أغرب رئيس "فرنسي" شكل الرئيس الفرنسي منذ اعتلائه سدة الحكم ظاهرة سياسية متميزة ومثيرة للجدل على أكثر من صعيد، فهو السياسي المتمرس الذي درج على اللعب تحت الطاولة وحاول أن يصنع لنفسه مكانا وسط كواكب وفواعل مهمة في المشهد السياسي لبلد تميّز على طول مساره بالكثير من الانجازات وأيضا بالعديد من البقع السوداء التي مازالت وصمة عار على جبين كل من ينتسب إليه. * كما أن لا أحد كان يراهن على هذا الولد الذي قدم به والده من بلد قابع في التخلف في أوروبا الشرقية، لكي يصبح زعيما سياسيا صفق له النبلاء والأشراف في فرنسا نابليون ولويس التاسع قبل العامة من الناس، لكن نيكولا كان ولايزال أسير العقد التي ما فتئت تلاحقه سواء في حياته الخاصة أو في مساراته السياسية، فقد تزوج سيسيليا وأنجب منها، وقال إنها نصفه الآخر الذي لا يمكن أن يعيش بدونه، لكنه فعلها وطلّقها بعد أن أوصلته إلى قمة المجد، ووفّرت له الحماية والحصانة، فهي تنحدر من عائلة فرنسية عريقة ومحسوبة على شجرة النبل الفرنسي، وهو كان يعقدا من كل هذه الأشياء، وأثبت مرة أخرى بأنه مارد وماكر ولعوب من طراز رفيع. * وما إن تعرف على عارضة الأزياء والمغنية ذات الأصل الإيطالي حتى نسي من يكون وسارع إلى الارتباط بها، وذلك على الرغم من معرفته بأنه دخيل على الأمة الفرنسية و"كارلا" هي الأخرى أكثر من دخيلة، ومع ذلك اقترن بها وأقنع معارضيه من الطبقة السياسية وأطياف المجتمع المدني بأنه لا حرج من أن تكون السيدة الأولى من أصول غير فرنسية، وكانت هذه أقوى لحظات التحول باتجاه مشاهد أكثر ابتذالا. * فساركو، كما يحلو للصحافة الفرنسية مناداته، برز سهمه في التيار اليميني ولعب على أكثر من حبل لكي يصل إلى القمة، فقد تعلم من "إدوار بلادير" فن إدارة المناورات وفك شفرة لعبة الابتزازات، وساعدته الظروف في أن يتحول من لاعب احتياطي في الحكم والسياسة إلى فاعل يقترب من الأساس، فكانت الدسائس والمكر هما عملته المفضلة، فلم يحترم وقار "شيراك" ولا أخلاقية »دوفيلبان«، وعمل كل ما في وسعه لأن يحيّد هذا الأخير عن سباق الرئاسيات نحو الإيليزيه، فخلال اشتغاله كوزير للمالية أو الداخلية، تمكن من نسج معطف خاص بشخصه لا يمكن لغيره أن يلبسه، فقد عرف من البداية أن الغاية تبرر الوسيلة، وأن أسلم طريق للوصول هي مد اليد للأمريكان وتجريب النوستالجية مع جذوره اليهودية، وهي كلها قوالب ساهمت في تقديمه إلى الشعب الفرنسي على أنه نابليون الجديد الذي سوف يقود فرنسا الجريحة والمتعبة إلى بر الأمان، ويأخذ مكان غريمه توني بلير في قلب الديناصور بوش في تلك الفترة، ومن ثم تعود فرنسا إلى الواجهة ويتحرك الاقتصاد باتجاه آفاق أكثر إيجابية، وحينها نتذكر جميعا أن كل مراكز صنع القرار ومعها مراكز سبر الآراء قدمت نيكولا على أنه الرئيس الأكثر شعبية في تاريخ فرنسا، وحتى سمعة وكاريزمية »جورج بونبيدو« لم تنافس هذا الزعيم الحيوي، لدرجة أن صحفا وقنوات أصبحت تقدم ليل نهار يوميات هذا الرئيس المغرور، لكن مع الوقت تبيّن أن كل هذه الطقوس التي قدم فيها ليست إلا أوهام وأكاذيب مهربة من عمق معاناة شعب السين، وأن ساركوزي الذي يحب التبجح ليس إلا تمثالا من ورق لا يقوى على الصمود أمام الرياح