لا أقصد بالقرن ذلك النُّتوء العظمي الذي يوجد على رؤوس بعض الحيوانات، ولكنني أعني ذلك المدى الزمني الذي يبلغ مائة عام. وأما صاحب القرن الذي أعنيه فهو فضيلة الشيخ عبد الرحمان الجيلالي، الذي أقامت له بلدية بوعرفة - ولاية البليدة - حفلا تكريميا يوم الأربعاء 16 / 4 / 2008، حيث إن أسلافه من بوعَرْفَة، وإن كان مولده في مدينة الجزائر في 9 / 2 / 1908. وبذلك يكون الشيخ الجليل قد بلغ القرن، وندعو له بالمزيد من الصحة والعافية، وعسى أن يكون ممن يشملهم الحديث النبوي الشريف القائل: »خيركم من طال عمره وحسن عمله«.
إن أعجب ما في الشيخ عبد الرحمان الجيلالي هو هذه الذاكرة الحية، التي تستعصي على النسيان، وتتحدى الزمان، وتأبى أن تُفَرِّط فيما وعته من كنوز معرفية، ومن حوادث تاريخية، ومن عرفتهم من شخصيات علمية.
عرفت اسم فضيلة الشيخ عبد الرحمن الجيلالي في سنة 1959، وأنا لم أبلغ الحُلُم، عندما كنت في السنة الخامسة من التعليم الابتدائي، وسبب هذه المعرفة هو أنني كنت أرى شابا يسكن بجوارنا يجلس أمام منزله ويطالع كتبا، فتَسْتَبِدُّ بي الغيرة، وأتمنى امتلاك مثلها، ولكن لا سبيل إلى ذلك، لأنني لا أعرف مكتبة تبيع كُتبا عربية في مدينة جيجل آنذاك.
وذات يوم تجرأت، وطلبت من ذلك الجار أن يعيرني كتابا.. فدلف إلى منزله، ثم عاد بكُتَيِّب يضم أغاني المطرب عبد الحليم حافظ.. فتألمت وكتمت غيظي.. ثم توجهت من حي الواحات -حيث كنا نسكن - إلى حي قَلْصَدَه - حيث يسكن أستاذي الشيخ مصطفى عبادة - رحمه الله.
دقتت الباب، فلما رآني الشيخ استغرب مجيئي في ذلك الوقت غير المناسب، وسألني عن سبب ذلك. كنت أسبح في بحر من العرق، خجلا مما فعلت، فطأطأت رأسي، وقلت في تَلعثُم أريد أن تعيرني كتابا...
تبسم الشيخ، وتمللت أساريره، وربّت على كتفي فاستمهلني لحظة ثم عاد وفي يده كتاب.. نسيت اسمه، ولكنني أتذكر أنه يضم مجموعة من النصوص النشرية والقصائد الشعرية.
كان والدي -رحمه الله- يتهيأ لسفر من مدينة جيجل إلى مدينة الجزائر، وكنت - آنذاك- على وشك إتمام حفظ القرآن الكريم، فأراد الوالد أن يكافئني على ذلك، فسألني عما أريد أن يشتريه لي. فقلت على الفور: أريد كتابا.. وما طلبت الكتاب إلا ثأرا من جاري، الذي اعتبرت تصرفه معي احتقارا لي، واستصغارا لشأني.
لم يشتر الوالد كتابا واحدا، ولكنه اشترى لي كتابين، ما يزالان يتصدران -إلى الآن- مكتبتي المتواضعة، وهما »تاريخ الجزائر العام« في جزأين للشيخ عبد الرحمن الجيلالي، و»تاريخ الأمة العربية« في ستة أجزاء للدكتور محمد أسعد طَلْس. فكان ذلك أول سماعي بالشيخ عبد الرحمن الجيلالي، الذي ما عرفته شخصيا إلا في عام 1972، عن طريق صديقي سليم كْلالْشَة - رحمه الله- وشاءت الأقدار أن أكون واسطة بين الشيخ وبين دار الأمة »التي تعد -الآن- الطبعة الجديدة لكتاب »تاريخ الجزائر العام«، وهي تقع في ستة أجزاء.
