أظهرت الحملة الانتخابية للرئاسيات، التي انطلقت منذ حوالي عشرة أيام، أن السياسة عندنا تعني أنه يمكنك أن تقول ما تشاء دون أن تجد من يقول لك: قف، قليل من الاحترام من فضلك! ممارسة السياسة بهذا الشكل يعني ببساطة "اللاّسياسة" فشتان بين حملة انتخابية لاعتلاء منصب القاضي الأول في البلاد ومهرجانات شبيهة ب"سيرك عمار". * هل ما يقوله منشطو الحملة الانتخابية هي حقائق أم كلام مباح أريد له أن يكون لإضفاء شيء من الزهو على العرس الانتخابي؟ قد يبدو السؤال غريبا لكنه جدير بأن يطرح، بالنظر إلى أن أشياء كثيرة قالها المنشطون أينما حلوا وارتحلوا ومروا عليها مرور الكرام ولم يسألهم أحد كيف؟ ولماذا؟ ومن المسؤول؟. لنأخذ تصريحا لموسى تواتي قال فيه إن »السلطة رشت التجار والمقاولين والفلاحين«. وهذا في الحقيقة تهمة ينبغي أن تفتح حولها تحقيقات نظرا لخطورة هذا العمل. ومن جهته قال بوتفليقة إنه »سيخلق 3 ملايين منصب شغل« هل هذا ممكن؟ وكيف؟ هل تم خلق مليوني منصب شغل وبناء مليون سكن؟ كيف يمكن أن نتحقق من ذلك؟ وقال خلال زيارته لتيزي وزو إنه »يجهل لحد الآن الأسباب التي حركت أحداث منطقة القبائل«. فمن يدري بهذه الأحداث إن كان المسؤول الأول للبلاد لا يعرف؟! * ولنأخذ ما تقوله لويزة حنون في مهرجاناتها بحيث تعد بوقف الخوصصة وإعادة تأميم المؤسسات وإعادة العمال المسرحين إلى مناصب عملهم... هل هذه الأفكار ممكنة التطبيق اليوم بعد قرابة عشريتين من انهيار المعسكر الاشتراكي؟ * نفس الشيء يقال عن كلام منشطي الحملة الانتخابية الآخرين بمن فيهم مسؤولي أحزاب آخرين ووزراء... كلٌّ يقول ما يحلو له وينصرف، في انتظار تجمع آخر ليردد ذات الكلام. * يقال إن السياسة هي فن الممكن، ولكنها ليست فن الكذب. ففي المجتمعات المتقدمة ديمقراطيا عادة ما يسعى المرشحون لجذب الناخبين بوعود انتخابية، لكنهم يملكون القدرة على تبرير ما يعتزمون فعله لو ربحوا الانتخاب، كما أنهم لا يجرؤون أبدا على تقديم وعود غير منطقية لأنهم يدركون أن ذلك سيجلب لهم الطوفان، فأي كلمة تصدر عن أي مسؤول تلتقطها الصحافة وتكون محل تدقيق ونقاش عام في المجتمع سيحدد مستقبله السياسي ومصيره، بحيث قد يزج بنفسه في حالة بطالة دائمة. أما إذا وجه تهما معيّنة لمؤسسة أو شخص، فإن السلطات القضائية سوف تتحرك لتحقق وتحدد المسؤوليات وتنزل عقوبات القانون عن المذنبين.. * الساسة عندنا يقولون ما يحلو لهم، لا أحد يطالبهم بالبرهنة على صحة ما يقولون، رغم أنهم يمارسون السياسة بتمويل من الخزينة العمومية، أي بأموال الجزائريين. وعندما تكون الحياة السياسة مبنية على منافسة غير حقيقية فإن السياسيين لا يخافون على مستقبلهم السياسي، لأنه حتى ولو حصلوا على واحد بالمائة أو أقل من الواحد فلن ينسحبوا وسيرددون نفس الهراء في الموعد الانتخابي الموالي. وحتى وإن اتهموا أناسا وأعطوا أرقاما خاطئة فلا أحد يحاسبهم.. * ليس من حق السياسي أن يقول أي كلام ثم ينصرف، فالسياسة هي مسؤولية قبل كل شيء، هذا إن كنا فعلا في حملة انتخابية لاعتلاء منصب القاضي الأول في البلاد، أما إذا كنا في »سيرك عمار« فيصبح الأمر مفهوما. وربما أن من بين إخفاقات نظامنا السياسي هو أنه يمنح للناس مراتب ومسؤوليات ضخمة من دون أن يخضعهم لأدنى إجراءات المحاسبة، فيتمتعون بالمزايا ثم يرحلون تبعا لمقولة »أنا وبعدي الطوفان«، وهذا على خلاف الأنظمة الديمقراطية التي تجعل منصب المسؤولية مقرونا بالمحاسبة (Accountability). والكلام ينطبق على تسيير الأحزاب والجمعيات والوزارات وغيرها. * وحتى وإن انشغل الجزائريون أكثر بمتاعبهم اليومية وبتعقيدات الحياة الاجتماعية في السنوات الأخيرة، لكنهم سوف يتعاطون إيجابيا مع السياسة لو وجدوا قليلا من الجدية لدى السياسيين، ولما احتاجت السلطة إلى تجنيد الإدارة وشيوخ الزوايا ورجال الدين وغيرهم لدعوة الناس للمشاركة في الانتخاب القادم. * وعليه، لا ينبغي أن نذهب بعيدا لتفسير ظاهرة عزوف الناس عن السياسة، فالأطر الحالية المتوفرة للتعبير السياسي تظل غير جذابة ومثيرة للشفقة وبالتالي هي منفرة. لست أدري كيف يمكن أن نقنع إطارا جزائريا بالانخراط في حزب معيّن وهو يرى كثيرا من الوجوه السياسية رهينة خطاب قديم خالٍ من المنطق وحقائق القرن الواحد والعشرين وليسوا قادرين حتى على مخاطبة الناس بأسلوب مقنع من خلال تدخلاتهم في التلفزيون؟؟ لا ننسى أن الأنترنيت وفر للناس كل المعطيات عن التطورات الحاصلة في العالم، وليس سهلا إقناع الناس بالخطب الفارغة والعارية من الحقائق. * لكن عندما نبني حياة سياسية لا تجذب المجتمع، لأنه لا يرى أنها تعبر عن مصالحه ويحقق من خلالها انشغالاته، ينبغي تصور الأضرار التي ستنجم عن ذلك. سوف نشهد عزوف الناس عن الانخراط، وبالتالي الاعتراف بالأطر السياسية الحالية، وهو ما يعني هروب المجتمع وانكفائه على نفسه، وربما، وهذا يحمل مخاطر، انزلاقه للتعبير بوسائل أخرى كالعنف مثلا.