القوية. * أولى تلك الزوابع كانت الأزمة المالية، حيث كان اقتصاد فرنسا هو الأكثر تأثرا من بين الاقتصادات الغربية الأخرى، وحينها بدا الرئيس الغارق في حب الجميلة »بروني« في صورة شاحبة، يلجأ تارة إلى مغازلة البرلمان الذي فقد فيه نصف من كانوا يدعمونه، وتارة أخرى يسعى جاهدا عبر قنوات التلفزيون الرئيسية إلى إقناع المواطنين بأن الأزمة عابرة، وأن فرنسا تملك الحلول، لكن مع الوقت شعر الفرنسيون بأنهم ارتكبوا حماقة عندما سلموا فرنسا إلى غريب، فكان أن أصبحت بلاد الجن والملائكة ألعوبة لدى الأمريكان ومضحكة بين شعوب القارة العجوز، وبدأت التقارير تصل تباعا فهذه رشاوى وهذه عمولات وأخرى تورطات في فضائح مالية وصفقات مشبوهة كان آخرها مقتل إحدى عشر فرنسيا في باكستان بسبب أخطاء لا يمكن أن ترتكب في بلد بحجم فرنسا، فهذا قليل من كثير قدمناه للقراء عن هذا الشخص الذي يشغل مرتبة رئيس لدولة نكرة الآن في المشهد الدولي... ويسعى جاهدا إلى تلطيخ بلد الشهداء، والجيش الوطني الذي هو حامي هذه البلاد، وصانع مجدها، فالرهبان الذين اغتيلوا ليسوا أحسن من مليون ونصف المليون من الأشاوس الذين نكلت بهم وقتلتهم فرنسا المجرمة. * وفي الوقت الذي كنا نعتقد أن ضمير هذه البلاد التي تدعي دائما أنها مهد الحرية والمساواة، وتعترف بجرائمها راحت تسعى لإثارة البلبلة ومعاداة طريق الحق، فالنبش ليس في صالح ساركوزي، لأن نتيجته ستكون وخيمة، ثم إن نيكولا التائه بين رغبته الجامحة لأن يجلب المزيد من الدولارات لاقتصاده المفلس، وشعوره بأن أمما أخرى بدأت تسيطر بقوة وتأخذ المواقع التي كانت في السابق تعتبر خصوصية فرنسية، فالصين وروسيا واليابان فهمت سياسة الجزائر البراغماتية وحضرت إلينا بقوة، أما باريس فقد بقيت مثل الفتاة التي تنتظر الفارس الذي سيحملها على الحصان الأبيض، فخسرت كل شيء، وشعرت بأن جزائر الثمانينيات التي كانت تصاب بالزكام إذا هب هواء بارد في باريس أو مارسيليا، تغيّرت وأن عيالها كبروا وصاروا يميزون بين التاريخ والحاضر الذي يجب أن يبنى على قيم براغماتية ومنافع تبادلية، وإلا فمن الأحسن أن تتوقف رسائل ودعوات النفاق. * اتهام فرنسا لنا بأننا قتلنا رهبانييها، سببه الأساسي هو المخابرات الفرنسية التي ظلت تساعد قتلة الشعب المعزول بالمال والسلاح، وتروج بأن ما يقع في الجزائر هو حرب أهلية، بين نظام جائر وشعب محڤور، عجبا أن يتحول الجاني إلى داعية حق وفضيلة، فنحن في بلادنا يا سفير فرنسابالجزائر رضعنا من صدور أمهاتنا حليبا نقيا لكنه ممزوج بكره فرنسا، وأن الخير كما علمنا الأجداد لن يأتي أبدا من هذه البلاد التي يجمعنا بها إرث مليء بحمامات الدم والدموع، كما أن ساركوزي اللاهث وراء أطماعه بشأن الحصول على السيولة المالية وتحضير الأرضية لكي تنطلق عملية التطبيع مع إسرائيل من منطقة المغرب العربي، عليه أن يعي بأن هذا غير ممكن، فنحن الجزائريون تعودنا جيدا وتمرسنا في كيفية التعامل مع الأفاعي، لاسيما عندما تكون يافعة ومتيمة بحب »كارلا«، فرويدا يا ساركو، ولتبقِ شيئا من الحياء عندما تتكلم مع الأمم الكبيرة، فجيشنا هو سلاحنا ولتذهب ادعاءاتكم إلى البحر، ولن نتنازل عن خياراتنا وقناعاتنا لأنها حقوق محفوظة للشهداء وفقط.