في مسرحية "الأجواد" للمسرحي الشهيد عبد القادر علولة، يوجد مقطع معبر وعميق وجميل يعكس بالفعل جزءا من سيكولوجية الإنسان الجزائري والعربي، سيكولوجية الغضب غير المجدي وغير الفاعل وغير الفعال. * يقول علولة في لوحة "جلول الفهايمي": * "جلول الفهايمي.. دقيق في السيرة ذكي في الخطة، ولكن فيه ضعف، عصبي، يتقلق، تتغلب عليه النرفزة يزعف ويخسرها". * وجلول الفهايمي عند علولة هو صورة لحالنا، إذ أننا نبدو أمام العالم أمة رأسمالها الغضب والسب والتكسير دون معالجة الأمور بعقل جاد و هادئ ، لست أدري لماذا كلما أردت أن أستجمع ملامح صورة الإنسان العربي، يبدو لي دائما ذاك الغاضب، الهائج والمتهيج. * أفكر في حالنا هذه وأنا أتتبع بعض النقاشات التي تدور هذه الأيام في أوساط "جامعية"، أي بين النخب العالمة، أو هكذا يفترض أن تكون. والنقاش ذاته يدور أيضا في سوق "العامة" أو الغوغاء على حد قول أبي حيان التوحيدي. وأول ملاحظة يخرج بها القارئ لهذه النقاشات والسجالات تتجلى في تشابه "الخطاب" لدى الفئتين إما في مفرداته الأساسية أي مفاهيمه، أو في مقصديته السوسيولوجية والابستمية. حين يختلط علينا خطاب العامة بخطاب الخاصة فتلك علامات الأزمة والانسداد في مجتمع المعرفة، فلا العامة عامة ولا الخاصة خاصة. قديما حين كانت الخطابات بين الفئتين متباعدة ومختلفة ومتمايزة كانت العامة حين تستمع إلى خطاب الخاصة فيتعسر عليها فهمه، تحترمه في علوه وتقدره كبير تقدير، يزداد كلما صعب الفهم وألغزت المعنى، وأمام ذلك نسمع العامة تردد في كلامها العبارة التالية: "والله هذا عالم كبير شأنه، وعظيم علمه، إذ أنه يصعب فهمه..". * كانت الغوغاء تحترم العالم حين يتكلم، فلا تفهم لأنها تدرك بأن موقع العامة ليس هو موقع الخاصة في اللغة والفهوم والمعنى. أما اليوم فالجميع يتكلم مثل الجميع والجميع يكرر نفس الخطاب المسروق من الأنترنيت أو القنوات التلفزية، لا إبداع ولا استماع. * أجيء على هذا الحديث، وأنا أتابع بعض النقاش المتخوف والمتوجس حول تعليم اللغة العبرية في جامعاتنا. لقد اندلع هذا السجال الغاضب المتشنج عقب قرار اتخذته إدارة جامعة قسنطينة الإسلامية الأمير عبد القادر، قرار يقضي بتدريس اللغة العبرية لطلبة الدراسات العليا وطلبة الأديان المقارنة. * إني أرى أن العد لا يدرك بشكل جيد ولا يقرأ القراءة المطلوبة الشاملة إلا بلغته وفي لغته، انطلاقا من ذلك فممانعة العلماء أي النخب ومقاومتهم بالعلم والمعرفة تتطلب التمكن من أسلحة العدو وتأتي اللغة على رأس ذلك. أتعجب كيف يمكن لدول عربية أو إسلامية تدعي أنها متخندقة في صف المقاطعة، مقاطعة إسرائيل ولا تعرف نخبها لغة هذه الإسرائيل؟ أتعجب من فقهاء ورجال دين إسلاميين يريدون أن يوصلوا صوت الإسلام ورسالته الحضارية ولا يعرفون لغة الكتب السماوية الأخرى. علينا أن نعرف بأن هذه اللغة، أعني اللغة العبرية، التي كانت قبل نصف قرن لغة ميتة قد رمم ذووها عظامها وبعثوا فيها الروح و ذلك بالبحث والإبداع والترجمة وكذا بالتعامل بها في حياتهم اليومية والإدارية والسياسية، والشخصية القوية عندهم هي تلك التي لا تخجل ولا تتردد في التعامل بهذه اللغة. * انطلاقا مما يحيط بنا من حصار وما نعيشه من تخلف، يربطه البعض الآن في الغرب المصاب بالإسلاموفوبيا والعربفوبيا، نظرا لما يلحق بالإسلام وبالعرب من تشويه وتحريف يأتيه من كل جهة، وفي المقام الأول من أبناء هذه الديانة ومن المنتمين إلى هذه القومية، أمام ذلك إن تعليم العبرية للنخب السياسية و العلمية والأمنية جزء أساسي من عملية المقاومة الرصينة والعميقة الدينية والأيديولوجية والسياسية والعلمية، مقاومة هادئة مؤسسة على نبذ أمراض الغضب والزبد التي أصبحت ظاهرة تتميز بها نخبنا العربية. * كيف يمكننا تأسيس مقاطعة صلبة وممانعة حقة دون معرفة كتابات العدو؟ كيف يمكننا حماية أمننا الوطني والقومي في وقت لا نجد فيه في كل العالم العربي مائة عارف حقيقي بلغة أكبر عدو يحاصرنا و "يمرمد" شرف هذه الأمة؟ أتعجب كيف يمكننا خلق مقاومة أمنية أو دبلوماسية دون أن يكون لنا متخصصون في لغة عدونا؟ أما قال الرسول »ص«: "من تعلم لغة قوم أمن شرهم" * إن أمراض الغضب والزبد في مجتمع المعرفة هي التي تخلط خطاب السوقة بخطاب الفهماء، وهي التي تفرخ أسراب النخب الانتهازية والشعبوية الحاجبة للحقيقية التاريخية والمشوهة للرؤية لدى العامة والخاصة على السواء. * في السنوات الأولى لاستقلالنا وفي بهجة الفرح الكبير ضاع منا الكثير، في ما يحفظ ذاكرتنا ويكشف كثيرا من أسرار عدونا. حدثني بعض الذين شاهدوا بأم أعينهم كيف أن الوهرانيين من الشعب البسيط صادق الفرحة والإحساس، كيف أنهم مأخوذون بغمرة أفراح الاستقلال في أيامه الأولى، اقتحموا الكنيس اليهودي أي السيناغوغ في وهران وهو واحد من أكبر المعابد اليهودية في إفريقيا والذي يقال بأن الحجر الذي بني به جيء به من القدس الشريف، اقتحموا هذا المعبد و أخرجوا كل ما كان في مكتبته الكبيرة من مخطوطات وكتب وثائق وأحرقوها ومزقوها ورموا بها في الشوارع المحيطة بالكنيس، حتى امتلأت أوراقا. أما كان حري بنخبنا في تلك المرحلة أن تحافظ على مثل هذه المكتبة التي دون شك كانت ستكون طريقا لاكتشاف جزء من وجه عدونا وفي الوقت نفسه جزء من تاريخنا وتاريخ شمال إفريقيا. بعد عشرين سنة من استقلال الجزائر، أي في سنة 1982، حين اجتاحت إسرائيل بيروت أول ما قامت به موازاة مع مجازر صبرا وشتيلا، استولت على مركز الدراسات والبحوث الفلسطينية وتم ترحيل أرصدته كاملة من الوثائق والكتب إلى داخل إسرائيل. علينا أن نتعلم من عدونا قبل الصديق، ربما. * وفي قسنطينةالمدينة التي كانت تضم أكبر طائفة يهودية في الجزائر، حين سكنت بعض الأسر القسنطينية أو بعض تلك التي نزلت من الضواحي منازل أسر يهودية معروفة بالثقافة و العلم والبحث والتي غادرت الجزائر خوفا من اليد الحمراء، أو من الثورة الجزائرية نظرا لمواقفها المساندة للاستعمار، وجدت هذه الأسر الجزائرية في بعض هذه البيوت مكتبات