إثارة قضية رهبان تبحرين السبعة الذين اغتيلوا سنة 96، لم يأت بمحض الصدفة، ولا هو كان استكمالا لقضية التحقيق في الجريمة وفق الترتيباتات القانونية المعروفة، فتحريك قضية ميتة بعد 13 سنة كاملة، وما أعقبه من تصريحات للرسميين الفرنسيين بدأ بالرئيس ساركوزي، يخضع لحسابات دقيقة وأهداف معروفة، فهناك أكثر من سبب يجعلنا نعتقد بان بعض الدوائر في فرنسا تسعى بكل ما أوتيت من قوة لتسميم العلاقات مع الجزائر لاعتبارات مرتبطة سواء بإرث التاريخ أو بالمنافسة على النفوذ أو لأهداف أخرى ذات صلة بالصراعات داخل النظام السياسي الفرنسي نفسه. رغم الطابع الرسمي الذي أخذته الحملة الفرنسية على الجزائر وتحديدا على المؤسسة العسكرية بعد"الشهادات" الأخيرة للملحق العسكري السابق للسفارة الفرنسية بالجزائر، الجنرال المتقاعد فرنسوا بوشوولتر الذي زعم بان مقتل رهبان دير تبحرين سنة 96، جاء بفعل خطئ ارتكبه الجيش الجزائري، فإن مساعي تسميم العلاقات الجزائرية الفرنسية ليست جديدة، ومحاولات التشكيك في بعض ملفات الأزمة الأمنية لم تعد بدعة بل تقليد سارت عليه باريس منذ اندلاع مسلسل العنف الإرهابي سنة 92، بل قبل هذا التاريخ أي منذ توقيف المسار الانتخابي وتبني اليسار الذي كان في الحكم آنذاك لما كان يسمى بالمعارضة الإسلامية في الجزائر. لقد سبق ل "صوت الأحرار" أن سألت، على هامش المؤتمر الدولي حول الإرهاب الذي انعقد بالجزائر سنة 2002، المدير السابق لمديرية أمن الإقليم في المخابرات الفرنسية "الدي أس تي " إيف بوني حول خلفيات توتر العلاقات بين الجزائر وباريس إبان الأزمة الأمنية، وكان جوابه أن هذا التوتر الذي كان باديا على المستوى السياسي لم يكن له وجود أو أي اثر على مستوى التنسيق الأمني بين مصالح أمن البلدين وهو ما يعني بأن المشاكل المثارة على الصعيد السياسي لم تكن ترتكز على مبررات واقعية، فهي عبارة عن مشاكل مصطنعة تحركها عوامل أخرى وحسابات مختلفة تجعل فرنسا الرسمية تلجا إلى تحريك بعض الملفات وتبنيها بشكل رسمي أو الإلقاء بها إلى بعض الدوائر الجمعوية والإعلامية التي تضمر الكثير من الحقد للجزائر. فهناك عينات كثيرة يمكن الرجوع إليها للوقوف على طبيعة هذه السيناريوهات الفرنسية الدورية والمتكررة، ففي عهد الاشتراكيين وحكم الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا متيران، انغمست فرنسا كما لم تفعل قط من قبل في الأزمة السياسية التي اندلعت في الجزائر بعد وقف المسار الانتخابي، وتبنت باريس بأشكال مختلفة ما كانت تسميها بالمعارضة الإسلامية وكانت مبرراتها قائمة على فكرة أن اندلاع العنف في الجزائر سوف يغرق فرنسا بالفارين من جحيم "الحرب الأهلية"، وبعد بداية مسلسل الإرهاب وفرت فرنسا مأوى آمن للعديد من الرؤوس الإرهابية وهو ما أوجد قاعدة خلفية متينة للجماعة الإسلامية المسلحة التي لم تزعجها مصالح الأمن الفرنسية إلا بعد تفجيرات مترو باريس سنة 95 ، وبعد شروع عناصر الجيا في تنفيذ اعتداءاتها داخل فرنسا نفسها. وبعيدا عن التفصيل في بعض الخيوط الرفيعة التي كانت تربط هذا التنظيم الإرهابي بالمخابرات الفرنسية ومحاولة استعماله لتحقيق بعض الأهداف، تتبادر أسئلة هامة حول طبيعة الحملة الشرسة التي احتضنتها فرنسا فيما بعد ضد المؤسسة العسكرية في الجزائر، ولو بشكل غير رسمي، فأطروحة التشكيك التي راجت في نهاية التسعينيات وبداية العشرية الأخيرة تحت عنوان "من يقتل من" بالاستناد على بعض "الشهادات" لضباط جزائريين فاريين، لم تكن اعتباطية بل مدروسة بشكل دقيق، خاصة وأنها تزامنت مع تغيرات كبيرة بدأت تشهدها الجزائر منذ أفريل 99 مع وصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى سدة الحكم. هدف حملة التشكيك كان ضرب المؤسسة العسكرية في