بعد أجيال من الآن..هل سيعيد التاريخ نفسه مع أبناء التائبين؟ ألقت علينا تباشير المصالحة الوطنية بحزمة من التبعات الخطيرة التي تحاشى مرشحو الرئاسة الستة الغوص فيها أو الحديث عنها، لما تحيط بها من ألغام سياسية ونفسية قد تتحول إلى قنابل موقوتة في القادم من الأيام. * المرشحون الستة وخلال حملتهم الانتخابية لإقناع 20 مليون ناخب جزائري بجدوى الانتخابات الرئاسية، صالوا وجالوا وطافوا على ملف المصالحة دون أن تكون لأحدهم كامل الشجاعة، ليقول لنا كيف نقضي نهائيا على هذا الفكر المتطرف الذي يدفع أبناءنا إلى الجبال في سن الأطفال، ليعودوا لنا بأحزمة ناسفة يفجرون أنفسهم في المدن والقرى والطرقات. لم يقل لنا أحدهم (المترشحون) خطته لمحاصرة الفكر المتطرف في المدارس والمساجد والأحياء الشعبية الفقيرة، ولم يتحدث أحد أن مستقبل الحوار الفكري الشرعي والسياسي الذي من شأنه إقناع الشباب بأن الصعود إلى الجبال هو إرهاب وليس جهاد، لم يتحدث أحد عن مستقبل أبناء الإرهابيين التائبين، وكيف يمكن التكفل بهم اجتماعيا ونفسيا وتربويا لتخلصهم من عقدة الماضي التعيس لآبائهم، كما لم يخرج علينا أحد بدراسة اجتماعية أو قانونية تصل بالمصالحة إلى مداها ومنتهاها، وتضع حدا للحرب النفسية المبيتة بين أطراف الأزمة وضحاياها والأجيال القادمة التي -لا قدر الله- قد تدفع ثمنها... ونظير ذلك اقتصر السجال بين مترشحي الرئاسة حول موضوع العفو الشامل الذي أراد به البعض ريعا انتخابيا -مسموحا- فمن يطالب بالعفو الشامل بالجملة والقطيع، لا يمكن أن يكون مستوعبا لخطورة هكذا قرار يسمح لجزاري المجازر الجماعية بالعودة أبطالا إلى المجتمع دون محاكمة أو عقاب، وكيف لجيل مفجوع في ذاكرته ومشاعره أن يتقبل رؤوس القتل والإبادة والتنكيل التي حملتها صور »الغارات« الجماعية ضد سكان القرى والمداشر على مدار عشرية كاملة... كيف لهذا الجيل أن يتقبل هؤلاء قبل ركوعهم بين يديه معترفين نادمين وصاغرين على ما صنعوا بهذا الشعب البائس؟!.. وحتى المترشحين الذين رفضوا رفضا قاطعا العفو الشامل، لم يقدموا بين يدي الشعب حلا مقنعا لهذه المعضلة، التي تحول دون التحاق عتاة الإرهاب بمسعى المصالحة، حتى وهم يواجهون إفلاسا متعددا في مغاراتهم بالجبال.. * أما الآن وقد حسمت الانتخابات واختار الشعب رئيسه فقد بات من الضروري الحديث عن الملفات الكبرى التي ينتظر الشعب استكمالها خلال العهدة الجديدة، وعلى رأسها استقبال مسعى المصالحة دون المساس بوحدة المجتمع ومشاعره ودون السقوط في فخ »الحڤرة« والتسلط والهروب نحو الأمام وأحيانا نحو الخلف تفاديا لمواجهة الحقيقة ومعالجة المرض من جذوره بدل مداواة أعراضه العارضة.. * نعم لا بد من استدراج المغرر بهم إلى جادة الصواب، واستدراج حتى رؤوس الإرهاب الذين يقومون بالإغواء والتجنيد، وإعطاء الفرصة كاملة للتائبين حتى يقنعوا زملاءهم بكفر ما يفعلون وبطلان ما يعتقدونه من انحرافات فكرية وشرعية، وفي المقابل لا بد أن لا نهين »دولة القانون« حتى وإن كانت مجرد حلم يتوق له الجزائريون، يجب أن تكون العدالة الجزائرية معنية بمفاصل هذا الملف لتغلقه بالطريقة التي تدفن الأحقاد ولا تؤجلها، تحقن الدماء ولا تكتفي بتجفيفها، تزيل العداوات ولا تتجاهلها، تفكر في أبناء التائبين وعائلاتهم مثلما تفكر في أبناء الضحايا وعائلاتهم، تدرس تبعات المستقبل وتفكك عقده مثلما تدرس متطلبات الحاضر لاحتواء كل الضحايا والمغرر بهم والمحتقنين نفسيا واجتماعيا.. * هكذا أزمة وهكذا تعقيدات لا يمكن تذليلها دون مشورة الخبراء والمختصين والنفسانيين ودون قراءة تجارب الدول الأخرى التي عانت ما عانيناه من إرهاب وتطرف، وإذا لم تؤخذ المسألة بهذه الجدية ولم ينظر إلى المستقبل بعين الحذر والحيطة والاستعداد، فإن الأيام القادمة عبر الأجيال المتعاقبة قد تخفي ما لا يحبه أحد ولا يرضاه للبلد والمجتمع.. لا نريد أن »يتعاير« أبناء الجزائريين بعد 20 أو 30 سنة بماضي آبائهم حتى وإن أجرم هؤلاء الآباء في حق المجتمع، إلا أن شجاعة المصالحة التي أطلقها الرئيس تقتضي أن نطوي آلام الماضي ولا نترك منها ما يتخمر فيحيي بعد عقود وسنوات.. لا نريد أن يأتي يوم يعامل فيه أبناء التائبين كما عومل أبناء الحركى على الأقل، لأن هؤلاء التائبين قد عادوا إلى صوابهم، واعترفوا بجرمهم في حق البلد بينما لم يفعلها الحركى وأعوان وأصدقاء فرنسا إلى اليوم؟! * الخبراء والمختصون وحدهم من يمكن أن يضبطوا لنا خارطة طريق لنزع ألغام المستقبل، شريطة أن تعطى لهم خارطة الألغام الحقيقية وليس مثلما فعلت فرنسا عندما أعطت الجزائر خارطة مغلوطة عن الألغام المزروعة في بلادنا، ومثلما كانت للرئيس بوتفليقة الشجاعة في إطلاق المصالحة في وقت كانت مقرونة بالإرهاب مثلما ينتظر الشعب أن تستمر هذه الشجاعة لغلق ملف التائبين والمجندين والمغرر بهم والأمراء وعتاة الإرهاب مهما كانت خطورة التعاطي معهم، حتى وإن استدعى الأمر إعطاء الأولوية لسيف الحجاج ليقتلع ما فشلت المصالحة في اقتلاعه من أدران وأورام. *