الألعاب الإفريقية العسكرية: الجزائرتتوج بالذهبية على حساب الكاميرون 1-0    لبنان : ارتفاع حصيلة العدوان الصهيوني إلى 3670 شهيدا و 15413 مصابا    "كوب 29": التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداعيات تغير المناخ    الغديوي: الجزائر ما تزال معقلا للثوار    مولودية وهران تسقط في فخ التعادل    مولوجي ترافق الفرق المختصة    قرعة استثنائية للحج    الجزائر تحتضن الدورة الأولى ليوم الريف : جمهورية الريف تحوز الشرعية والمشروعية لاستعادة ما سلب منها    المحترف للتزييف وقع في شر أعماله : مسرحية فرنسية شريرة… وصنصال دمية مناسبة    جبهة المستقبل تحذّر من تكالب متزايد ومتواصل:"أبواق التاريخ الأليم لفرنسا يحاولون المساس بتاريخ وحاضر الجزائر"    تلمسان: تتويج فنانين من الجزائر وباكستان في المسابقة الدولية للمنمنمات وفن الزخرفة    مذكرات اعتقال مسؤولين صهاينة: هيومن رايتس ووتش تدعو المجتمع الدولي إلى دعم المحكمة الجنائية الدولية    قرار الجنائية الدولية سيعزل نتنياهو وغالانت دوليا    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي عائلة الفقيد    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي في وفاة الصحفي محمد إسماعين    الجزائر محطة مهمة في كفاح ياسر عرفات من أجل فلسطين    الجزائر مستهدفة نتيجة مواقفها الثابتة    التعبئة الوطنية لمواجهة أبواق التاريخ الأليم لفرنسا    تعزيز روح المبادرة لدى الشباب لتجسيد مشاريع استثمارية    حجز 4 كلغ من الكيف المعالج بزرالدة    45 مليار لتجسيد 35 مشروعا تنمويا خلال 2025    47 قتيلا و246 جريح خلال أسبوع    مخطط التسيير المندمج للمناطق الساحلية بسكيكدة    دورة للتأهيل الجامعي بداية من 3 ديسمبر المقبل    نيوكاستل الإنجليزي يصر على ضم إبراهيم مازة    السباعي الجزائري في المنعرج الأخير من التدريبات    سيدات الجزائر ضمن مجموعة صعبة رفقة تونس    البطولة العربية للكانوي كاياك والباراكانوي: ابراهيم قندوز يمنح الجزائر الميدالية الذهبية التاسعة    4 أفلام جزائرية في الدورة 35    "السريالي المعتوه".. محاولة لتقفي العالم من منظور خرق    ملتقى "سردية الشعر الجزائري المعاصر من الحس الجمالي إلى الحس الصوفي"    الشروع في أشغال الحفر ومخطط مروري لتحويل السير    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    اللواء فضيل قائداً للناحية الثالثة    الأمين العام لوزارة الفلاحة : التمور الجزائرية تصدر نحو أزيد من 90 بلدا عبر القارات    السلطات تتحرّك لزيادة الصّادرات    وزارة الداخلية: إطلاق حملة وطنية تحسيسية لمرافقة عملية تثبيت كواشف أحادي أكسيد الكربون    مجلس حقوق الإنسان يُثمّن التزام الجزائر    مشاريع تنموية لفائدة دائرتي الشهبونية وعين بوسيف    بورصة الجزائر : إطلاق بوابة الكترونية ونافذة للسوق المالي في الجزائر    إلغاء رحلتين نحو باريس    البُنّ متوفر بكمّيات كافية.. وبالسعر المسقّف    الخضر مُطالبون بالفوز على تونس    دعوى قضائية ضد كمال داود    تيسمسيلت..اختتام فعاليات الطبعة الثالثة للمنتدى الوطني للريشة الذهبي    الشباب يهزم المولودية    المحكمة الدستورية تقول كلمتها..    وزيرة التضامن ترافق الفرق المختصة في البحث والتكفل بالأشخاص دون مأوى    النعامة: ملتقى حول "دور المؤسسات ذات الاختصاص في النهوض باللغة العربية"    الذكرى 70 لاندلاع الثورة: تقديم العرض الأولي لمسرحية "تهاقرت .. ملحمة الرمال" بالجزائر العاصمة    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجنرال العربي بلخير الذي عرفت
الحلقتان الأولى و الثانية
نشر في الشروق اليومي يوم 13 - 02 - 2010


الجنرال العربي بلخير
الحلقة الأولى
لقّب برجل الظل الآمر والناهي في البلاد... ونعت بالرئيس الفعلي، صانع الرؤساء والوزراء، مهندس النظام ومنشط الديوان الأسود... وهو يعتبر نفسه "جنديا في خدمة البلاد ومصلحتها"... فيا ترى من هو الجنرال العربي بلخير وما حقيقة الأوصاف التي أطلقت عليه؟
هل سيخرج يوما ما أحد رفاق العربي بلخير عن صمته ليحدثنا عن خصال الرجل وعن أسراره؟ من المعروف أن كبار المسؤولين في الجزائر ليس من عاداتهم كتابة مذكراتهم أو ذكر رفاقهم بعد الرحيل الأبدي لا في الصحف ولا في الكتب ولا في البرامج التلفزيونية. فيعيشون في الخفاء ويموتون في الخفاء ويبقى الرأي العام يحتفظ بنفس الصورة النمطية التي كانت تلازم هؤلاء المسؤولين الذين حكموا البلاد وتصرفوا في أمور العباد في سرية تامة وبعيدا عن كل الأضواء. وعادة ما تكون الصورة سيئة أو سوداء نتيجة الثقافة السائدة في البلاد والتي تجعل من كل مسؤول شخصا غير مرغوب فيه وكثيرا ما تكون الصورة التي نحملها للشخصيات السياسية بعيدة كل البعد عن الحقيقة ولا تمتّ بصلة إلى واقع هؤلاء.