كنت أعلم علاقة الشيخ عبد الرحمن بالشيخ عبد الحليم ابن سماية - رحمه الله- حيث تتلمذ عليه، وأجازه الشيخ ابن ساية بما أجيز به »في رواية صحيح الإمام البخاري متصلة السند المسلسل بشيوخ العلم والحديث على الطريقة السلفية (1)«. فاغتنمت فرصة لقائي بالشيخ فسألته عن سبب تغير حال الشيخ ابن سماية، حيث كما يقول الشيخ عبد الرحمن نفسه »تغير إلى شبه أحوال من يسمونهم بالمجاذيب... وكثيرا ما كان ينتزع سيفه فيشهره في وجوه رجال السلطة الحاكمة. أو عندما يتأثر ويشتد انفعاله مما يراه من تخلف قومه، وتقدم عدوه على حساب وطنه، واتخذ بعض الناس ذلك منه دعوة إلى الفروسية، ورمزا لحمل السلاح في وجه الغاصبين، وطالما صرّح هو في هذه الحال بعبارات وتصريحات جارحة في جانب المعمر (2)« فأجابني الشيخ بأن بعض الناس يرد ذلك إلى أسباب نفسية.. ولكنني -يقول الشيخ- أرجّح أنه افتعل تلك الحال حتى لا تبطش به السلطات الفرنسية التي كان يهاجمها، خاصة بعد فشل ثورة الأمير عبد الكريم الخطابي في المغرب، التي كان الشيخ يعلّق عليها آمالا فساحا، ويرجو أن تتوسع لتشمل المغرب العربي كله، فتأتي على الاستعمار، وتحرر هذه الأمصار.
ومما يُرجّح ما ذهب إليه الشيخ عبد الرحمن هو أن الشيخ ابن سماية - رحمه الله- استمر في إلقاء الدروس حتى آخر يوم في حياته، التي انتهت في 2 يناير من سنة 1933. وقد حدثني بذلك أيضا جدُّ أولادي لأمهم، الشيخ العربي بوزكري - رحمه الله- حيث أخبرني أن الشيخ ابن سماية كان يأتيهم إلى زاوية محي الدين، بوسط العاصمة، فيترجل عن حصانه، ويأخذ مكانه ثم يملي عليهم الدروس في مختلف الفنون من ذاكرته...
أرجع إلى كتاب الشيخ عبد الرحمن الجيلالي »تاريخ الجزائر العام« فأقول: إنه ثالث ثلاثة كتب أُلِّفت في تاريخ الجزائر قبل أن تستعيد استقلالها وأول هذه الكتب هو »تاريخ الجزائر في القديم والحديث« (جزآن) للشيخ مبارك الميلي، وثانيها هو »كتاب الجزائر« للشيخ أحمد توفيق المدني (جزء واحد). وإذا كان كتاب الشيخ مبارك ينتهي عند بداية العهد العثماني، وكتاب الشيخ المدني ينتهي في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، فإن كتاب الشيخ الجيلالي يمتد إلى نهاية الاستعمار الفرنسي، حيث أتم الشيخ الجزأين الآخرين بعد استعادة الاستقلال وهذه الكتب الثلاثة كانت سلاحا فعّالا واجه به الجزائريون السيل المنهمر من الكتب الفرنسية التي زيفت تاريخ الجزائر، ونفت وجود أمة جزائرية، وثقافة جزائرية، ولهذا لم تكتف هذه الكتب الثلاثة بالحديث عن الجانب السياسي في تاريخ الجزائر، بل تعمدت الإشارة إلى الجوانب الثقافية والحضارية مما »يحمل الشاب المسلم الجزائري على احترام بلده، وتمجيد تاريخه اللامع العظيم والثقة بمستقبله الزاهر النيّر، مع نفخ روح القومية فيه، وإعداده لوصل حاضره بماضيه، حتى تتكامل فيه أركان الحياة الأربعة: المحافظة على شخصيته وميزته، وتقدير أسلافه الأمجاد، والتمسك بدينه، والعمل على الإشادة بوطنه (3)«.
