الرئاسيات هي في جميع نظم الحكم بمنزلة عقدة النكاح، ما نسخ منها بالعرف أو من السماء، وما تجري عليه القوانين الوضعية، وإن كانت قد تحولت إلى "زواج متعة" بالسلطة من غير مقدم صداق، ونسخة معاصرة "لنكاح المسيار" يفضل أن يكون بعيدا عن مسامع الولي، وشاهدين بالعدل، حتى لا يكون فيه للثيب من الشعوب الحق في أن تَسأل وتٌسأل، ويكون الاستحسان عند عموم الأبكار، الصمت على المكروه، والرضا بالقسمة والمعروف. * هذا هو الاستحقاق الرئاسي الرابع في عهد التعددية السياسية جاء كسابقيه، منذ انتخاب ليامين زروال، وسط تشكيك كبير دأبت عليه قوى المعارضة منذ أن تشكلت في أعقاب دستور 89، وكأننا بصدد لحن مكرر مطبوع على أسطوانة مشروخة. * لنتذكر أن أول سجال بين السلطة والمعارضة جاء على خلفية المطالبة برئاسيات قبل الاستحقاق التشريعي الأول سنة 1991، ولم يسلم الاستحقاق الرئاسي التعددي الأول، لا من دعوات المقاطعة، ولا من التشكيك حيال تواطؤ الإدارة والمؤسسات المقررة في السلطة، لصالح مرشح الإجماع الأول السيد ليامين زروال. وتميز الاستحقاق الثاني في أول عهدة للرئيس بوتفليقة، بخروج ستة من كبار المنافسين من السباق بين الدورين. وكان استحقاق 2004 أول استحقاق يشهد تنافسا حقيقيا بين الرئيس بوتفليقة وغريمه السيد بن فليس، حتى وإن اكتشف البعض لاحقا، خفايا اللعبة المحبوكة، والتمويه الحذق. * من طبيعة الاستحقاقات الرئاسية المميزة أنها تكون في النظم الرئاسية والشبه رئاسية، فرصة لتحقيق التداول الفعلي على السلطة والتنافس بين برنامجين، وعند الضرورة تكون فرصة للاحتكام المباشر أمام الناخب، واستفتائه حول مشروعين للحكم يقفان أحيانا على طرفي نقيض، وفي الحالتين لا يقتصر التنافس على استعراض بعض النوايا الحسنة، والوعود التي تسيل لعاب الناخب المخدوع في كل مرة، لكنها في أضعف حالاتها تكون فرصة لطرح الأسئلة الأساسية، وفتح النقاش حولها، حتى حين تعجز النخب السياسية عن صياغة أجوبة مقنعة لها. * * فكر فقير عند الواحد والكثير * في الحالة التي تعنينا أرى أن هذا الاستحقاق الذي جاء بعد عقدين من اعتماد أول دستور تعددي، أخرج البلاد من نظام الحزب الواحد، وكان ذالك هو أفضل ما فيه، وواكب انتقالا من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق، راجت فيه الأسواق وغيب منه الاقتصاد، أرى أن هذا الاستحقاق يستوجب أكثر من سابقيه على المرشحين والمقاطعين والناخبين معا، طرح طائفة من الأسئلة، حتى وإن كنا لا ننتظر من شخوص المشهد السياسي أجوبة شافية ومقنعة، ويكفينا منهم أن يكونوا على إلمام بها مقتنعين بجدوى طرحها، والبحث عن أجوبة لها، لأن بداية الحلول السليمة تكون عادة مع بداية طرح الأسئلة الجيدة. * ثمة مجموعة من الأسئلة لها صلة بالخيارات السياسية الكبرى المغيبة في النقاش الوطني، إن كان ثمة نقاش وطني أصلا، نوردها في صياغات موجزة، وقد يطرحها غيرنا بصيغ أخرى أقل أو أكثر إلحاحا. * هل كنا بالفعل موفقين في ذالك الانتقال السريع من نظام الحزب الواحد إلى التعددية السياسية؟ وهل كان ثمة خيارات أخرى، تجنب البلاد الأزمات الخطيرة التي مر، ومازلنا عالقين بأوحالها؟ وما هي فرصنا اليوم لتصحيح المسار، وتحديث الدولة والنظام؟ وما هي البدائل المقترحة عند القوى المنخرطة في السلطة، أو العالقة في "بانتوستانات" المعارضة؟ ثم كيف يفسر لنا اليوم مرشح الإجماع، ذالك الإخفاق البين في تمرير مشروع إصلاح الدولة والنظام، عبر تعديل دستوري واسع، أجهض مرتين دون أن نتعرف على القوى الممانعة، وعلى حججها إن كان لديها حججا؟ وكيف يفسر لنا بقية المرشحين والقوى السياسية المقاطعة، تلك الممانعة الشرسة لمشروع تحديث النظام، وتشبثهم بدستور مغلق، ونظام حكم معتل، ومؤسسات دستورية معطلة؟ وهل من بدائل عندهم لتحديث نظام الحكم الفاسد تحت سقف الدستور الحالي؟ * * تبضع الغريب في سوق بلا شهبندر * المجموعة الثانية من الأسئلة، لها صلة بالخيارات الاقتصادية الكبرى، تكاد تكون نسخة للأسئلة السابقة، بالنظر إلى تزامن المسارين السياسي والاقتصادي. * على ضوء ما نرى اليوم من صور مخيفة للأزمة الاقتصادية العالمية، وللمنظومة اللبرالية الرأسمالية المتهالكة، هل كنا موفقين حقا في خيار الانتقال من اقتصاد رأسمالية الدولة، بكل ما كان فيه من عيوب وقصور، للدخول في منظومة اقتصادية ليبرالية، لم نكن، وما زلن لا نمتلك، لا ثقافتها، ولا أدواتها، وقد دخلناها ونحن في حالة ضعف سياسي ومالي، وفي أعقاب زلزال أكتوبر الاجتماعي والسياسي، وبخزينة عمومية كانت على مشارف الإفلاس؟ وهل كان بوسعنا، بعد أن سمحت الطفرة النفطية بالتخلص من عبء المديونية، ومن إملاءات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، هل كان بوسعنا صياغة سياسات اقتصادية بديلة، تحول الطفرة المالية إلى طفرة اقتصادية تعتمد أساسا على استثمار ما بين أيدينا من عوائد المحروقات، في إعادة بناء القاعدة الصناعية للقطاع العمومي التي هدمتها إملاءات صندوق النقد الدولي، والانطلاق في مقاربة جديدة لقطاع الفلاحة تحل إشكاليتين أساسيتين في الفلاحة، الأولى: لها صلة بتنظيم العقار ألفلاحي ورفع الغموض عن الملكية في المستثمرات، وحماية الأرضي الفلاحية من التوسع العمراني الفوضوي وزحف الأسمنت والزفت. والثانية: لها صلة بتوفير الإمكانيات والفرص لتحقيق توسع فلاحي في الهضاب والصحراء، بحل إشكالية المياه والطاقة عبر مقاربات غير تقليدية، وصياغة سياسة جديدة، توجه النشاط الفلاحي أولا وقبل كل شيء نحو تحقيق قدر من الاكتفاء الغذائي في الحبوب والبقول والخضروات، والأعلاف؟ * ألم تكن تلك الهرولة الحمقاء خلف وصفات المكاتب الاستشارية الغربية، والانصياع الأعمى لنصائح صندوق النقد، خيارا فاسدا، كلفنا تفكيك القاعدة الصناعية العمومية، بتحرير السوق الوطنية أمام عبث كامبرادورية الاستيراد التي قتلت القطاع العام، وتمنع في الوقت ذاته نماء قطاع صناعي خاص؟ * وهل كان ممكنا، أن نحقق تلك الإصلاحات السياسية في اتجاه بناء دولة مدنية حديثة تفسح المجال أمام تنافس البدائل في ظل أحكام دستور 89 الذي قيد السلطة والنظام، قبل أن يقيد المعارضة؟ وهل كان بوسعنا، في ظل الاستسلام لأملاءات صندوق النقد الدولي، وسيطرة زمرة من التقنوقراطيين على القرار الاقتصادي، الذهاب إلى خيارات اقتصادية غير تلك التي فككت القاعدة الصناعية للقطاع العام، وقتلت البدائل الممكنة لنشوء رأسمالية وطنية؟ * * هرولة حرة نحو ليبرالية بلا قيد * لا أضن أن ذالك كان ممكنا، ولن يكون ممكنا، ما لم تقتنع القوى النافذة في السلطة، أن العلة كانت، وما زالت كامنة في مقاربتنا السياسية ثم الدستورية والقانونية لنظام التعددية السياسية، وما يسمى باقتصاد السوق، وأن غيرنا قد ذهب إلى خيار اقتصاد السوق وهو مستند إلى دولة قوية، بقيادة ما زالت ترى في الديمقراطية والتعددية السياسية، كما هو الحال في الصين، محض ترف، وذهب آخر إلى تأسيس نظام ديمقراطي حقيقي، لا يشوبه لبس، استند إلى قوى ليبرالية منحها، كما هو الحال في الهند، القيادة السياسية والاقتصادية بلا تردد، واختار نظراؤنا الأتراك الانفتاح على قوى إسلامية حديثة، محررة من تبعات وأوزار التجريم المسبق، والحكم على النوايا، نراها اليوم تدير بجرعات عالية من الليبرالية، المسارين السياسي والاقتصادي، بنفس الكفاءة التي أدارت بها الأحزاب الاشتراكية الأوروبية أطول فترات الازدهار الاقتصادي، والاستقرار السياسي في أوروبا. * وفي الحديقة الخلفية للإمبراطورية الأمريكية بأمريكا الجنوبية، وفي زمن تفرد الولاياتالمتحدة بقيادة العالم، ظهرت مقاربات جديدة، اختارت العودة دون أدنى عقدة إلى سياسات تنموية اجتماعية، تحت شعارات اشتراكية، وبعودة حميدة لترقية القطاع العام، مدعمة بمواقف وطنية تدافع عن سيادة الدول والشعوب وهي على بعد أميال من بيت الإمبراطورية الأمريكية. * الأزمة الاقتصادية العالمية المتفاقمة، هزت قواعد الفكر الليبرالي في عقر داره، حتى بتنا نشاهد أنظمة غربية، كانت من لأشد المدافعين عن سيادة السوق الحر، وهي تعود لمغازلة الأفكار الكينيزية، ثم لا تستحي من استعارة الحلول من الاشتراكية الاجتماعية، بل وتعتمد وصفات اشتراكية صرفة، كانت، إلى وقت قريب تعد من محرمات صندوق النقد الدولي على الدول النامية. * * لذة القاصر في جلد عميرة * كانت هذه جملة من الأسئلة المركزية الناطقة بذاتها في مشهد باتت شخوصه وفعالياته وكأن على أبصارهم غشاوة، وبآذانهم وقر، أسئلة يفترض أن تكون محل تداول ونقاش في أهم استحقاق انتخابي، يرتهن مصير البلاد لخمس سنوات قادمة، وسط أزمة عالمية متفاقمة ساعة بعد ساعة، لا نعلم حدودها وتداعياتها على الدول الصناعية المتطورة، ناهيك عن تأثيراتها المفجعة على الدول النامية. * ما سمعناه حتى الساعة، من المرشح الأوفر حظا، كما من بقية المرشحين، كان على بعد سنوات