فالمعروف لدى العوام أن المغفور له الجنرال العربي بلخير لم يكن يحظى بسمعة طيبة لدى الرأي العام من منطلق المثل القائل: "من جهل الشيء عاداه". فأي مواطن يدعي أنه يكنّ الكراهية للفقيد أو أنه يلهج بتهم شتى تجاهه، إذا ما سألناه عما يعرف عنه تمتم وراح يبحث في ذاكرته عن حدث شاهده على شاشة التلفزة يبرز فيه الجنرال العربي بلخير. ويردد آخرون ما سمعوه عبر الأرصفة وفي المقاهي العمومية أو من جلسات السمر المختلفة، لأنه في حقيقة الأمر لا يعرفون عنه شيئا. وما شعور الكراهية لهذا الشخص إلا أنه نابع من الجوّ العام السائد على الساحة السياسية بمختلف تناقضاتها وحساباتها المتضادة والمتشابكة.
أكيد أنه يمثل بالنسبة للكثير من المواطنين أنه صاحب فكرة توقيف المسار الانتخابي، سنة 1992. هناك من يدينه على ذلك الإجراء... كما تجد من صفّق له بحرارة شديدة... كما يسجل عليه الملاحظون السياسيون تورطه في إبعاد الرئيس الشاذلي بن جديد عن سدة الحكم قبل الدور الثاني من الانتخابات التشريعية لعام 1992 وحلّ محله فعليا من خلال إصدار قانون حالة الطوارئ الذي وضع صلاحيات تدخل الجيش في تفريق المظاهرات بين أيادي وزير الداخلية وهو المنصب الذي كان يشغله أنذاك. فبطرق ملتوية جاءت في بنود هذا القانون سيطرة الجنرال العربي بلخير على المؤسسة العسكرية وهو بعيد عنها. إذ يخول هذا القانون للوالي الذي هو تحت وصاية وزير الداخلية أن يأمر الوحدات العسكرية بالتدخل على مستوى تراب ولايته كلما اقتضت الضرورة. إنها عبقرية رجل يعرف كيف يسير أمور الدولة في الخفاء.
تسييره لشؤون الدولة لم يكن يقتصر على بند من بنود قانون الطوارئ. عرف عن الجنرال أنه كان أحسن المستثمرين في الرجال فكلما صادف كفاءة إلا واقتنصها وزرعها في المكان الذي يريد وهكذا شكل شبكة من الرجال الموالين له ليتمكن من السيطرة التامة على مختلف مؤسسات الدولة وحتى على جمعيات المجتمع المدني.
كم هم كثيرون أولئك الذين استفادوا من نفوذ الرجل وخدماته، وهاهم اليوم يلتزمون الصمت خشية جلب الاهتمام بهم أو أن توجه لهم أصابع الاتهام ويشعرون بالندم على قرابتهم منه. وهذا عيب الأقزام الذين يستفيدون من الرجال عندما يكونون في موقع القوة ثم ينقلبون عليهم لما يجرفهم تيار التقاعد أو الاستغناء عن الخدمات.
لم أكن من المقربين الذين توددوا للراحل أو تزلفوا له، ولم أكن من المستفيدين منه ولا من مناصبه ولم أكن من ضحاياه أيضا. إلا أنني سأجتهد في التذكير ببعض المواقف التي كنت شاهد عيان عليها أو رواها لي هو شخصيا. أقدم هذه الشهادات عملا بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "أذكروا موتاكم بخير". علما أنني تهجّمت عليه في أكثر من مرة في حياته عبر كتاباتي ولقاءاتي الصحفية.
شاءت الصدف المهنية أن ألتقي به وهو في قمة هرم السلطة وشاءت الظروف وأن استقبلني في بيته أكثر من مرة وهو بعيد عن الحكم. وشاءت المقادير أن تكون بيننا خصومة سياسية بعيدة كل البعد عن أي مصلحة شخصية أو ذاتية أو أنانية نراها تتحكم في مشاعر الخصوم اليوم. رفع ضدي دعوى قضائية بتهمة القذف عندما تحدثت عنه في الأسبوعية الفرنسية "لونوفال أوبسارفاتور" في جوان 2001 إذ نعته بمدبر اغتيال المحامي الفرنسي أندريه علي مسيلي. وتسببت في فراره من فرنسا أشهر قليلة قبل أن توافيه المنية عندما طلبت من قاضي التحقيق المكلف بنفس القضية أن يستنطقه لما ألقي القبض على الدبلوماسي محمد زيان حسني البريء البراءة التامة من اغتيال مسيلي.
