هل كان لأردوغان، أن يسبق عمرو موسى في الدفاع عن الحق العربي والتصدي لأكاذيب رئيس الكيان الصهيوني وفضحه في هذا المنتدى الماصوني، لو لم يكن يعلم أن وراءه شعب لن يتردد في نصرته ؟ وهل كان بوسع عمرو موسى أن يقف ذالك الموقف المخزي، لو لم يكن أمينا عاما لجماعة دول عربية قد تقطعت الأسباب بين دولها وشعوبها؟ وهل كان لتركيا وإيران أن يتوجها إلى ملء الساحة العربية المباحة، ويراهنان على قوى المقاومة فيها كقوة قادرة على تعديل موازين القوة، لولا تقاعس النظام العربي الرسمي وخذلانه لشعوبه ومقاومة التي منحته أكثر من فرصة للتحرر من أملاءات الغرب؟ وهل كان لورثة الباب العالي المغمرة بالعودة لمنخفض ارض العرب لو لم يحولها قادنها من أمثال عمرة موسى إلى أرض مشاع للعابثين؟ * * * منتجع دافوس كان مسرحا لحادثة ينبغي أن نتوقف عندها مطولا، لأنها تكاد تلخص ثمانين سنة من التاريخ العربي والإسلامي الحديث. الشخوص كانوا فيها أربعة: عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية التي أوجدها الإنجليز كشاهدة زور على ما أنتجه الثنائي الاستعماري سيكس وبيكو بجسم العالم العربي، بعد اقتطاعه من الخلافة الإسلامية العثمانية، والسيد رجب طيب آردوغان، رئيس الوزراء التركي حفيد الخلفاء العثمانيين، ووريث دولة الباب العالي التي كان يمتد سلطانها حتى حدود المغرب غربا، ولها الولاية على بيت المقدس، وكانت أول من استحدث لقب خادم الحرمين الشريفين قبل أن تتولاه عائلة آل سعود. والثالث شمعون بيريز، رئيس الكيان الصهيوني الذي صنعه قادة الغرب، وساهموا في تشكيله منذ بداية القرن التاسع، عشر ليسلم أرضا عربية زعموا أنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. والرابع بان كيمون الأمين العام لمنظمة الأممالمتحدة التي كانت أداة لإنشاء الدولة الصهيونية، ومنحتها الشرعية الدولية، وحمتها من سلطة القانون الدولي من دون سائر الدول. * * عودة العثمانيين إلى ساحة أبناء إسماعيل * من حيث لا يدرون، جمع المنظمون لهذه التظاهرة الغربية الإمبريالية بدافوس الأطراف الرئيسة المعنية بالجريمة المتواصلة في فلسطين منذ ستين سنة. أحفاد الخلفاء العثمانيين الذين فقدوا مع الخلافة ثلاثة أرباع العالم العربي، ومنه فلسطين والقدس الشريف، وجدوا في هذه النخبة الإسلامية المستنيرة من حزب العدالة والتنمية، قيادة تمتلك الإرادة والرغبة في إعادة تركيا إلى الحاضرة العربية والإسلامية التي شيد فيها العثمانيون أمجادهم طيلة خمسة قرون، وكان العدوان الصهيوني الأخير على غزة، فرصة اقتنصها بذكاء فريق أردوغان ليبعث بأكثر من رسالة: للأوروبيين الذين وضعوا أكثر من جدار عنصري أمام انضمام تركيا للإتحاد، وأخرى للدول ولشعوب الشرق الأوسط، تعد بعودة هذا البلد المسلم الكبير كلاعب إقليمي يمكن للشعوب العربية والإسلامية أن تعول عليه، ورسالة ثالثة: للكيان الصهيوني لم تتضح بعد، تشترط لاستمرار العلاقات بين إسرائيل وتركيا ليس فقط وجوب احترام إسرائيل لقواعد اللعبة بين الدول، وترك أسلوب الاستهتار الذي تعودت عليه في علاقاتها مع الدول العربية المستضعفة، ولكنها تشترط سلوكا آخر للكيان الصهيوني تجاه الشعب الفلسطيني. * * قطيعة الإسلام التركي مع النادي المسيحي * غضبة أردوغان، لم تكن مجرد ردة فعل عاطفية لها ما يبررها، في ما تعرض له سكان غزة من جريمة وصفها الأتراك بالهولوكوست، ولكنها كانت موقفا سياسيا يؤكد حصول تحول استراتيجي، بدأ مع العدوان الأمريكي على العراق، حين امتنعت القيادة التركية عن السماح للقوات الأمريكية بالعبور إلى العراق من الأراضي التركية. * انفجار غضب رئيس الحكومة التركي في