عائلية معتبرة كانت تحتوي على مخطوطات وكتب ووثائق هامة، إلا أن هذه الأسر بادرت إلى حرق ورمي محتويات هذه الخزانات بمجرد استقرارها في هذه المنازل، إذ كان البعض يعتقد بأنه حرام على المسلم أن يقيم في بيت به كتاب مكتوب بالعبرية. وأذكر هنا كيف أن اليهود أنفسهم في مرحلة من التاريخ، حين شعروا بضعف لغتهم استعملوا العربية للحفاظ على ديانتهم. * أدعو النخب الجزائرية إلى قراءة كتاب أثار ضجة فكرية كبيرة، وحرك كثيرا من المتطرفين اليهود ضد كاتبه، وأما الكتاب فهو عرب لغة يهود دينا، لهنري بريسك منشورات بوشان باريس 2001 (Arabes de langue, juifs de religion) Henri Bresc Paris 2001 ، و في هذا الكتاب ندرك ذكاء النخب اليهودية التي لم تتردد في استثمار اللغة العربية لحماية ذاكرتها الدينية والحفاظ على تراثها. وحتى الآن لا يزال الألسنيون العبرانيون يمارسون تطوير لغتهم من خلال التوليد والنحت والاشتقاق من اللغة العربية، فهناك قرصنة لغوية واضحة تمارسها اللغة العبرية على اللغة العربية. تخيلوا معي لو أن كل تلك الوثائق والمخطوطات والكتب التي كانت بحوزة المؤسسات الدينية والعائلات اليهودية والتي تم إتلافها، لو أننا تمكنا من الحفاظ عليها ماذا كان سيكون مجتمع المعرفة التاريخية عندنا: كنا دون شك استطعنا اكتشاف جزء من صفحات تاريخ بلادنا العريق واكتشفنا من خلال ذلك أيضا المؤامرات التي كانت تحاك ضد ثورتنا، وكنا قد عرفنا أيضا كثيرا من طوبوغرافيا مدننا، وكنا قد عرفنا جزءا من دفتر ثقافة هذا البلد خاصة ما يتصل مثلا بالموسيقى الأندلسية، إذ في تصوري، يستحيل دراسة تاريخ الموسيقى الأندلسية بطبوعها في تلمسانوقسنطينة والعاصمة ووهران وغيرها في غياب معرفة دور اليهود الجزائريين فيها. * أعود وأقول و قد تأخرنا كثيرا، علينا أن نتعلم لغة عدونا، ولا يوجد أمن قومي دون معرفة عقل هذا العدو، لذا فإن دراسة اللغات وتعليمها والحرص على تأسيس نخبة وطنية، أن تعرف لغات الآخر بما فيها العبرية مسألة إستراتيجية لمواجهة الآخر و حماية الأنا من استعمار جديد يزحف علينا من كل الجهات وبكل الألوان. * إذا كانت النخب الجادة في مجتمع المعرفة عندنا معرضة لطابو محرم اسمه "الحديث عن اليهود"، إذ يكال لكل من يتحدث عن ذلك كل أنواع التهم من تخوين وتهويد وغيرها ، وهذا نتاج هيمنة تقاليد ثقافة الغضب والزبد التي يختلط فيها خطاب السوقة بخطاب النخب الشعبوية المنافقة والانتهازية، فإذا كان هذا هو حال نخبنا الجادة من طابو الحديث عن اليهود، فإن أمام نخب الغرب أيضا لم يبق أي طابو سوى طابو اليهود، فهناك أيضا يمنع على المثقف أن يهاجم أو ينتقد اليهود، وكل من قام بذلك تلصق به تهمة "معاداة السامية"، لقد أسقطت النخب الأوروبية والأمريكية كل الطابوهات إلا طابو اليهودي فقد ظل قائما، يهدد كل من تخول له نفسه اختراقه، وهذا هو العطب الذي تعاني منه حرية النخب الأوروبية الراهنة. فهل حتى في هذا الأمر، يتشبه المغلوب بالغالب، على حد قول ابن خلدون..!؟.