ومثلما كنت أردد على مسامعه كلما سمحت الفرصة أن نلتقي ويجمعنا الحديث، أنني لا أكنّ له كراهية كبيرة ولكن سبب الخصومة بيني وبينه ليس لأسباب شخصية أو اختلاف على الريع والمنافع، بل هو حبّ الجزائر لا أكثر ولا أقل.
رجل المؤامرات أم صمّام الأمان!
لقب العربي بلخير برجل الظل، غير أنه منذ مطلع التسعينيات عاش تحت الأضواء الكاشفة باحتلاله منصب وزير الداخلية، أي أنه كان الشرطي الأول في البلاد مثلما ينعت نظراءه في الغرب. فأصبح إسمه يتردد في مجالس المحللين السياسيين للنظام الجزائري وأحاديث العوام وهمسات رجال النفوذ والمال والسلطان. وأصبح كل من هب ودب يذكره ليلفق له شتى التهم وكأن الرجل يحمل لوحده كل أعباء الأزمات التي عاشتها الجزائر. هذا ما دفع به إلى قول جملته الشهيرة: "أنا ممسحة مدخل الرئاسة فالكل يمسح حذاءه فيها".
إذا كان يعتبره الكثيرون من الملاحظين أنه مهندس النظام وأقوى رجالاته إلى درجة نعته بالرئيس الفعلي للبلاد. فنعته الآخرون بأنه صمام الأمان على أعلى مستوى الدولة، حيث كان يوفق بين الأعداء والخصوم السياسيين في أحرج اللحظات. وفي نهاية المطاف يجعل جلّهم إلى جانبه مهما اختلفت مشاربهم وتناقضت مواقفهم وتباينت رؤاهم. ويبقى هو الرابح الأخير.
إذا كان الجنرال العربي بلخير في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين ضابطا عسكريا برتبة رائد لا علاقة له بنظام الحكم ولا بالسياسة، حيث كان يشغل منصب مدير المدرسة الوطنية للمهندسين والتقنيين الجزائريين الكائنة ببرج البحري والتابعة لوزارة الدفاع الوطني، فمع رحيل الهواري بومدين نهاية سنة 1978 وفي ظل الغموض الذي اكتنف الساحة السياسية حول خليفته، وضع الرائد العربي بلخير قدمه الأولى في المعترك السياسي بإشرافه على تنظيم تجمع قيادة المؤسسة العسكرية لتدارس أوضاع البلاد غداة الرحيل المباغت للرئيس هواري بومدين.
من المنطقي وحسب العادة السائدة، آنذاك، أن يجتمع المسؤولون العسكريون إما بمقر وزارة الدفاع الوطني أو بالأكاديمية العسكرية لمختلف الأسلحة بشرشال. وهنا يطرح الكثير من الملاحظين تساؤلا شرعيا حول دوافع اختيار المقر الذي اجتمعت فيه قيادة الجيش بعد رحيل الهواري بومدين. فكيف تم اختيار المدرسة التي كان على رأس قيادتها الرائد بلخير؟ ومن كان صاحب الفكرة؟ وماهي حجته ليقنع قيادة الجيش باختياره مكانا غير مقر وزارة الدفاع؟ ذلك هو اللغز الكبير؛ لغز لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى والفقيد الذي هو اليوم بين يديه وأخذ معه سرّه الدفين الذي لم يبح بخفاياه. ومهما كانت الاحتمالات والخلفيات، إلا أن هذا الاجتماع يعتبر بمثابة نقطة انطلاق الرائد العربي بلخير وظهوره على زوايا قوية في المحك السياسي. ومن خلالها لعب أدوارا عرفناها فيما بعد.
حسب بعض الشهود الذين إلتقيتهم وعرفوا الرجل منذ أيام ثورة التحرير، أن مجيء الجنرال العربي بلخير للسياسة لم يكن اعتباطيا ولا محل الصدفة ولا الصدقة ولم يأت عن طريق تيار عابر حمله إلى قمة صنع القرار. فالكل كان مدبرا ومهيّأً ومخططا منذ فراره من الجيش الفرنسي والتحاقه بجيش التحرير الوطني والعهدة على من نقل لي هذه الحادثة التي سأرويها. خلال أول لقاء جمعه بممثل هيئة أركان جيش التحرير الوطني بمنطقة قرن الحلفاية على الحدود التونسية الجزائرية وكان آنذاك يحمل رتبة ملازم مثله مثل بقية عناصر دفعة لاكوست، طرح سؤالا ينمّ عن طموحاته وعن آمال وتطلعات رفاقه من صف ضباط الجيش الاستعماري. سؤاله كان واضحا وبيّنا: "نحن الذين فررنا من الجيش الفرنسي ماذا سيكون مصيرنا بعد الاستقلال؟". إندهش محدثوه إذ كانوا يفكرون في الاستشهاد قبل تفكيرهم فيما بعد الاستقلال وصعب عليهم الرد على هذا السؤال.
