قدمت إيران صورة كاريكاتورية للدول المتخلفة سياسيا بمناسبة الانتخابات الرئاسية التي فاز بها رسميا السيد محمود أحمدي نجاد منتصف الشهر الجاري، فبعد حملة انتخابية مفتوحة ومقبولة، جاء الإعلان عن النتائج ليفتح الباب أمام احتجاج المرشح مير محمد موساوي، الذي اعتبر أن السلطة الحاكمة قامت بتزوير شامل للانتخابات، ولأول مرة منذ عشر سنوات، تحرك الشارع الإيراني بقوة، وانتشرت دائرة الاحتجاجات لتشمل مدنا عديدة وأحياء من العاصمة طهران، وانتشر العنف تدريجيا في مسلسل أصبح يهدد استقرار البلاد. * وظهرت السلطة الإيرانية بالصورة التقليدية للأنظمة المتسلطة. فقد قامت بغلق إحدى شبكات الهاتف النقال لتمنع المعارضة من تنظيم الاحتجاجات، وحاولت التحكم في شبكة الأنترنات التي انتشرت بطريقة مكثفة في إيران مع وجود حوالي عشرين مليون مشارك وأربع مائة ألف مدونة blog، قبل أن تعلن الداخلية الإيرانية عن منع مظاهرات المعارضة. وأطلقت السلطة الإيرانية العنان لقوى القمع من ميليشيات حراس الثورة والبسيج، إلى أن سقطت ضحايا برصاص قوات الأمن. * واستطاعت إيران في نهاية المطاف أن تحقق ثلاثة أهداف لصالح أعدائها, فقد قضت على الديمقراطية الشكلية التي كانت تظهر بها من خلال تنظيم الانتخابات، وأزالت الخوف الذي كان يسيطر على الشارع حيث اكتشف المجتمع الإيراني من جديد أنه يستطيع أن يؤثر على مجريات الأمور، وأكدت إيران أن خلافا حادا يدور داخل النظام بين مجموعات وكتل تختلف سياسيا وتتضارب في المصالح. * ولما تأزم الوضع، استولت الصحافة الغربية على النزاع، وجعلت منه أكبر حدث في العالم. وقالت تلك الصحافة أن سلطة أهل اللثام أكدت مرة أخرى أنها لا تحترم حرية المواطنين، وأنها مستعدة لاستعمال كل الوسائل للبقاء في السلطة، سواء بالقمع أو اغتيال المعارضين. ولم تتردد تلك السلطة فعلا قي اتخاذ تدابير تنتهك صراحة حقوق المعارضة التي وجدت نفسها ممنوعة من الاحتجاج، مما يدفعها إلى تجاوز القانون للدفاع عن حقوقها. * ويقول أنصار أحمدي نجاد أن أطراف داخلية وخارجية تحاول تحريك الشارع لضرب استقرار البلاد. * ومن المعروف فعلا أن إيران توجد في حالة حصار، فهي في نزاع متواصل مع أمريكا منذ ثلاثة عقود. وقد فرضت أمريكا حروبا على الحدود الشرقيةوالغربيةلإيران، في أفغانستان والعراق، إضافة إلى ذلك، فإن أمريكا في عهد الرئيس السابق جورج بوش كانت تدرس إمكانية قصف إيران لمنعها من تطوير صناعتها النووية، ومازال احتمال قصف إسرائيلي لإيران بنفس الحجة قائما. وقبل أن يغادر البيت الأبيض، كان الرئيس بوش قد خصص 200 مليون دولار للعمليات التي تهدف إلى ضرب استقرار إيران. * وحتى يكتمل الأمر، فإن خبراء التنديد في أوربا، وعلى رأسهم "الفيلسوف" برنار هنري ليفي قد تحركوا مجددا للتنديد بما يقع في إيران، بعد أن سكتوا عن تدمير غزة. وهذا يكفي للقول أن هناك عملية سياسية وإعلامية مدبرة تهدف في الحقيقة إلى ضرب استقرار إيران وتحضير الرأي العام لجريمة قد يتم ارتكابها ضده. * ويمكن من جهة أخرى أن نتكلم مطولا عن الخلافات داخل السلطة الإيرانية، بين كتلة يتزعمها علي خامنئي وأحمدي نجاد، يقال عنها أنها محافظة ومتشددة ورافضة لأي تفتح، وكتلة أخرى تتشكل من المرشح موساوي والرئيسين السابقين محمد خاتمي وهاشمي رفسنجاني، كما أنه ممكن أن نتكلم عن تطور في المجتمع الإيراني أدى إلى ظهور فئات جديدة ترفض انغلاق السلطة الحاكمة وتطالب بالتفتح نحو المجتمع ونحو العالم. * ومن الأسهل أن نكتفي بالقول أن ما يحدث في إيران لا يشكل إلا عملية سياسية مدبرة من الخارج، تهدف إلى تغيير النظام في طهران، أو على الأقل الضغط عليه للحصول على تنازلات في المرحلة القادمة. ولم يتردد البعض عن القول أن هناك محاولة لفرض ثورة "خضراء" مثل تلك الثورات الملونة التي جرت في الماضي في أكرانيا وجورجيا وغيرها. * لكن الواقع يقول كذلك أن إيران نفسها، مثل عدد من البلدان العربية والإفريقية، أعطت الفرصة لهذه العمليات بسبب انتخابات غير شفافة، وتصرف غير مقبول تجاه المعارضة التي تريد أن تمارس حقها في الاحتجاج. وإذا توسعت دائرة الاحتجاج، ودخلت إيران أزمة كبرى، فإن المتسبب الأول فيها هو السلطة الحاكمة، التي ترفض أن تأخذ بعين الاعتبار رغبة جزء من الشعب الإيراني في التغيير، حتى ولو أن السيد أحمدي نجاد فاز بالانتخابات. وتؤكد التجربة الإيرانية أن الأنظمة المتسلطة تشكل أحسن مطية نستعملها القوى الأجنبية للتدخل في شؤون البلاد.