..من مرحلة لمرحلة، كان الشاب يأخذ وقتا ليحسب السنوات مقارنة بسنه وأطوار تمدرسه، وأنا أنتظر معه ليرتب أفكاره حتى وصل بعد أحداث إلى عودة عائلته إلى العاصمة لبيتها بالحي العتيق بعد اشتداد الخراب والتقتيل وسط التسعينيات، أين التحق المراهق بمدرسة ابراهيم فاتح بالقرب من مستشفى آيت إدير. * ويذكر بسرور دفين تأثره بأخلاق أستاذ العربية الذي كان يدرس التربية الإسلامية أيضا، وإلى أي درجة كان الرجل فاضلا وكان يبذل كل ما لديه ليصل بتلاميذه إلى الفهم الجيد للدروس، ولم تذهب عن ذهنه دروس التربية التي كان يذكر فيها الأستاذ القيم الإسلامية والقواعد والواجبات، لكنه يعترف انه لم يحس نفسه معني بها كعقيدة. كل ذلك خلق في داخله جملة من التناقضات بين صورة الأستاذ الفاضل مقابل صورة القس البسكري الذي كان يتحين الفرص ليلامس جسد الصبي، وبين ما كان يتعلم من المسيحيين وأفكارهم مقابل ما يلقنه الأستاذ في التربية الإسلامية ليخلق عنده مخزونا من الأفكار تصارع بعضها وقيما تتناطح مع أن يومياته كانت التزاما يتنامى يوما عن يوم باتجاه العقيدة المسيحية بمعية قريبة كانت تأخذه باستمرار إلى مكتبة رضا حوحو وسط العاصمة، أين كان يقرأ المسيحيون كتب المسيحية ويتعارفون. * * المال والنفوذ والفقراء مؤمنون من درجة ثانية * ومع الانتقال إلى الثانوية مرّ الشاب بمرحلة أخرى حين تعرفت القريبة على "محمود.ح" صاحب مكتب محاسبة بتليملي "بناية لايروأبيتا"، سيد مقتدر، تمسّح في الجزائر وتزوج من الكنيسة في ديدوش مراد، ويغوص الشاب وسط ذكرياته ليتذكر ما فعله محمود "في سبيل" المسيحيين، فقد تكفل بتدريسهم وشرح الإنجيل لهم داخل مكتبه، كان يتصرف فيهم مثل الأمير يفعل ما يريد ويقرر عنهم ما يريد، بنى فيلا بالسحاولة كانت في الظاهر سكنا وفي الباطن مكانا للعبادة خارج مراقبة الدولة، وكان باتصال قريب مع كنيسة تيزي وزو وبجاية، وكان يقيم الصلوات المسيحية يوم الجمعة والسبت والأحد، بينما يخصص الثلاثاء لدراسة الكلمة المقدسة، ويقيم القداس بمناسبة أعياد الميلاد وعيد الفصح، وأصبح الوافدون يلتحقون في كل مرة أكثر، لأنه أصبح لديهم عنوانا يقصدونه بدل التشتت، فأصبح نفوذ محمود يقوى والأموال تتهاطل عليه من الداخل والخارج، من مسيحيين ومغتربين الذين ساهموا بقسط وفير في دعم التنصير حسب بعض ما ذكره المتحدث. * هذه المرحلة تركت أثرا في الشاب الذي لم يعد صبيا ينبهر بالأضواء، بل أصبح مسيحيا "مؤمنا" يطبق تعاليم المسيحية ومنخرطا في المجموعة، وأصبح مميزا، يحلل ما يدور حوله من أحداث، وهنا يقول بمرارة "هم يتعاملون بينهم بمنطق المال والقوة والنفوذ، الغني لديهم محبب والفقير لا مكان له"، ويتذكر كيف كان يعمل هو وباقي "المؤمنين" الفقراء "كنا نقوم بكل ما يطلبه منا محمود ولا نملك الحق في مناقشة أي أمر، فهو لم يكن يطبق الإنجيل على نفسه وكان لا يقبل النصح من المؤمنين مثلما ينص عليه الإنجيل، استحوذ على كل شيء لنفسه، فهو بذرة لم تطرح بذورا مثلما علمنا في الإنجيل"!! * * "كيف