لقد كان تعيين الشاذلي بن جديد خليفة للمرحوم هواري بومدين على رأس الدولة الجزائرية بداية الرد على هذا السؤال وجاء على مقاس طموحات العربي بلخير وأحلامه التي كانت تتردد بين جنبيه.
عندما شغل النقيب العربي بلخير منصب قائد أركان الناحية العسكرية الثانية تحت قيادة العقيد الشاذلي بن جديد، تمكن من السيطرة واستلام كل صلاحيات قائده الذي كان يتميّز بحبه للسكون والراحة والاستجمام. فكان العربي بلخير هو القائد الفعلي للناحية العسكرية الثانية إلى أن غادرها ليستلم مديرية المدرسة الوطنية للمهندسين والتقنيين الجزائريين التي كانت تشرف على نخبة المستقبل للجيش الوطني الشعبي، وتخرج إطارات علمية لعبت دورها لاحقا في بلورة إحترافية المؤسسة وحتى في بناء هياكل الدولة الحديثة.
حكمته: "لو دامت لغيرك ما وصلت إليك"
لم تمر أشهر قليلة على وصول الشاذلي بن جديد الى قصر المرادية إلا وبالعربي بلخير يعيّن رئيسا لمجلس الأمن لدى رئيس الجمهورية. وهذا كان منصبا أحدث خصيصا له وعلى مقاسه بل كان بمثابة نقطة الانطلاق في تسييره لشؤون الدولة. وفي ظرف قياسي تحول الرائد العربي بلخير من مدير مدرسة عسكرية إلى رئيس مجلس الأمن ومن هنا إلى أمين عام لرئاسة الجمهورية ثم مدير الديوان. كان يبدو منصب أمين عام رئاسة الجمهورية في الوهلة الأولى إداريا بحتا إذ لم يكن من سبقه إليه أن لعب أي دور سياسي ولم يكن له أي نفوذ على مؤسسات الدولة وعلى رجالها. غير أن من سبقه لهذا المنصب في عهد الرئيس الهواري بومدين كان يعمل تحت إمرة رجل ومسؤول متمرس لا تفوته كبيرة ولا صغيرة وكان هو صاحب الحل والربط، ولا يقبل من أي كان أن يتجاوز صلاحياته القانونية والدستورية. كان قصر المرادية وما يحوم حوله من مؤسسات حساسة تحت نفوذ الهواري بومدين الذي لا يعرف الراحة ولا يسمح لنفسه بالاستمتاع ولو بعطلة نهاية الأسبوع. فلا يمكن أن يحلّ محله وزير أو رئيس حكومة فما بالك بمدير ديوانه أو أمين سره.
هكذا كانت تسيّر شؤون البلاد في عهد الرئيس الراحل الهواري بومدين، ولكن مع وصول الشاذلي بن جديد إلى سدة الحكم تغيرت الأمور وانقلبت رأسا على عقب وجاء الرئيس الجديد بمنهجه القاضي بتفويض سلطاته لوزرائه كل حسب قطاعه وتخصصه، كما فوض صلاحيات الرئاسة للأمين العام لهذه المؤسسة ألا وهو الرائد العربي بلخير الذي رقّي إلى رتبة مقدم حينها. وتسلق الرتب العسكرية بسرعة مذهلة. فتعيينه في رتبة جنرال كان مخالفا لقانون المؤسسة العسكرية فكل من يمارس وظيفة مدنية لأكثر من سنتين يتم إحالته على التقاعد العسكري الإجباري وهذا ما حصل بالفعل للكثير من الضباط السامين الذين عينوا في عهد الهواري بومدين على رأس وزارات مثل العقيد أحمد بن شريف والرائد بن دغري والعقيد أحمد دراية والعقيد محمد الصالح يحياوي الذي عيّن على رأس جهاز حزب جبهة التحرير الوطني. وفي عهد الشاذلي بن جديد أحيل الكثير من الضباط السامين إلى مناصب مدنية من بينهم الجنرالات بن يلس، سي العربي سي لحسن وحشيشي زين العابدين والهاشمي هجرس وغيرهم وهم من خيرة أبناء الجزائر وضباط الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير.
