جاؤوا في صف طويل، يسلمون عليه الواحد تلو الآخر، قائلين إنهم زملاؤه، وأنهم كلهم، والحمد لله عرائس. يمد الواحد منهم يده، مصافحا، وما أن تلتقي الكفان، حتى يحرك إصبعه الوسطى، حركة قبيحة، واضحة. ويترنح في غنج. يذهب نصفه الأعلى يمينا، وتذهب فخذاه وركبتاه شمالا، بينما، يذهب عجزه خلفا، في حركة دائرية. * * يبتسم عابرا، يبادله الابتسامة، ويواصل مد اليد. فعل ذلك سبعا وأربعين مرة، لم يعدهم، لكن كان يتأمل الأرقام التي على صدورهم، المطرزة بالذهب والحرير والمتتالية طبقا للترتيب العددي. * لو أغمض وأفتح، ولاقيكم يا غاليين، إذا الشعب يوما أراد الحياة.. * حليوة ياحليوة، لو شفتم عينيه، حلوين قدِّ إيه. * يخطو ولا يصل، كأنما تداوُل العرسان على المنصة، يجعله يراوح في مكانه، * يجيء كافور. * ما أن يبتسم متذكرا أبيات المتنبي، حتى يختفي ليظهر السيد الكبير، بسيغاره الغليظ، وبسمته الأرجوانية، يظهر أشخاص آخرون، وينصرفون بدورهم، كأنما الصورة كلها خيالية، أو هي شاشة عريضة، تتداول عليها الأوجه والحركات، بما فيها وجهه هو. * فجأة، أظلمت الدنيا من جديد، كما لو كان هناك فانوس ينبعث منه نور قوي، سقط لينطفئ فيسود الظلام الحالك. * الحركة مع ذلك لم تتوقف. * صهيل حصان ينبعث قريبا، صليل حديد، يملأ الساحة. * الغناء تبدل لحنا وإيقاعا ولفظا... * الخيل. * يهتف أحدهم، فتردد معه مجموعة، الله وحده أعلم بعدد أفرادها... الخيل. * والليل. * والليل، تردد الأصوات. * والبيداء تعرفني. * والرمح والسيف. * والقرطاس والقلم. * والقلم. * تردد الهتافات. * لو أن الإمارة تمنح للشعراء، أيها الشعراء، لكان أبو الطيب المتنبي، أول أمير، فقد سعى إليها بكل جهد وإخلاص، نظم ألف وألف قصيد في التذلل، فلم يصدقه أحد. * من يصدق الشاعر، وأعذب الشعر أكذبه. * ثم إن * الذئب لا يربى * مثلما الشاعر لا يدجن * مثلما أن المرآة لا تعكس إلا وجه ناظرها * مثلما أن الجبة لا تحوي جسدين * مثلما أن العبقرية لا تسعها قنينة، ولا تأتمنها سلطة. * الخيل والليل والبيداء تعرفني والرمح والسيف والقرطاس والقلم * اهتفوا... * سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدم، * كان ذلك الذي يتحدث هو المتنبي بعينه، وكان الخطاب موجها إليه شخصيا. * قهوة ثقيلة ومُرّة الله يخليك * صبت له ولنفسها من الغلاية ذات الذراع الطويلة، قهوتها المفضلة، الفرّارة، كما يطلقون عليها في منطقة الأغواط، والتركية كما تسمى في جهات أخرى، وقد جعلته هو بدوره، لا يشرب غيرها. * جلست جنبه، وراحت، تنتظر، ما قد يبوح به، فهذه عادته، عندما يكون لديه جديد يقوله، أو أمر يستشير فيه. * أكاد أعزم على الاستقالة. * بعد أزيد من نصف عام، لقد قلت لي هذا الكلام عشر المرات على ما أذكر. * ولو بعد سنة، ولو بعد دهر. * قلت إنك بدأت تنسجم مع الشغل..؟ * لكن المسألة أخطر من الشغل، ومن الوظيفة، ومن الانسجام. * وفكر لو يعلمون سرنا يقتلونني بلا رحمة أولاد الكلب. * هناك شخص آخر يتشكل فيَّ، شخص يحل محلي، يستولي على كل طباعي، وأخلاقي وعاداتي وتقاليدي وثقافتي، يمتصها، يضعها جانبا، يلغيها تماما، يقذف بها في القمامة، أو يحرقها، بعد ذلك، يعوضها بأخرى لا صلة لي بها، قابلة، للتغيير في أية لحظة، بما يلائم متطلبات تلكم اللحظة. وأينما كنت يهمس هاتف ما في أذني: * " الراس اللي ما تقصّوش بوسو خير لك". * من الخارج، أنا، لكن، بلباس رسمي، لا أرتضيه، بذلة داكنة، ربطة عنق منسجمة، قميص أبيض أو رمادي، أو أزرق، حذاء ملمع باستمرار... * إنه ذلكم الشخص حضرة المدير، الذي ما أن يدخل المديرية، حتى يقف جميع الموظفين إجلالا وإكبارا، وتبادر السكرتيرة، بوضع صحف اليوم أمام مكتبه، وتغمره بابتسامة شكر، على التكرم بهذا الحضور الميمون، تلف قليلا، هنا وهناك بالمكتب، تتظاهر بأنها تتفقد حسن الترتيب للأشياء، تتظاهر بالخروج، ثم تعود، وكأنها نسيت أمرا لم تعلن عنه، تقدم له لائحة بمن طلبوه في الهاتف في غيابه، ولائحة بمن بكر اليوم، يرجو استقباله. * نفس الهيئة، نفس الحركات، نفس الهمسات، نفس الاستدارات، تتكرر كل يوم، حتى أنه بإمكانها، أن تبقى في بيتها، وينوب عنها، هذا الخيال، الذي غرسته في المكتب. * هناك ما لا يقل عن عشر دقائق، كاملة، مليئة بهذه الصورة، وبهذا العطر وبهذه الابتسامة، وبهذا التذلل المتحفظ، وبهذه المودة الهجينة. * قد يطلبه السيد الكبير في أي وقت، وفي هذه اللحظة، يبرز الشخص الآخر، بصفة تلقائية وآلية، يتحوّل، ومعه المديرية، بكل موظفيها وعمالها وأدواتها، وأوراقها وأقلامها، وغبارها الذي تتفاداه السكرتيرة، إلى شيء، شيء ما، قابل للتكيف. * ينعدم. * يتواجد. * يتغيّر لونه طبقا لملامح السيد الكبير، ولوضع فمه. * في هذه الحال فقط، يدرك، معنى وقوف موظفي مديريته تحية له. * كينونة برمتها تنتفي، وتحل محلها كينونة أخرى.