الجزائر بتجريم جنرالاتها واتهامهم بالضلوع في المجازر الإرهابية ضد المدنيين، والهدف أيضا هو التأثير على المسار السياسي السلمي الذي تم الشروع فيه، ناهيك عن الخلفيات الأخرى المرتبطة بمصالح فرنسابالجزائر، والتي بدأت تتزعزع مع التوجه المعلن لانفتاح أكبر نحو العالم وتنويع الشراكة الاقتصادية، وفتح الباب واسعا أمام الاستثمارات الأجنبية بما في ذلك الاستثمارات العربية والصينية. لقد اتخذت الجزائر دوما أداة لتصفية المشاكل المطروحة في فرنسا وخاصة بين نخبتين سياسيتين واحدة جديدة تستند إلى شرعية الكفاءة وأخرى إلى التاريخ وإلى ما يسميه الفرنسيون بحرب الجزائر،وكلانا يتذكر مسلسل الشهادات التي أدلى بها بعض القيادات العسكرية الفرنسية الذي خدمو ا في الجزائر إبان عهد الاستعمار على غرار ماسو وبيجار وسواريس وغيرهم، والمحاكمات التي أعقبت ذلك في محاولة مكشوفة لطي ملف الجرائم الفرنسية بالجزائر من خلال تعليقها على رقاب بعض الجنرالات السابقين ومسح الذنوب عن الدولة الفرنسية وجيشها، فاللوبي الذي يمثله اليمين المتطرف بدعم من جنرالات حرب الجزائر والأقدام السوداء في فرنسا يتحرك في كل منعرج تاريخي للضغط من أجل أهداف معروفة. ويبدو أن ملف التاريخ يخيف أكثر قطاعا من النخبة الفرنسية التي ترتبط بشكل أو بأخر بمرحلة "حرب الجزائر"، فهذه النخبة التي يحتضنها خصوصا اليمين في باريس هي التي تقف وراء الحملة على الرئيس بوتفليقة بعد دخوله مستشفى فال دوغراس الفرنسي، وهي التي شنت هجمة شرسة على بوتفليقة بعد التصريحات التي سوى فيها بين جرائم النازية وجرائم الاستعمار في الجزائر، وهي التي فبركت قانون 23 فبراير 2005 الممجد للاستعمار لنسف مشروع الصداقة بين الجزائروفرنسا والذي كان عبارة عن حلم راود الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك وسعى إلى تحقيقه منذ زيارة دولة التي قام بها إلى الجزائر سنة 2004. هذا الملف قد يبرر أيضا الحملة الجديدة والتي أخذت هذه المرة طابعا رسميا، والتي تستهدف الجزائر ومؤسستها العسكرية، بدعوى ظهور معلومات جديدة تتحدث عن تورط الجيش الجزائري في اغتيال رهبان دير تبحرين، فالرسميون الفرنسيون لم ينتظروا نتائج التحقيق الذي تقوم به العدالة الفرنسية بعد إعادة تحريك القضية من قبل عائلات الضحايا، وراحوا ينغمسون في حملة التشكيك، رغم تراجع الرئيس الفرنسي، في التصريحات الأخيرة من ايطاليا على هامش قمة الثمانية، والمعروف أن تحريك ملف رهبان تبحرين جاء بعد الضغوطات الكبيرة التي مورست على باريس من قبل جمعيات جزائرية ومن قبل السلطة في الجزائر لحملها على الاعتراف بجرائمها والاعتذار عن الحقبة الاستعمارية في الجزائر والاقتداء بالنموذج الايطالي بعد اعتذار رئيس الوزراء بارلسكوني في واقعة تاريخية عن الجرائم التي اقترفها الاحتلال الايطالي بحق الليبيين. فكل الملفات التي لها صلة بالجزائروفرنسا تتحول بقدرة قادر إلى أداة لتسميم العلاقات بين البلدين، وهو ما شهدناه مع قضية الدبلوماسي الجزائر محمد زيان حساني الذي حاول القضاء الفرنسي توريطه في جريمة اغتيال المحامي علي مسيلي، وحتى مع ما سمي بقضية الطفلة صفية وقضية مغني الري الشاب مامي الذي أدين بخمسة سنوات حبسا نافذا. فرغم متانة العلاقات الجزائرية الفرنسية على الصعيد الثقافي والاقتصادي وحجم المبادلات التجارية بين البلدين التي تتجاوز ال 30 بالمائة، أي حوالي 14 مليار دولار، لا تزال فرنسا تتعامل مع الجزائر بعقلية استعمارية وبنظرة دونية واستعلائية، وأي محاولة تبادر بها الجزائر لفرض نفسها وإرغام باريس على التعامل بمقياس الندية على جميع الأصعدة تقابلها باريس بحملة شرسة عن طريق تحريك ملفات لها علاقة بالأزمة الأمنية التي ساهمت باريس في تعفينها وفي إطالة عمرها.