كان الفقيد العربي بلخير يبدي للرئيس الشاذلي بن جديد ولاءً لا مثيل له وطاعة لا نظير لها، حيث تراه يقف في الاستعداد أمام الرئيس كأبسط الجنود ويؤدي التحية العسكرية أحسن أداء. وفي هذا السياق أذكر حادثة رواها لي المرحوم شخصيا تخصّ بعض الهفوات سجلت على مستوى البروتوكول عندما التقى الرئيس الشاذلي بالملك الحسن الثاني على الحدود الجزائرية المغربية في منتصف الثمانينيات. يقول لي العربي بلخير، إنه تحمّل مسؤولية هذه الهفوات قائلا للرئيس الشاذلي وهو منحنيا أمامه: "سيدي الرئيس أنا المخطئ خذ ما شئت من عقاب ضدي. أوقفني فأنا عسكري وأتقبل أي عقوبة تصدر منكم". هذه الحادثة التي حكاها لي تعبّر عن مدى احترامه لمسؤوليه وتشبثه بالانضباط الذي تربّى عليه في مسيرته العسكرية في صفوف الجيش الفرنسي. هذا ما جعل الشاذلي بن جديد يرأف به ويضع كل ثقته فيه. وبهذه الطريقة تمكن العربي بلخير من احتكار منصب يحسد عليه حتى من أبرز المقربين منه. هذا المنصب كان بمثابة المنطلق الذي جعله يسيطر على النظام بذكاء وبأسلوب لا يعرف عند غيره. كان منضبطا مع رؤسائه وليّنا مع مرؤوسيه. فالرجل الذي نعت بصانع الرؤساء والوزراء وبصاحب القرار الفعلي لم يحكم بالقوة والعنجهية والتسلط ولم يكن الآمر والناهي والمتجبر الطاغية الذي لا يقبل رأيا يخالف قراراته. كانت له لباقة في الحديث ورزانة في الجدل وحجة في الإقناع وبيّنة في محاورة الآخرين. وهو في أعلى المناصب من المسؤولية كان يعمل بمقولة "لو دامت لغيرك ما وصلت إليك"؛ حكمة يجهلها الكثيرون من المسؤولين.
أذكر أن أول مرة إلتقيت فيها الجنرال العربي بلخير كانت شهر أكتوبر 1990 وبرفقة العقيد الشريف الذي كان يشغل منصب مفتش عام بالمندوبية العامة للتوثيق والأمن "التسمية السابقة لدائرة الاستعلامات والأمن" ومعنا أيضا المقدم محمد الطاهر عبدالسلام الذي كان مكلفا بملف الشرق الأوسط، وكنت حينها أحمل رتبة نقيب وأعمل بديوان الجنرال محمد بتشين. كان في ذلك اليوم قد حلّ بالجزائر مدير جهاز المخابرات السعودية، في الوقت الذي كانت تجري فيه تسليم المهام بين الجنرال محمد بتشين المستقيل من منصبه والعقيد توفيق الذي خلفه على رأس جهاز الأمن الجزائري. فبعد اللقاء الذي جمعنا بمدير المخابرات السعودي تجاذبنا أطراف الحديث نحن الضباط الثلاث بجهاز الأمن والجنرال العربي بلخير مدير ديوان رئيس الجمهورية، حول بعض القضايا الأمنية. فراح الجنرال بلخير ينتقد نشاطات جهاز الأمن ومن خلاله الجنرال محمد بتشين. لم أكن أتقبل أطروحاته فأبديت له الرأي المخالف والمناقض وصارحته بعدم موافقتي على أحكامه وتقييماته. لم ينزعج منّي إطلاقا وأنا أصغرهم سنّا ورتبة بل جادلني بهدوء وحاول إقناعي بلطف.
نادرا ما تجد مسؤولا جزائريا يفتح صدره للنقد أو الاستماع إلى ما لا يروق له أو يناقض أطروحاته ممن هو أقل منه مرتبة. ولكن كان الأمر غير ذلك واكتشفت يومها رجلا من طراز مختلف تماما عما كنت أعرفه وأراه يتردد في كل الدوائر. وأمام اندهاشي لما كنت ألاحظه على هذه الشخصية التي سمعت عنها الكثير قبل أن ألتقيه لأول مرة في إطار العمل طبعا، انفرد بي المقدم الحاج محمد الطاهر عبدالسلام ليقول لي مازحا: "إن هذا الرجل داهية، بإمكانه أن يضع الشاذلي بن جديد أمام باب قصر الرئاسة بابتسامة عريضة ويأتي بأحمد بن بلة ويقول له: لك قصر المرادية وأنا مدير ديوانكم". لم يكن الحاج محمد الطاهر عبد السلام يدرك يومها أن نبوءته ستتحقق خلال عشر سنوات من بعد ذلك اليوم لما عاد الجنرال العربي بلخير الى قصر المرادية ليتقلد نفس المهام التي أسندت إليه في عهد الشاذلي بن جديد مع الفرق أن سيد القصر هذه المرة كان عبدالعزيز بوتفليقة الذي منع من التربع على العرش عشرين سنة كاملة من طرف الجنرال العربي بلخير ورفاقه.
حقيقة عودة العربي بلخير لإدارة ديوان رئاسة الجمهورية تحت إمرة غريم الأمس أمر غريب لم يسجل في أي دولة ولا يمكن أن يحصل مع آخرين.
الحلقة الثانية
أذكر أنني لما أسست أول صحيفة جهوية مستقلة بشرق البلاد بعد مغادرتي المؤسسة العسكرية في أكتوبر 1992 بطلب مني بعد 17 سنة من الخدمة الوفية والملتزمة، نشرت مقالات خاصة بمرور الذكرى الأولى على استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد.
