتى تاريخ اندلاع الثورة سنة 1954، كما أصدر كتاب "قصة الجنسية الجزائرية"، تطرق فيه إلى النضال السياسي في الفترة بين 1919 و1951. وتأثّر محفوظ قداش بالمؤرخ الفرنسي استيفان قزال، وكان قلمه سلاحا يشهره في وجه الاحتلال الفرنسي، كما كانت أعماله التاريخية عنوانا لشخصيته الملتزمة، وقد تخطى صيتها حدود الجزائر.