تبشر" و"كيف تعيش مسيحيا وسط المسلمين؟" * لكن ما يحرص عليه مسؤوليهم هو التكوين في العقيدة، ومن ذلك أن محدثي درس في كنيسة "ثافات" بتيزي وزو الموجودة قبالة السجن لمدة سنة أمور العقيدة المسيحية وبالخصوص "كيف تبشر" و"كيف تعيش مسيحيا وسط المسلمين"، وهذه تلقن لجميع المسيحيين تقريبا، لأن مسيحيتهم تلزمهم بالتأثير في محيطهم. وبعد ساعات من الحديث وأنا منهمكة بنقل أكبر كم من شهادته، انتبه زميلي إلياس من القسم الرياضي بأن الشاب قد نشف ريقه، وسأله إذا كان يريد أن يشرب، فقال نعم، وذهب إلياس وأحضر له قارورة ماء وكوب، فشرب واستراح قليلا، وكنت خلالها أنظر إليه وأتمعن في هذا الشاب الذي يشبه كل أبناء سنه، وأقول في نفسي كيف يمكنه أن يعتقد في غير الإسلام وهو بين عائلة مسلمة وفي محيط مسلم، وكيف يمكن لهؤلاء أن يفعلوا كل هذا في سرية؟ فهو من مواليد 1983، تماما في مثل سن أخي خالد الذي رافقني لحج بيت الله الحرام هذه السنة، كيف لعائلته أن تتركه على هذه العقيدة لو كانت تعلم بأمره؟ وإذا كانت لا تعلم فالأمر أدهى وأمر؟.. ألم يلاحظ عليه رفاقه كل هذا الاختلاف؟ ألم يراقب تصرفاته أحد؟ ألم يتبع خطاه أحد ليرى أين يذهب وماذا يفعل؟ أسئلة كثيرة كانت تتزاحم في رأسي، لكنني ما كنت أطرح منها إلا ما استطعت، لأنني كنت أحس بحرجه الكبير وهو يروي لي قصته مع المسيحية. * * المسلم بداخله يستنجد!! * سألت صاحب خبرة 20 سنة في ممارسة المسيحية "هل يستحق الأمر الخروج من الإسلام لاعتناق المسيحية؟، ليرد دون تردد "لا أظن، لأن كثيرين ضاعوا واتخذوا سبيل الانحراف بسبب اختلاط العقائد عليهم"، لأضيف "هل تفضل لو كنت مسلما مثل بقية الجزائريين؟"، ليرد أيضا "الجزائر بلد الإسلام، وأي عقيدة أخرى يعني مخالفة الطبيعة"، فقلت "وماذا تنصح الشباب المقبل على التنصير بسبب الفراغ؟"، فرد علي "ليت كل واحد يراجع نفسه قبل الإقبال على النصرانية، رغم الحاجة لا بد أن يسأل الإنسان الله العون والفرج، لأن الحاجة لا تساوي أبدا الخروج من الملة". فأردفت "هل دخلت مسجدا، وهل تشهد مثلنا"؟ فقال "لم أنطق بالشهادة في حياتي ودخول المسجد يخيفني"، وكنت سأضيف، ليوقفني "أتذكر جيدا زلزال 2003 عندما بدأت أنادي يا محمد! يا محمد! وأنا أبحث عن الأمان والطمأنينة من شده الفزع".. فقلت والدمع في عيناي أتعلم لماذا قلت يا محمد يا محمد؟؟ فسكت يبحلق فيَّ لأول مرة منذ بداية الحديث "أنت مسلم بالفطرة وولدت مسلما وضللت طريقك، فأبواك مسلمان وفطرتك تناديك والمسلم داخلك يستنجد، لأنك لم تعطه فرصة للخروج إلى النور...". وهذه الكلمات مني أسكتت لسانه ووقف يستعد للخروج وهو مذهول من ختام الحديث، وكأنه لم يسمع من قبل أنه مسلم بالفطرة، فطلبت منه أن يعطي نفسه فرصة لتعلم الإسلام، ودعوت الله "اللهم أهد قلبه لنور الإيمان ورده إلى الإسلام ردا جميلا"، ومنذ ذلك اليوم وأمنيتي أن ينطق الشهادتين بحضوري ونسيت أن أوصيه بهذا، لأنه ذهب ولم يترك لي بياناته، لكن ربما يتحقق ذلك، قولوا... آمين. *