المقالات تعرضت فيها بالنقد اللاذع للرئيس المستقيل ومعاونيه وكل رموز عهده ومن بينهم الجنرال العربي بلخير. أياما قليلة بعد نشر تلك المقالات قمت بزيارة مجاملة للزميل والصديق عمار بن يونس الذي كان يشغل حينها منصب مدير عام للمجاهد الأسبوعي لسان حال حزب جبهة التحرير الوطني. خلال حديثنا أخبرني بن يونس أن الجنرال العربي بلخير قرأ جريدتي وعبّر له عن غضبه وأظهر مدى امتعاضه مما كتبت ضده. وبما أنني لست من طينة الذين ينتقدون ويختفون وراء الحجب والستائر قلت له: "أخبر سي العربي أنني مستعد لنشر مقال له إذا أراد استعمال حق الرد، ومستعد أيضا أن أواجهه بالحجج التي تتوفر لدي حول ما كتبته ضده". لم يتردد عمار بن يونس في رفع سماعة التلفون ويتصل بالجنرال بلخير ليخبره بأنني موجود بمكتبه ثم سلمني الهاتف لأتحدث معه لبضع دقائق حيث بادر الجنرال المتقاعد في استدعائي إلى بيته.
بعد يومين أديت له الزيارة المتفق عليها ببيته الكائن بحي حيدرة رفقة الصديق عمار بن يونس الذي لم يكن يتصور أن النقاش بيني وبين مضيفنا سيكون حادا وساخنا وبمنتهى الصراحة. لأنه ينحدر من منطقة المسيلة المعروفة بطيبة أهلها ورزانتهم ومرونتهم في الحديث. أما أنا الشاوي معروف بخشونة رأسي وصراحتي التي تبدو أحيانا عنيفة إلى درجة أنها تزعج الذين يتناقشون معي. وهذا ما برز جليا أثناء حديثي مع الجنرال العربي بلخير.
أقرّ وبكل موضوعية ونزاهة أنني دخلت بيت الجنرال بلخير في ذلك اليوم وأنا أشتعل عدوانية له. فخلال الفترة التي قضيتها في صفوف الجيش الوطني الشعبي تتلمذت على أيادي قدماء جيش التحرير الوطني، بالإضافة إلى ما غرسه الوالد رحمه الله في عروقي من حب الوطن، وأيضا أن الكشافة الإسلامية الجزائرية التي ترعرعت في أحضانها فترة تناهز العشر سنوات، كان لها أثرها العميق في تكوين شخصيتي المتشبعة بالصراحة والوطنية إلى درجة أنني إلى يومنا هذا وحتى آخر رمق في حياتي، أنبذ كل ما له صلة بالاستعمار، وإلى لحظة كتابة هذه السطور ورغم غربة فرضت عليّ بديار المستعمر القديم فاقت 12 سنة لم يخطر ببالي يوما أن أتقدم بطلب الجنسية الفرنسية. ولا زلت أنا وأبنائي وزوجتي نحمل بافتخار جنسية واحدة لا شريك لها وهي الجزائرية رغم أنها تكلفنا عناء كبيرا في الظروف الحالية. فمن غير المعقول عندي أن أجعل من ابنتي التي سميتها جميلة تيمنا بجميلة بوحيرد مواطنة فرنسية، ولا أرى من المنطق أيضا أن يحمل ابني هواري بومدين الجنسية الفرنسية ولا أخته كاهنة. فهذه المشاعر الوطنية التي تشبعت بها منذ نعومة أظافري جعلتني أكنّ عداوة لكل من ارتدى الزي العسكري الفرنسي أثناء الاستعمار مهما كانت نيته ومهما كانت دواعي فراره من الجيش الفرنسي ليلتحق بصفوف جيش التحرير الوطني. لقد أعيب علي هذا التعصب الوطني ولكنني لا أخجل من الإقرار به.
بهذه الخلفية وعلى ضوء هذا المنظار المعادي الذي يسيطر على مشاعري وتفيض به أعماقي، دخلت بيت العربي بلخير لأول مرة، ولم أتردد لحظة في أن أشنّف مسمعه بموقفي الصريح والواضح من قدماء الجيش الفرنسي، وكما أكدت له ولغيره ما أحمل من شكوك في نواياهم وهم في أعلى مناصب المسؤولية بالجزائر المستقلة. لم ينزعج مضيفي أبدا من كلامي الناري وأظهر سعة صدر أبهرتني وجعلتني أكتشف رجلا يعرف كيف يسلب عقول خصومه. وتذكرت حينها الحاج محمد الطاهر عبدالسلام ذلك الضابط الشاوي ابن تكوت الأوراسية الذي انخرط في جيش التحرير الوطني في أول يوم من اندلاع الثورة التحريرية، عندما قال لي: "العربي بلخير لو يدخل عليه عدو شرس بنية قتله، لسلمه سلاحه وطلب العفو بمجرد أن يتفوه الرجل بكلمتين". صراحة عجيب أمر هذا الرجل الذي لم تزعزعه ولا كلمة مزعجة ولم يتأثر بالانتقادات والتهم التي توجه إليه.
لقد وصل الأمر بي أن قلت للجنرال العربي بلخير في بيته وهو يقدم لي كأس الشاي وبحضور الزميل عمار بن يونس وهو شاهد على ذلك: "إذا كانت هناك عصابة مافياوية تحكم البلاد فأنت رئيسها"، ببرودة دم لا نظير لها وبكل هدوء أعصاب يحتار فيه خصومه يرد مدافعا عن نفسه وعن رجاله وعن الأدوار التي لعبها عبر مسيرته. كلما ذكرت له أمرا اعتبرته من سلبيات أفعاله إلا وقلب الآية وتحجج بخدمة المصالح العليا للبلاد إلى أن بلغ بنا الحديث حول قضية اللواء مصطفى بلوصيف التي كانت آنذاك على وشك المحاكمة بتهمة اختلاس أموال الدولة وتبديد الأملاك العمومية.
