لا تزال مظاهر تواصل الجزائر مع مصر خلال فترة الاحتلال، مجهولة لدى الرأي العام، الذي صار يختزل العلاقة بين البلدين في دعم مصر لثورتنا فقط(!) علما أن الواقع التاريخي أعمق من ذلك، فقد كانت لنهضتنا الإصلاحية، وحركتنا الوطنية مواقف سياسية قومية، عبّر الجزائريون من خلالها عن مساندة الجزائر لثورة يوليو المصرية (1952)، وما نجم عنها من ضغط غربي، تجلى بصفة خاصة في قضية قناة السويس،التي رفضت بريطانيا التخلي عنها. وقد اخترتُ كنموذج لهذا الموضوع جريدة المنار المستقلة، التي أسسها المثقف الكبير محمود بوزوزو في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي ( مارس 1951 - جانفي1954م ) صدر منها 51 عددا في المجموع . * * من هو محمود بوزوزو؟ * يعتبر محمود بوزوزو (1918 - 2007) أحد الأعلام البارزة في النشاط الإصلاحي الهادف إلى صيانة الهوية الوطنية ومكوناتها الثقافية، وفي نشر الفكر السياسي التحرري بلسانه وقلمه، بمنأى عن التحزب، كما كان أحد القادة البارزين للحركة الكشفية في الجزائر. محمود بوزوزو هو ذلك الشاب الذي قال له عبد الحميد بن باديس في قسنطينة: (أتمم دراستك، وبعد ذلك كن مسلما)، كما قال له الشيخ العربي التبسي ذات يوم: »إن مثلك مكانه عندنا« فلبّى رغبته، ورحّب به رئيس جمعية العلماء الشيخ البشير الإبراهيمي، فانخرط في سلك المصححين والمحررين في جريدة البصائر . * ونجح محمود بوزوزو في لمّ شمل علماء الإصلاح، ومناضلي الحركة الوطنية، للكتابة في جريدته »المنار« لبثّ الفكر النهضوي الإصلاحي، ولنشر الفكر السياسي التحرري. ولعل أهم قضية استقطبت أقلام هؤلاء، قضية الاستفتاء حول ضرورة اتحاد الجزائريين بمختلف أطيافهم السياسية، وتجاوز الخلافات مادام أمر توحيد الجهود ضرورة ملحة لتحقيق آمال الجزائريين في التحرر من نير الاستعمار. وبعد الاستقلال استقر به المقام في سويسرا أين أوقف جهوده العلمية للمشروع الإسلامي، كبديل حضاري يحقق السلم والاستقرار للإنسانية جمعاء، ولتدريس اللغة العربية. وقد بذل في خريف عمره جهودا جبارة من أجل إعادة مكتبته الخاصة الغنية إلى وطنه الجزائر، لكن جهوده ذهبت أدراج الرياح، بسبب تقصير الطرف الممثل للجزائر. وكانت آخر أمنية له أن أوصى بدفن جثمانه في مسقط رأسه (بجاية)، وحقق له أبناؤه هذه الأمنية حين وفاته في يوم 27 سبتمبر2007م ( 1 ). * * قضية قناة السويس * كتب محمود بوزوزو في شهر أكتوبر سنة 1951م، مقالا حول مشكلة قناة السويس بعنوان: »بريطانيا ومصر(2)« ذكر فيه أن بريطانيا قد شرعت في تطبيق سياسة عقلانية بعد الحرب العالمية الثانية، جعلتها تعترف باستقلال كثير من مستعمراتها في قارة آسيا، وعليه كان من المنتظر أن تسلك السياسة نفسها إزاء قضية قناة السويس، وقال في هذا السياق : * "... وهاهي قضية قناة السويس بدورها تختبر من جديد حكمة بريطانيا الدبلوماسية وتدبيرها السياسي. فإن المعهود في السياسة البريطانية هو البعد عن الطيش والحمق وعن ارتجال الحلول وعدم التأثر بعاطفة عنصرية أو دينية تزيغ بها الأبصار والبصائر. وكان يُتوقع من بريطانيا أن تستمر في سلوكها السياسي الجديد الذي شرعت فيه بعد الحرب العالمية الثانية، فحفظ لها صداقة الهند وباكستان وبرمانيا، وخفف كثيرا من الأحقاد، وإن أثار سخط الاستعمار الفرنسي بوجه خاص ... «. * ثم أشار الكاتب إلى التغييرات العميقة التي طرأت على السياسة الدولية، والمتمثلة في الجنوح إلى حل الخلافات السياسية حلاًّ سلميا، يبعد شبح الحرب المدمرة عن الإنسانية، لكنه تأسف لسياسة الكيل بمكيالين التي لم تنصف مصر الشقيقة، حين سعت بريطانيا إلى تدويل قناة السويس، وقال في هذا المجال : * »... وكان المتوقع من بريطانيا إيثار هذه الحلول في نزاعها مع مصر نظرا للسوابق التي بدرت منها نحو الأمم الأسيوية سالفة الذكر، ولكنها لجأت إلى حل كان يتوقع رفضه من طرف مصر، التي لا يتصور أن تتحمل استعمار دول عديدة، في حين أنها قلقة من تسلط دولة واحدة عليها. ثم لجأت بريطانيا إلى التهديد بالقوة، بل وقع إطلاق النار من جنودها على جنود مصريين فكان جرح وقتل واعتقال من دون إعلان حرب ولا إنذار «. * وبعدها تساءل الكاتب عن طبيعة هذا الموقف البريطاني المتعنّت، الذي لا ينسجم مع سياسة الانفراج البارزة بعد الحرب العالمية الثانية، فهل هو مجرد ردة فعل منها للحفاظ على ماء وجه، أم موقف حربي صريح؟ ثم نبّه الكاتب إلى الدعم القوي الذي تحظى به مصر في العالم العربي، وعليه فلن تكون لقمة سائغة لبريطانيا في حال اختيارها لخيار الحرب، وقال في هذا السياق: »لئن كان فإن بجانب مصر ملايين من العرب والمسلمين لمؤازرتها. وهل يترددون في الاستعانة بمن يؤيدهم أيّا كانت صبغته، ولو كانت شديدة الحمرة«. * * تضامن الجزائر مع مصر سنة 1951م * نشرت جريدة المنار مقالا بعنوان »الطلبة الجزائريون في مصر يوم الشهداء(3)« بتوقيع قاسم الجزائري، تمحور حول مشاركة الطلبة الجزائريين المقيمين في مصر، في المظاهرة الصاخبة المنظمة يوم 14 نوفمبر 1951م، للتنديد بالسياسة الاستعمارية البريطانية. واللافت للانتباه، أن المنظمين قد خصصوا مربعا للطلبة الجزائريين،الذين رفعوا العلم الجزائري، وأعدّوا لافتة كبيرة خاصة بهم. واخترت من هذا المقال الفقرة التالية: »... وجاء يوم 14 فاجتمع الطلبة في الصباح الباكر، وجعلوا يكملون آخر التنظيمات لمظاهرتهم، ثم قصدوا إلى ميدان الخديوي إسماعيل مصطفين يرفرف أمامهم علم الجزائر وشقيقه علم مصر، وتعلوهم لافتاتهم الفخمة التي يربو طول كل منها على ستة أمتار. وأخذ الطلبة الجزائريون المكان المعد لهم في شارع إسماعيل، وبقوا ينظرون في انتظار إلى أن آن وقت تحرك المظاهرة، وبدأ الموكب الصامت الرهيب يسير وقد مثلت فيه كل هيئة وكل منظمة للشعوب العربية والإسلامية، ومثلت فيه الجزائر المكافحة أروع تمثيل. فقد سار أبناء الجزائر صامتين خاشعين واسم الجزائر على اللافتة فوق رؤوسهم يجلب الأنظار، فتنفرج شفاه بلفظ (الجزائر) وتنشرح الصدور لتأييدها، وتعجب العيون بهؤلاء الشبان الجزائريين، وقد مشوا في انتظام تحت لافتاتهم الفصيحة الصريحة، وقفتهم صادقة، وشعورهم وطني نبيل « . * * ذكرى ثورة يوليو * احتفلت جريدة المنار بالذكرى الأولى لثورة يوليو 1952م، فنشرت مقالا موقع باسم "الحارث" يوم 10 جويلية سنة 1953م، أشار فيه صاحبه إلى مثالب النظام الملكي المتعفّن أيام الملك فاروق، وإلى الآمال العريضة التي كانت تعلقها الجماهير على النظام الجمهوري الديمقراطي، واخترت منه الفقرة التالية: »من يوم 23 يوليو 1952 أي اليوم الذي ابتدأ فيه العهد الجديد في مصر، وانطلقت الشرارة الأولى من الثورة، والناس واقفون موقف المتتبع لخطوات هذه الحركة الجديدة. فبين متفائل متيقّن بالنصر النهائي لهذه الثورة، وبين مرتاب متشكك في قدرة هذه القوة على اجتياز جميع العقبات . * ومن الأماني الغالية التي ظنّها الناس عزيزة، إزالة شبح فاروق الشخص المتهتك الخليع، الذي داس على شرف شعب بكل ما أوتي من قوة وشهوانية. واختفى فاروق في اليوم الأول للثورة، وحمد الناس من أعماق قلوبهم للثورة هذه اليد البيضاء التي لا تنسى، ولكن رجال الثورة ينظرون الى أبعد من هذا. ولكنهم يقدرون عامل الزمن، وعامل الظروف، هم ينظرون إلى نظام الحكم وما الشخص إلا شيء ثانوي. فمادام نظام الحكم وهو الملكية في مصر قائما فمن الجائز أن يخلق هذا النظام شخصا كفاروق، بل وربما أنكى وأدهى، فالعلة في نظام الحكم لا في الحاكم". * * الخاتمة * تعد هذه النصوص مجرد عينة قدمناها كمثال على مساندة الشعب الجزائري للشعب المصري الشقيق، حين كان يرزح تحت نير الاستعمار البريطاني، ولايزال منها الكثير مدفونا في ثنايا أعداد جريدة المنار وغيرها من الجرائد والمجلات الجزائرية. وما من شك أنه آن الأوان لنفض الغبار عن تراثنا الفكري، والتفكير في إدراج نماذج منه في البرامج التعليمية، ليدرك الأقارب والأباعد أن العقل الجزائري لم يكن عاقرا حتى في أحلك ظروف الاستدمار الفرنسي، كما أنه لم يقصّر في دعم الإخوة العرب وقت الشدة. ومن شأن نشر هذا التراث أيضا أن يصبح بمثابة صمام الأمان، يحول دون تطاول الآخرين علينا مثلما فعلت زمرة آل حسني مبارك المستبدة، الساعية إلى تمرير مشروع » الجمهورية الوراثية " على حساب شرف الجزائر وكرامتها . * * الهوامش * 1 - أنظر للتوسع مقالنا المنشور في جريدة الشروق، العدد : 2175، بتاريخ 16 ديسمبر 2007 . * 2 - السنة الأولى، العدد : 10، بتاريخ 22 أكتوبر 1951 . * 3 - السنة الأولى، العدد : 11، بتاريخ 8 ديسمبر 1951 .