عندما يقع ميتا أرتمي عليه، أغمره بالقبل وبالدموع، إلى أن يأخذني النوم. لكنه يطاردنا، ويأبى أن يموت. أبي العزيز. * المسألة بيني وبينه. تصفية حساب. * أتمت جملتها الأخيرة بحنق وانفعال، ونهضت واقفة: * - أستسمحك سيدي في الانصراف * - اطلبي لي المنشط زينو نات من فضلك. * - علي، وعلى ذراعي، وعلى رب العالمين. * طمأن زينو نات السيد مدير الثقافة، بعد أن استوعب المهمة، ووافق على أن عودته مؤقتة، وأنه تحت الاختبار إلى أجل غير معلوم. * - تحت رحمتك سيدي المدير. أعمل بدون مقابل. إن شئتم. أقوم بكل ما تأمر به. * استعجل النهوض، كأنما يهرب من بصر السيد المدير المركز عليه. * - اجلس زينو. * - زينو نات. سيدي المدير. * - لم أتعرف عليك بعد. * - بعد كل هذا الوقت؟ بعد كل ما جرى؟ * كتم انفعاله. اعترته قشعريرة باردة... ألم يكفه ما لحق بي..؟ هذا الرجل من أخطر من عرفت. يريد فتح سجل حياة زينو نات الذي محا اسمه من التداول. لم يكفه ما عرف مباشرة، ومن خلال تقارير الأجهزة الأمنية! * هل أفتح له ملفات السجل الثقيل؟ * أقول إنني أفضل التعاطي مع الغلمان على النساء، وأن الذنب ذنب الشعراء والفنانين، أم أقول له، زوجتي الأولى أمطرتني بأربع بنات في دفعتين متقاربتين، فخيرتها بين التوقف عند هذا الحد، وبين دار أبيها. احتفظنا ببعضنا، لكن تزوجت ثانية فكان جزائي ثلاث بنات. * أنا الآن بأربعة بيوت. أربع زوجات. أربعة عشرة بنتا. * اللهم صلي على النبي. * لولا أن الدينار منفوش، والخير مبثوث، مع المكانة الطيبة، وقليل من الحذق، لرمى الإنسان بنفسه في البحر. * أقول له، إن سيدي فلوس ومنذ ما يزيد عن عشر سنوات، ليس سوى زينو نات. * فاجأت ذات ليلة المسطولين صاحبي المقام، وكانا في أوج الودر. عالجت أمرهما بما يستحقان، فكنت من يومها الشيخ سيدي فلوس.. أدخل، أتنكر بالمساحيق وباللحية. * أبدو كل يوم في هيأة غير هيأة الأمس، مرة بلحية سوداء، ومرة أخرى بلحية حمراء أو صفراء. كما أغير لباسي، فأظهر تارة بجبة عادية، وتارة بجبة عليها خرق ملونة، كما قد أظهر بلباس عصري أنيق، على رأسي طربوش أوروبي. * هل أتجرأ فأخبره، مثلا، مثلا.. بأنني أسير مع إطارات من الأمن دور لهو، بعضها في الحي القصديري، وبعضها في الحي الراقي؟" * هل أقول لهذا الأحمر إن لزينو نات في معظم بلديات الولاية عصا أو أكثر من الأغنام1. * - سيدي المدير.. زينو نات، صورة عن الشعب.. والأفضل أن "يبقى البير بغطاه" * قال زينو، إثر تنهيدة عميقة. فتمتم السيد المدير: * " الشعب أم سلطته.. نحن."؟ * هاجت الولاية وماجت، من أقصاها لأقصاها، بكل من فيها، من عباد وما فيها من هيئات ومؤسسات. * مديرية الثقافة تحولت إلى غرفة عمليات في هيئة أركان عامة، يقود من خلالها زينو نات بمساعدة بحراوية، معركة التحضير للحدث العظيم، بكل حنكة وبكل صرامة، لا يكتفيان بالاتصال الهاتفي وإبلاغ كل المسؤولين من شيخ البلدية إلى الأمين العام إلى السكرتيرات، ولا بالفاكسات والتليكسات، كما لم يكتفيا بالبرقية التي وجهها الأمين العام باسم السيد الكبير لجميع رؤساء الدوائر. * قال زينو نات، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، البيروقراطية، اكتويت بها أكثر من مرة، ثم إن البرقية، كشأن كل البرقيات جافة، لا تتضمن أي تفصيل. * "ما حك جلدك سوى ظفرك" قالها الأولون. * - أنا زينو نات.. نعم عدت.. الواجب يحتم.. هل وصلتكم برقية السيد الكبير.. رائع، إنما هناك بعض تفاصيل لم ترد. كالعادة. نعم كالعادة، ما لديكم من راقصات، ما عندكم من فرسان، ثم لا تنسوا الخراف. عشرة. نعم عشرة، مع نصف قنطار من الكسكسي، وما يلزمه من السمن.. عندكم فاكس؟ جيد. ستوافيكم بحراوية بكل هذه المعلومات، وإننا لواثقون من قدراتكم وحسن استعدادكم. * السيد مدير الثقافة يبلغكم تحياته. * في المدينة، كما في كل قرى ومدن الولاية، أشغال الدهن جارية، وقد تولاها ما يزيد عن خمسمائة مقاولة أنشأها السيد مدير الأشغال العمومة بضمان وكفالة أكبر تجار الولاية، تشغل ما يزيد عن ألف وخمسمائة شاب. * شاحنات ضخمة، تزأر، مقبلة مدبرة، داخلة خارجة، تثير الغبار وتلفظ الدخان. * بعضها محمل بالدهن الأبيض، بعضها، بالأزرق، بعضها، بهما معا. بعضها بأدوات الدهن. * الأطفال يملئون الساحات هاتفين بمختلف الهتافات، منها ما يتعلق بالماء، ومنها ما يتعلق بالبحر وبالسباحة وصيد السمك، وقد سُمع مقطع لمحمود درويش يتحدث عن البر والبحر. * وقف أحدهم عند ناصية الساحة يهتف بكل ما في صدره من قوة: * من لا بر له لا بحر له. * تبعوه، حتى انصرف متسللا، ليظلوا وحدهم، يهتفون، مرة يسبقون البحر، ومرة يسبقون البر. * لقد بلغ الفرح والهيجان بهم، أن انبطح بعضهم متمرغين في التراب، يضربون بأذرعهم وأرجلهم، كأنما يسبحون. * يصرخ أحدهم شاكيا من برودة الماء: * - ثلج يا إخوتي، والله ثلج. * - كذاب. * - ادخل وسترى. * - دبر على نانّاك. * تنشب معركة كلامية، سرعان ما تنطفئ، ليحل محلها من جديد، التعبير عن الحبور. * الكبار، ملأوا المقاهي والأرصفة، يتهامسون، متسائلين عن الحدث وطبيعته والمغزى منه، وما استتر من خلفياته، وعن الفوائد التي ستعود على هذا المدير أو ذاك، فكانت همساتهم وتساؤلاتهم وتعاليقهم الجادة والساخرة تتناثر لتملأ كل فضاء الولاية الرحب: * - ... يا أخي، يجعل قال على من قال، والداري ربي سبحانه. * - الحنفيات لا تدر علينا إلا ساعة واحدة في الأسبوع، وكثيرا ما تنسانا... وهم. * - ... هذه التحضيرات كلها، دهن، وحفر، والله أعلم ماذا أيضا مما لا نراه، لم نعتدها.. ربما السيد الأكبر هو الزائر، وقد يعلنون عن ذلك في آخر لحظة. * وقف كهل أسمر، تبلغ لحيته ركبتيه عليه لباس غريب لم تعتده المنطقة، وهتف ساخرا: * "ما يخص القرد غير الورد"... هاهأها. * ضحك الجميع، مصدقين بإيماءات عفوية تلقائية. * "راسو في الطين وهو يقول اقّين1"... * تواصل الضحك، بينما هدد الرجل الغريب بحركة جر الخنجر على الرقبة: * "الموت في عانتو وهو يحرك في زنانتو". * - ... من أين خرج هذا الرجل؟ * - ... الداري ربي. أمور كثيرة تحصل هذه الأيام. دعنا منه. * - ... يقولون، إنهم سينشئون بحرا عندنا. * - ... بحر! * - ... * - ... بحر. نعم بحر يبثون تحت الأرض قنوات مثل تلك التي يستعملونها للبترول والغاز تجلب الماء من بحر تونس. * - ... أغنامنا وعنزاتنا؟ هل نعلفها السردين؟ * - "إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد". * - ... ربما بحر صغير يجرون فيه بعض التجارب العلمية، حسبما بلغني فإن هذا المشروع أعده الفرنسيون ولم يسعفهم الوقت لإنجازه، وقد تولاه الأمريكان ثم تخلوا عنه خوفا على البترول، وهو الآن بين أيدي الصينيين. * - إن شاء الله يكون ماء بحرنا صالحا للشرب. * ... يقال والعالم ربي، إن عشرة ملايين صيني، بمعاولهم وحفاراتهم وخيامهم في طريقهم إلينا.