حاول أن يقنعني أنه لا ضلع له فيما يتعلق بهذه القضية، لكنني أطلعته على أمور لم يخطر على باله أنني كنت على علم بها، ولقد ذكرت له حضوري لمكالمة هاتفية أجراها الجنرال محمد بتشين في شهر أوت 1990 وهو على رأس المندوبية العامة للتوثيق والأمن حيث كان يترجّى اللواء مصطفى بلوصيف أن يزوره في مكتبه في أقرب وقت دون أن يخبره بسبب الدعوة. وبعد إلحاح شديد من محدثه قرر الجنرال بتشين أن يبوح له بالموضوع والخاص بفيلا سطيحة قائلا له: "إنهم يسعون إلى تقديم الملف للقضاء العسكري... يا أخي مصطفى ألقي لهم زبالتهم" وأخبره أنه تدخل لدى الرئيس بن جديد ومدير ديوانه العربي بلخير حتى ينهي المشكل دون اللجوء للعدالة. وبمجرد أن علّق جهاز الهاتف وضع الجنرال بتشين وجهه بين يديه وراح يردد: "يريدون تكليفي بالمهام القذرة" وكانت تبدو عليه علامات الحسرة على وضع اللواء بلوصيف باعتباره رفيق دربه، وكان يكنّ له محبة خالصة.
بعد أن رويت له هذه الحادثة التي كنت شاهد عيان عليها، حاول الجنرال العربي بلخير التنصل والتشكيك في نوايا الجنرال بتشين. فسارعت لأرد عليه: "قل ما شئت في الجنرال محمد بتشين ولكنه لا يمكنك أن تقدح في وطنيته أو تشكك فيها، وطبيعي جدا أن يتحالف مع اللواء بلوصيف لأنهما أبناء جيش التحرير الوطني". وواصلت قائلا: "الدليل على تورطكم في قضية بلوصيف يبرز من خلال تسريب ملفه إلى الصحافة بعدما غادر الجنرال بتشين جهاز الأمن والشاذلي بن جديد رئاسة الجمهورية وهما صديقان أوفياء له".
وقلت يومها للجنرال العربي بلخير إنه هو الذي كان سببا في إحالة اللواء مصطفى بلوصيف على التقاعد وعمره لم يتجاوز 47 سنة. كان القرار قد اتخذ غداة اجتماع قادة أركان الجيش تحت رئاسة الشاذلي بن جديد بمقر هيئة الأركان بعين النعجة. كما ذكّرته أنه قبل افتتاح أشغال الاجتماع تصدى له اللواء بلوصيف ليمنعه من الحضور بحجة أن الاجتماع عسكري ويخص قيادات الجيش فقط.
حاول الجنرال بلخير التملص من هذه التهمة التي وجهتها له متذرعا بوجود خلاف شخصي بين بلوصيف والشاذلي بن جديد واستبعد أن تكون هناك عداوة بين قدماء الجيش الفرنسي وقدماء جيش التحرير الوطني مثلما كان يردده المغفور له اللواء مصطفى بلوصيف.
إن النزاع الذي كان قائما بين اللواء مصطفى بلوصيف والجنرال العربي بلخير يعتبر النزاع الوحيد الذي عرف عن هذا الأخير، فهو عادة ما يتفادى الصراعات والنزاعات مع كل من يمكن أن يكون خصما له. بطريقته الخاصة وأسلوبه الجذاب يسعى دائما إلى التوفيق بين المتصارعين، وهذا ما ذكره لي خلال حديثنا مركّزا على أنه ساعد الكثيرين من الرجال لبلوغ أعلى مناصب المسؤولية لخدمة البلاد ومن بين هؤلاء الذين تمتعوا بمساعدته علي بن فليس الذي كان محاميا بسيطا بمدينة باتنة. فيذكر لي أنه خلال زيارة المرحوم قاصدي مرباح لديوانه بالرئاسة بعد تعيينه في أكتوبر 1988 على رأس الحكومة كوزير أول سأله الجنرال العربي بلخير عن تشكيل طاقمه فأخبره مرباح أنه يوشك على وضع اللمسات الأخيرة ولم تبق سوى حقيبتين شاغرتين منهما وزارة العدل -أما الوزارة الأخرى فقد نسيتها مع مرور الأيام-. فأشار إليه الجنرال العربي بلخير على رجل لاحظه خلال اجتماع تأسيس رابطة حقوق الإنسان (الموالية للنظام) والتي أنشئت لتتصدى للرابطة التي أسسها الأستاذ علي يحيى عبد النور، وعبر له عن استعداده للاتصال به إذا رغب في ذلك من خلال السيد الهادي لخذيري الذي كان حينها وزيرا للداخلية.