ضوئية من هذه المسائل الجوهرية المقررة لبقية القضايا والملفات. فالخطاب الافتتاحي تجاهلها، وانصرف عنها إلى خطاب مستهلك، مع ما يعد من إصلاحات، هي ممنوعة في ظل أحكام الدستور الحالي وقواعد اللعبة العرفية الأقوى من الدستور نفسه، سواء تعلق الأمر بإصلاح الدولة والإدارة ومحاربة الفساد، أو بتحقيق نماء اقتصادي متوازن، وعدالة اجتماعية تضيق الهوة بين الفقر المدقع، والثراء الفاحش، وهو ما امتنع عنا، زمن الطفرة المالية النفطية، يوم كان سعر البرميل يغازل سقف ال 150 دولار، فكيف يعد بهما اليوم من يعد، مع سعر مرشح للتهاوي دون العشرين دولار. * من المؤكد أن ما هو متاح للمتنافسين من السهل المباح، هو إبداعات الخطاب الشعبوي، الذي تعود العزف على أوتار قيثارة الوطنية المتآكلة، ومزامير العزة والكرامة المشروخة، وطبل السيادة المهتوك أصلا، وبوق السيادة الوطنية المبحوح، وهي كلها شعارات فارغة حتى مع صدق النوايا، وإحسان الظن بالمرشحين، لأن الدولة التي ورثناها عن عقدين من ممارسات الساسة المراهقين، داخل روضة أطفال التسلية بأبجدية الديمقراطية والتعددية، وسلوك سفهاء الخاصة بالغلول المفرط في أموال العامة، أزعم أن هذه الدولة غير مؤهلة للاشتغال بالحد الأدنى من وظائفها ومهامها، والتقدم بما هو دون التسارع القريب من لحظة الجمود، حتى مع توفر الرجال الأكفاء الأمناء بدفة القيادة، لأن العيب والعطب هو أصلا في الآلة، قبل أن يشخص عند من يشغل الآلة، فما بالك حين يكون طالب المتعة بالسلطة كطالب المتعة بجلد عميرة. * * رحلة مختطفة بطائرة خربة * قد يستطيع ربان طائرة قاصر، غير محترف، وربما غير نزيه ولا أمين، ولا صاحب كفاءة قيادة طائرة، والخروج بها من عاصفة هوجاء، والهبوط بها إلى مدرج آمن، إذا كانت الطائرة سليمة، معدة سلفا للطيران في أسوء الأحوال الجوية، ومجهزة بأنظمة آلية تتدارك الخطأ البشري، وتعوض ضعف الكفاءة، لكنه يصعب توقع نجاح أمهر الطيران في قيادة طائرة خربة، تشتغل بأنظمة قيادة عتيقة أو معطلة، أو ما هو أسوء، بأنظمة رؤية وقيادة متضاربة ومضللة، ليس بين يديه خارطة طريق، ولا جهاز رادار يرصد له ما لا تراه العين المجردة، وفوق ذالك قد تدافع إلى قمرة القيادة أكثر من قرصان متربص يريد الإمساك بالمقود، أو تقييد يدي الربان . هذا هو حال طائرة الجزائر، بهيكلها المركب من قطع خردة، أعيد تأهيلها على عجل في التسعينيات، وجهزت بأنظمة قيادة تحرم على أي ربان التحليق المنتظم الآمن، والقيادة الراشدة في الأوقات العادية، فكيف حين تدخل الأعاصير. * اللفيف الداعي للمقاطعة كما الفريق الذي اعتاد على دور الأرانب، ومعهما فريق السلطة نجحوا فعلا في تحويل هذه الاستحقاقات إلى أعراس لزواج المتعة بالسلطة يعقد خارج النص، وبتحلل من أركانه حيث لا مهر ولا مقدم صداق، ولا ولي ولا شاهد،ولا ثيب تًَسأل وتُسأل، ولا بكر يرضى عنها بأقل من الصمت على المكاره، وغض الطرف عن عيوب العريس.