منتدى دافوس، لم يكن موجها فقط لرئيس الكيان الصهيوني بتلك التهم الفظيعة لدولة، قال أن رؤساء حكومتها يتلذذون بمشاهد قتل الأطفال، وباجتياح دباباتهم للمدن الفلسطينية. وكانت هذه أول مرة يواجه فيها الكيان الصهيوني بتهمة مباشرة ليس فقط بارتكاب جرائم حرب، بل اتهامه بالتلذذ بالجريمة، ولكنها حملت اتهاما للمجموعة الدولية التي تعامل إسرائيل كما يعامل الطفل المدلل. * * البوكي مون الناعس بين المجرم والبائس * المشهد كان مثيرا من أكثر من زاوية، ومحرجا لأكثر من طرف، بدءا بالأمين العام للأمم المتحدة الذي كان يفترض فيه أن يعبر باسم المجموعة الدولية، وما يسمى بالشرعية الدولية عن الغضب الذي عبرت عنه شعوب المعمورة، وكثير من الدول الأعضاء، ولعله كان يشعر بالذنب وهو يستمع إلى الزعيم التركي يكيل التهم للمجموعة الدولية التي تقاعست عن نجدة شعب أعزل وهو يذبح على المباشر، ومع ذالك رأيناه يتوسط المجرم بيريز والبائس عمرو موسى قد استفاق من نعاسه ليصفق لمجرم الحرب مع تلك القاعة التي وبخها أردوغان، وذم تصفيقها لرئيس الكيان الصهيوني. * غير أن المشهد الكوميدي والدرامي في آن واحد كان بطله الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى. لنتذكر أن هذا الرجل قاطع قمة الدوحة بقطر التي انتظمت لنصرة شعب غزة ومقاومته، واجتهد لتقويض القمة بسلوك وممارسات، تآمر فيها على 12 دولة عربية منعا لاكتمال النصاب القانوني، ثم لم يتردد في حضور قمة شرم الشيخ، عندما تداعى ستة من زعماء أوروبا لإخراج إسرائيل من الورطة، وتعزيز الحصار على غزة بإرسال قطع بحرية أوروبية لخفارة الشواطئ ، وامتنع عن زيارة قطاع غزة قبل وأثناء وبعد توقف العدوان، ورأيناه يجد الوقت، ويستغل موارد الجامعة لحضور هذا المحفل الماصوني بدافوس، لينجز تطبيعا حقيقيا مع زعيم الكيان الصهيوني بحضور تلك الجلسة، معتديا بذالك على حقوق 20 دولة عربية لم تطبع رسميا مع الكيان، ثم يفوت على نفسه فرصة إنقاذ الموقف بالتضامن مع ذلك الفحل العثماني الذي خاطر بمستقبل حزبه ومصالح حكومته ودولته تضامنا مع الشعب الفلسطيني ومع الحقوق العربية. لقد ظهر عمرو موسى في موقف مخز للغاية، متردد بين المغادرة على مضض وبين البقاء على استحياء، إلى أن أنقذه البوكي مون الأممي بإشارة، جاءت بصيغة الأمر القطعي بالجلوس، امتثل لها فورا عمرو موسى، قبل أن يغتنم أول فرصة لتحقيق انسحاب الذليل الخائف، عند اختتام الجلسة، خوفا من مشهد آخر كان سيلزمه بأحد الأمرين: إما مصافحة رئيس الكيان تلحقه بشيخ الأزهر، أو يمتنع جهارا فيغضب الأسياد. * هذا المشهد وحده يكفي لتصوير الواقع العربي الرسمي المهزوم قبل وأثناء وبعد العدوان الصهيوني على غزة، ويبشر في الوقت ذاته بحصول انقلاب في موازين القوة، مع عدو مهزوم عسكريا وسياسيا وأخلاقيا، بات زعماؤه وقادته العسكريون موضوع مطاردة من قبل الأحرار في العالم، وأمام ما توفر من فرص مقاضاتهم، ومع خيار مقاومة وممانعة، أكسبته معركة غزة أنصارا وحلفاء جدد داخل الفضاء الإسلامي وفي العالم. * * حلفاء جدد لمقاومة عريقة * لم يكن للزعيم التركي آردوغان أن يتبنى ذالك الموقف الشجاع الذي التحم فيه بموقف شعب تركيا المسلم، لو لم يقرأ في معركة غزة، ومن قبل في معركة تحرير الجنوب اللبناني والتصدي للعدوان الصهيوني وجود قوى عربية إسلامية مقاومة، قادرة على التصدي بكفاءة، باتت أهلا لكي يراهن عليها في تعديل ميزان القوة في المنطقة. فبقدر ما ينبغي للشعوب العربية أن تثمن موقف الحكومة التركية، فإن القيادة التركية وشعب تركيا المسلم يجدون في المقاومة العربية عاملا مشجعا على إعادة انتشار تركيا كقوة