هكذا تدرج المحامي علي بن فليس وبرز على الساحة السياسية مع نهاية سنة 1988 عندما عين وزيرا للعدل ثم عضوا بالمكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني بين عشية وضحاها ليغيب بضعة سنين ويعود إلى الساحة بدفع من الجنرال العربي بلخير الذي كلفه بإدارة حملة المترشح عبد العزيز بوتفليقة لرئاسة الجمهورية في انتخابات 1999 قبل أن يعين مدير ديوان الرئيس بوتفليقة، ثم أمينا عاما لحزب جبهة التحرير الوطني، وبعدها رئيسا للحكومة. هكذا أصبح علي بن فليس من شخص نكرة عام 1988 إلى مرشح لرئاسة الجمهورية عام 2004.
إن الرجل الذي نعت عن خطأ أو صواب بصانع الرؤساء والوزراء هو قبل كل شيء مستثمر في الطاقات والكفاءات واستخدامها لصالح الدولة كما يدعي. فقد زرع في كل المؤسسات والدوائر رجالا موالين له يستخدمهم عند الضرورة ليخلق منهم طواقم وتكتلات يستعين بها في كل الأوقات حتى وإن كان بعيدا عن دواليب السلطة. إنه بالفعل رجل الطواقم مثلما أقرّ به لجريدة لوموند الفرنسية الصادرة في 07 مارس 2002 ليرد على الاتهامات التي أوكلتها له في كتابي "مافيا الجنرالات" حيث اعترف أنه رجل طواقم ومفنّدا أن يكون رجل تكتلات. ومهما كانت التسمية فهو كان يفضل التحرك في إطار جماعي حتى يشرك غيره في المسؤولية حتى وإن كان هو صاحب المبادرة والكلمة الأخيرة. والجماعة التي يتحرك ضمنها يكون هو مهندسها ومفبركها إذ يتم تشكيلها على مقاسه وحسب الأهداف التي يرسمها. وحدث وأن فرضت في التشكيلات التي تحرك ضمنها شخصيات لم يشاطرونه الأفكار مثلما كان الأمر في قصر المرادية في أواخر الثمانينيات حيث كان في صراع باطني ضد جماعة مولود حمروش التي أبعدت عن القصر الرئاسي مثلما كان يرمي إليه الجنرال بلخير لما عين مولود حمروش خلفا لقاصدي مرباح على رأس الحكومة.
لو تمعنا في الصراعات التي أدارها الجنرال العربي بلخير حول السلطة لما كان داخلها وحتى لما حامى حولها عندما أبعد في ظروف معينة عرف كيف يناور ويوقع بالبعض في جعبته ويضع البعض الآخر على رصيف الانتظار ريثما يجد له مهمة مناطة به حسب إمكانياته ويأخذ طرفا ثالثا ليحمي به جانبيه سعيا منه على أن لا يصطدم بأي خصم.
فاحترازه من الاصطدامات جعله يلعب دور صمام الأمان بين مختلف التكتلات واللوبيات التي كانت بداية التسعينيات تتناحر على السلطة. ويشهد له التاريخ أنه لما غادر الجزائر في منتصف التسعينيات ليركن للراحة في سويسرا بلغت نار الفتنة ذروتها واحتدم الصراع على السلطة وكادت الأوضاع تنفجر وتصل إلى درجة لا يحمد عقباها، خاصة لما أعلن الرئيس اليمين زروال عن نيته في الاستقالة قبل نهاية عهدته. ففي هذه الظروف الصعبة عاد الجنرال العربي بلخير إلى أرض الوطن حاملا معه مشروع ترشيح عبد العزيز بوتفليقة لرئاسة الجمهورية. وكان له ما يكفي من المبررات والحجج ليقنع كل الأطراف بنجاعة المشروع حيث كانت تتوفر لدى مرشحه الحنكة الكافية للخروج بالبلاد من المأزق الذي تتخبط فيه.
حتى وإن كان المترشح عبد العزيز بوتفليقة يخيف الكثيرين ممن وجدوا ضالتهم في الصراع حول السلطة والاصطياد في المياه العكرة لأنهم كانوا يدركون أن الوزير السابق للشؤون الخارجية في عهد هواري بومدين هو قبل كل شيء دبلوماسي محنك من الطراز الرفيع، يعرف كيف يضع حدا للصراعات الداخلية ويتقن أساليب عزل العناصر التي ما فتئت تنخر جسد الدولة.
بإقناعه المترددين حول ترشح عبد العزيز بوتفليقة يكون الجنرال العربي بلخير قد أدى على أحسن وجه دور صمام الأمان، خاصة وأن البلاد كانت على حافة بركان مهددة بالتقسيم والتجزئة وتئن تحت وطأة الإرهاب وممن يغذونه.
ربما سيشفع له وقوفه إلى جانب بوتفليقة في الوصول إلى سدة الحكم ويغفر له الأخطاء التي ارتكبها طيلة مسيرته السياسية، والتي يلومه عليها البعض ويتفهمه فيها البعض الآخر، عندما يلاحظ المرء تفكيك العلبة السوداء وإعادة الحكم الفعلي إلى من أخذه بقوة شرعية الاقتراع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.