قليل منا سمع أو حضر مشهد فراق عزيز عليه وهو يتفوّه بآخر كلام يربطه بالدنيا، وقليل منا رافق مريضا وهو يُودّع أحباءه ويذكر تفاصيل ذلك، وفي العادة يكون من شهد ذلك يذكر والده أو والدته أو ابنه وابنته أو قريبا له، ولكن نادرا ما يحدث أن تكون آخر اللحظات مع أطفال لم يبلغوا سن الحلم أصيبوا بأنواع من مرض السرطان القاتل وهم يودّعون الدنيا ولا يدرون، ألزموا البقاء لأيام وشهور على سرير المرض في مشافي ما تزال تحفظ ذكراهم. * "الشروق اليومي" حاولت نقل تلك الذكريات واللحظات الحزينة لعيّنة منهم مثل الصغيرة صبرينال ورابح وكريمة وآية، وما الذي قالوه وفعلوه في آخر لحظة حياة. * طلبت الصغيرة صبرينال (حينما توفيت كانت عمرها 3 سنوات ونصف) من والدتها بعد 03 أيام وهي في صمت وبكم قائلة لها حين حضرت بين يديها "أمي الحنونة احبك إلى درجة الموت لأجلك، رجاء لا تبكي" وسألتها في كلام قصير"أين الحِنّاء التي طلبت منك وضعها في يديّ" قالتها وهي تضمّها بشدة الضعيف الهزيل ورأسها الصغير تدلىّ مُرتخيا على صدرها ثم كلّمت والدها بالهاتف وأخبرته بالحضور فورًا ولم تترك له زمنا لسؤالها أو يتحدّث إليها سوى أنه قادم مسرعًا في الحين، ولما وصل كان السكون قد زارها مرة أخرى وسكتت ولم تستطع الكلام سوى حركات متباطئة أرسلتها إليه فرحة بقدومه، وضع يده على رأسها وهو يتلمّس كلّ شبر منها وقال لها "هل تريدين أن أقرأ لك بعضا من القرآن" فأومأت إيجابا بحبيبتيها وفهم الوالد وراح يقرأ حتى هدأت وأطبقت جفنيها لتنام وتستريح وظن الجميع أن غفوة المرض أخذتها وكان الوقت عصرًا، وانصرف الوالد إلى مشغله تاركا زوجته بالقرب من سرير صبرينال بمستشفى بوفاريك تتفحّصها ولكن لم تمض إلا لحظات حتى عاد وقد غادرت إلى غير رجعة ووضعت داخل قبر ويداها كما طلبت مصبوغتان بالحِناء. * * رابح كان يحلم بزيارة البحر ولكن الموت خطفه... * أما رابح صاحب ال 10 سنوات فمنعه مرضه من اجتياز الصفّ السادس وبقي في سفر دائم بين مسكنه والطبيب لأجل العلاج الميؤوس منه، ولكن هذه المرة فضّل طبيبه بمركز مكافحة السرطان بالبليدة أن يأخذه أهله إلى الدار ويمضي بقية أيامه وسط أهله في كوخه القصديري، وهو في طريق العودة برفقة والديه مرّ بهم موكب عروس فابتسم رابح وقالت له والدته هذا فأل خير سنقيم لك فرحا كبيرا، وزاد رابح في الابتسام، وفي صبيحة اليوم الموالي وقبل أن يُرفع أذان الفجر ويصيح الديك أفاق الصغير الذي طالما كان يحلم بالذهاب إلى البحر رفقة صاحبه الوفي عثمان وأفاق معه والده وقال له وصوته ينخفض "لا تبكي يا أبي سوف أترككم أريد قليلا من الماء" (كان والده يعامله مثل صاحب له) شرب ما استطاع واستلقى ونهض من كان بالكوخ -الغرفة وودّعهم واحدا تلو الآخر ورفع رأسه في وجه والدته وكأنه ينظر إليها لأول مرة وقال لها "سامحيني يا أمي كنت شاقا عليك" ورفع يده اليمنى في فضاء رطب وتلى الشهادة وسكن مع رجفات أخذته وهزت جسما نحيلا من غير رجعة وغادر بعيدا دون أن يُحقق حلم زيارة البحر. * صادف يوم رحيلها عيد ميلاد الراحلة صبرينال... * أما كريمة فكانت في ربيعها ال 12 حيوية للغاية ومرحة إلى درجة أن الجميع بمستشفى بني مسوس تعلقوا بها وأحبوها وكانت في ذروة الفقر، ولم تكن نهايتها بالرغم من مرحها مفرحة بالكامل، إذ بقيت 19 يوما وهي تتألم وفقدت صوتها وامتنعت عن الكلام دون قصد منها وكان الجميع من أهلها وأحبائها يجتهدون في البحث لها عن دواء باهض الثمن (قيمة العلبة الواحدة تجاوزت ال 50 مليون سنتيم يتم تناولها لمدة شهر فقط)، وصادف يوم رحيلها عيد ميلاد حبيبتها الصغيرة صبرينال التي لحقتها هي الأخرى، وكانت آخر ما نطقت به تأوّه شديد تركها تتلوّى من شدة ألم المرض الذي لم يحتمله جسمها الصغير مقاومته، ورغم ذلك طلبت في موافقة منها أن يقرأ لها والد صبرينال قليلا من القرآن الكريم، لتسكن وتخلد في نوم عميق لم تستيقظ من بعده أبدا. * * سافرت آية من دون مرافقة والدتها إلى قبرها بورڤلة * كانت آية في غاية الجمال، حُلوة وهي في ال 06 من عمرها حيوية جدا أكثر من كريمة، زادت في سعادة أقرانها من الأطفال المرضى بالسرطان (كانت تنتظر دورها لزراعة النخاع) ولكن مرحها انطفأ مرة واحدة وفقدت الكلام والسمع والبصر، وزاد إلى كل ذلك رفضها تناول الطعام وبدا جسدها يتغير وانتفخ وجهها وكذلك بطنها وعاشت أياما وهي تُصدر أنّات شديدة، واستمرّ حالها يسوء لمدة قاربت الشهرين إلى أن حانت ساعة رحيلها وغابت في سكوت، ولم تسمع منها والدتها أي كلمة على عكس سابقيها، ولأن عنوانها يقع بمدينة ورڤلة وأهلها من فقراء الجزائر والوقت قصير فقد جمع أهل المرضى دنانير معدودات لسفريتها عبر الطائرة ولكن من دون مرافقة والديها اللذين لحقا بها في حافلة نقل للمسافرين ولم يتمكنا من حضور دفن آية الجميلة.