إن كتابة تاريخ شعب من سحيق ماضيه إلى حاضره ليس أمرا سهلا، ويزداد صعوبة ومشقة بالنسبة لتاريخ الجزائر، خاصة في ذلك الوقت، ولهذا فإن أعمال الشيوخ الميلي، والمدني، والجيلالي تعتبر من أشق الأعمال، وما يُلقّاها إلا الذين صبروا.
لقد قر أولو النُّهى هذه الأعمال حق قدرها لما يعلمون من صعوبتها وجليل أثرها. فقد قال الإمام عبد الحميد بن باديس للشيخ الميلي »إذا كان من أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا فكيف من أحيا أمة كاملة، أحيا ماضيها، وحاضرها، وحياتهما عند أبنائها حياة مستقبلها، فليس - والله- كفاء عمللك أن تشكرك الأفراد، ولكن كفاءه أن تشكرك الأجيال (4)«. وقال محمد العيد آل خليفة للشيخ الجيلالي:
لفت نظري في الشيخ عبد الرحمن الجيلالي أمرا لم نعهده في الجزائريين خصوصا وفي المسلمين عموما، وهو الاعتراف بجهود المرأة، والإشادة بها، خاصة إذا كان ذلك في الميدان العلمي.
فالشيخ عبد الرحمن أرجع الفضل في تأليفه كتابه القيم إلى الله - عز وجل- ثم إلى العلماء الذين اغترف من بحورهم، ثم »لربة البيت والعفاف الجليلة الكريمة، قرينتي وشريكة حياتي، ورفيقتي في السير بهذا العمل المتواضع،المنعّمة المبرورة أم غالب (ميمي خداوج)، سقى الله ضريحها، من المؤازرة العظيمة فيما كانت تُمِدُّني به من تحقيقات تاريخية، وبحوث نفسية تستخلصها من مطالعاتها المستمرة، وقراءاتها المتتابعة لكتب الإفرنج، الباحثين في موضوع تاريخ الجزائر، فكانت رحمها الله تلخصها وتترجمها إلى العربية طيلة أيام إعدادنا لهذا التأليف وجمع شتاته من أوله إلى آخره.. فكان من الواجب المحتّم عليّ نحوها أن أنوّه باسمها، شاكرا لمساعيها الجليلة، وممجدا لمآثرها الحميدة..«
لي مع الشيخ الجليل عبد الرحمان الجيلالي ذكريات لطيفة، منها أنني كنت جالسا إلى يمينه، نتناول طعام الغداء في بلدة أولاد ابْراهَم ( بوسعادة)، وفرغت من الأكل قبله، فقلت: الحمد لله. فقال لي الشيخ: إذا كنت في ملأ وفرغت من الأكل قبلهم فلا تجهر بالحمدلة، لأنك ستُحرج من معك إن كان ما تزال به رغبة إلى الطعام، وتُظْهِرُه في مظهر الشَّره النَّهِم.
أهنئ فضيلة الشيخ ببلوغه القرن، وأدعو الله له بالمزيد حتى يبلغ القرنين، وأقول له ما سبق للشاعر محمد العيد آل خليفة أن قاله له وهو:
هذه نفحة من الشعر هبّت
بك »عبد الرحمن« توليك شكرا(6)
مع استبدال كلمة النثر بكلمة الشعر، لأنني لست بشاعر.
الهوامش
1) عبد الرحمن الجيلالي: تاريخ الجزائر العام. ج4. ص 409. ط بيروت
2) المرجع نفسه ج4 . ص 416
3) المرجع نفسه.. المقدمة
4) مبارك الميلي: تاريخ الجزائر في القديم والحديث. ج2
5) محمد العيد آل خليفة: الديوان. ص 404 . 405 6) المرجع نفسه ص 453