إقليمية في اتجاه عمقها التاريخي والحضاري، بعد أن أغلق النادي المسيحي الأوروبي كل الأبواب في وجهها، ولم يكن بوسعها أن تزحف في اتجاه الشرق بحثا عن دور إقليمي، لو أن الفضاء العربي كان قد دجن بالكامل، واستسلم لمسارات التسوية وإضاعة الحقوق. فليس لتركيا ولا إيران أي دور يذكر في مشرق عربي يخلوا فيه الجو للنظم المستسلمة، وما كان لإيران أن تراوغ دفاعا عن مشروعها النووي، وتبعد التهديدات الغربية الصهيونية، لو لم تجد سندا في هذا العمق العربي وفي القوى المقاومة في العراق ولبنان وفلسطين التي تصدت لمشروع الشرق الأوسط الكبير وأفشلته. * * البحث عن شريك من العرب للجيران العجم * لا أحد يستطيع توجيه اللوم لإيران أو لتركيا أن يبحثا عن دور إقليمي في منطقة هما فيها شركاء في الجغرافية والتاريخ والحضارة، كما يفعل النظام العربي الرسمي العاجز، وقد كان أولى بالنظام العربي أن يتحرر من خيار الاستسلام، ويراهن على قوى المقاومة التي أثبتت كفاءتها، ونراها تعدل موازين القوة بإمكانيات بسيطة. وقد أتيحت للنظام العربي أكثر من فرصة بدءا بالعراق الذي أفشلت مقاومته المشروع الأمريكي، وانتهاء بالمقاومة في لبنان وفلسطين التي أنهت، وإلى الأبد، ليس فقط قوة الردع للعسكر الصهيوني، بل أنهت أحلام وطموحات المشروع الصهيوني التوسعي، وكشفت مواطن الضعف فيه، وحدود القوة في فرض إملاءاته على المنطقة. وما يزال بوسع النظام العربي أن يلتقط ما بقي من الفرص، وينظر إلى قوى المقاومة كرأس حربة لخيار يتسع لما هو أبعد من مشروع تحرير فلسطين، باستكمال تحرير دول وشعوب المنطقة من الهيمنة الأمريكيةوالغربية، وإفساح موقع حقيقي لدور إقليمي للعالم العربي، ينبغي أن يرى في القوتين الإقليميين: إيران وتركيا رديفا وحليفا للعالم العربي لا خصما فضلا على أن يتخذ عدوا بديلا للعدو الصهيوني. * * جامعة للشعوب على أنقاض زريبة الدول * الذهاب إلى هذا الخيار له استحقاقات، تبدأ بتغيير النظرة تجاه المقاومة، ومن القوى الإسلامية التي تولت قيادة المشروع التحرري، والتخلص من عقدة الضعف التي تنظر إلى موازين القوة من جهة ما للعدو من ترسانة حربية متفوقة، وتتجاهل عوامل القوة التي كشفت عنها المقاومات الشعبية، وأخيرا التفكير بجدية في إعادة صياغة شاملة وعميقة للتضامن العربي، وللعمل المشترك ضمن إطار تنظيمي جديد يستخلف جامعة الدول العربية بتنظيم عربي إقليمي جديد، يعمل بذهنية جديدة، وبأدوات تنظيمية مبتكرة، وعلى ضوء مشروع سياسي قومي توضح فيه المصالح العربية القومية التي تحتاج إلى تضامن عربي تكون له فيه الأولوية على المصالح القطرية، وتشرك الشعوب في الدفاع عنها عبر مؤسسات رديفة لمؤسسات الدول والحكومات. فالجامعة العربية التي كانت صنيعة المستعمر البريطاني، وخلقت لغاية واحدة هي تثبيت تقسيمات سايكس بيكو عبر جامعة للدول، باتت جزءا من مشكلة الفضاء العربي وليس أداة للحل، كيفما كانت الإصلاحات التي قد تخضع لها، إلا إذا عدل ميثاقها في اتجاه تحقيق اتحاد إقليمي، يطمح في الحد الأدنى لما يشتغل عليه الأوروبيون اليوم، أي بتحديد سقف عالي لطموحات شعوب المنطقة يتماشى مع الرغبة الحقيقية للشعوب العربية في بناء كيان عربي سياسي واقتصادي وأمني، بوزن وثقل يشري واقتصادي وعسكري بفرض على العالم احترام هذه الأمة الكريمة، والتعامل معها بقدر مقبول من الندية. وقتها لن نكون بحاجة إلى التخوف من الجارتين المسلمتين إيران وتركيا، بقدر ما نكون في نظرهما قوة أقليمية يمكن لهما التعويل عليها في الدفاع عن مصالح الإمة الإسلامية، وليس فضاء مفتوحا كما هو الآن تتسلل من خلاله قوى الشر لتهديد مصالحه ومصالح جيرانه. *